«مايكروسوفت» تبتكر «حالة جديدة من المادة» لتشغيل الكمبيوتر الكمومي

تسهل تصميمه خلال سنوات بدلاً من عقود

الشرائح الإلكترونية الحاوية على «كيوبتات طوبولوجية»
الشرائح الإلكترونية الحاوية على «كيوبتات طوبولوجية»
TT

«مايكروسوفت» تبتكر «حالة جديدة من المادة» لتشغيل الكمبيوتر الكمومي

الشرائح الإلكترونية الحاوية على «كيوبتات طوبولوجية»
الشرائح الإلكترونية الحاوية على «كيوبتات طوبولوجية»

إن أي شخص حضر فصل العلوم في الصف الثالث يعرف أن هناك ثلاث حالات أساسية للمادة: الصلبة والسائلة والغازية.

الشرائح الإلكترونية الحاوية على «كيوبتات طوبولوجية»

أساسيات صنع الكومبيوتر الكمومي

غير أن شركة مايكروسوفت تقول الآن إنها خلقت حالة جديدة للمادة في سعيها لصنع الكمبيوتر الكمومي، آلة الحوسبة العملاقة، التي يمكن أن تسرع من تطوير كل شيء من البطاريات إلى الأدوية إلى الذكاء الاصطناعي.

وأعلن علماء «مايكروسوفت» يوم امس الأربعاء، إنهم بنوا ما يعرف باسم «كيوبت طوبولوجي» (topological qubit) الذي يمكن تسخيره لحل المشاكل الرياضية والعلمية والتكنولوجية.

ومع هذا التطور، ترفع «مايكروسوفت» الرهان في المجال الذي يعتقد أنه سيكون السباق التكنولوجي الأكبر القادم، إلى ما هو أبعد من سباق اليوم على الذكاء الاصطناعي.أذ طارد العلماء حلم تصميم الكومبيوتر الكمومي - وهو الجهاز الذي يمكنه استغلال السلوك الغريب والقوي للغاية للجسيمات دون الذرية الدقيقة أو الأجسام الباردة للغاية - منذ ثمانينيات القرن العشرين.

التنافس مع «غوغل»

وقد اشتدت الضغوط في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عندما كشفت «غوغل» عن كمبيوتر كمومي تجريبي يحتاج إلى خمس دقائق فقط لإكمال حساب لا تستطيع معظم أجهزة الكمبيوتر العملاقة إنهاؤه في عشرة سبتلييون (10 أس 24) سنة - أي فترة أطول من عمر الكون المعروف.

وقد تتفوق تكنولوجيا الكم من «مايكروسوفت» على الأساليب قيد التطوير في «غوغل». وكجزء من بحثها، قامت الشركة ببناء كيوبتات طوبولوجية متعددة داخل نوع جديد من شرائح الكمبيوتر التي تجمع بين نقاط قوة أشباه الموصلات التي تعمل على تشغيل أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية مع الموصلات الفائقة التي تستخدم عادة لبناء كمبيوتر كمومي.

«الكيُوبِت أو بِت كمومي (qubit أو qbit) في الحوسبة الكمومية - وحدة المعلومات الكمومية، وهي المقابل الكمومي للبِت التقليدي في تقنية المعلومات».

عندما يتم تبريد مثل هذه الشريحة إلى درجات حرارة منخفضة للغاية، فإنها تتصرف بطرق غير عادية وقوية تعتقد «مايكروسوفت» أنها ستسمح لها بحل المشكلات التكنولوجية والرياضية والعلمية التي لم تتمكن الآلات الكلاسيكية من حلها أبداً. وقالت الشركة إن التكنولوجيا ليست متقلبة مثل التقنيات الكمومية الأخرى، ما يجعل من السهل استغلال قوتها.

تشكيك وتفاؤل

يتساءل البعض عما إذا كانت «مايكروسوفت» قد حققت هذا الإنجاز، وقال العديد من الأكاديميين البارزين إن أجهزة الكمبيوتر الكمومية لن تتحقق بالكامل لعقود من الزمان. لكن علماء «مايكروسوفت» قالوا إن أساليبهم ستساعدهم في الوصول إلى خط النهاية في وقت أقرب.

تشيتان ناياك قرب أجهزة تبريد مكونات الكمبيوتر الكمومي

وقال تشيتان ناياك، الباحث التقني في «مايكروسوفت»، الذي قاد الفريق الذي بنى التكنولوجيا: «ننظر إلى هذا على أنه أمر بعيد لسنوات، وليس عقوداً».

تضيف تكنولوجيا «مايكروسوفت»، التي تم تفصيلها في ورقة بحثية نُشرت في مجلة «نتشر» أمس الأربعاء، زخماً جديداً لسباق يمكن أن يعيد تشكيل المشهد التكنولوجي. وبالإضافة إلى تسريع التقدم عبر العديد من المجالات التكنولوجية والعلمية، يمكن أن يكون الكمبيوتر الكمومي قوياً بما يكفي لكسر التشفير الذي يحمي الأسرار الوطنية.

تنافس أميركي صيني أوروبي

ومن المقرر أن يكون لأي تقدم آثار جيوسياسية. إذ في حين تستكشف الولايات المتحدة الحوسبة الكمومية في المقام الأول من خلال شركات مثل «مايكروسوفت» وموجة من الشركات الناشئة، قالت الحكومة الصينية إنها تستثمر 15.2 مليار دولار في التكنولوجيا. وقد التزم الاتحاد الأوروبي بمبلغ 7.2 مليار دولار.

وتبنى الحوسبة الكمومية على عقود من الأبحاث في فرع من الفيزياء يسمى ميكانيكا الكم، ولا تزال تقنية تجريبية. وبعد الخطوات الأخيرة التي اتخذتها «مايكروسوفت» و«غوغل» وغيرهما، يبدو العلماء واثقين من أن التكنولوجيا سوف تفي في نهاية المطاف بوعدها. وقال فرانك ويلكزيك، عالم الفيزياء النظرية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «الحوسبة الكمومية هي احتمال مثير للفيزياء، وللعالم».

عمل الكمبيوتر التقليدي

لفهم الحوسبة الكمومية، من المفيد معرفة كيفية عمل الكمبيوتر التقليدي.

يعتمد الهاتف الذكي أو الكمبيوتر المحمول أو الكمبيوتر المكتبي على شرائح صغيرة مصنوعة من أشباه الموصلات، وهي مواد توصل الكهرباء في بعض المواقف ولكن ليس كلها. وتخزن هذه الشرائح الأرقام وتعالجها، وتضيفها، وتضربها، وما إلى ذلك. وتقوم هذه الرقائق بإجراء هذه الحسابات من خلال التلاعب بـ«بتّات» من المعلومات. كل بت يحمل إما 1 أو 0.

عمل الكمبيوتر الكمومي

ويعمل الكمبيوتر الكمومي بشكل مختلف، إذ يعتمد البِت الكمومي، أو الكيوبت، على السلوك الغريب للجسيمات دون الذرية أو المواد الغريبة المبردة إلى درجات حرارة منخفضة للغاية.

عندما يكون الجسيم صغيراً للغاية أو شديد البرودة، يمكنه أن يتصرف مثل جسمين منفصلين في نفس الوقت. ومن خلال تسخير هذا السلوك، يمكن للعلماء بناء كيوبت يحمل مزيجاً من 1 و 0. وهذا يعني أن كيوبتين يمكنهما حمل أربع قيم في وقت واحد. ومع نمو عدد الكيوبتات، يصبح الكمبيوتر الكمومي أقوى بشكل كبير.

تستخدم الشركات مجموعة متنوعة من التقنيات لبناء هذه الآلات. ففي الولايات المتحدة، تقوم معظم الشركات، بما في ذلك «غوغل»، ببناء كيوبتات باستخدام المواد فائقة التوصيل، وهي مواد توصل الكهرباء دون فقدان الطاقة التي تنقلها. وتصنع هذه الموصلات الفائقة عن طريق تبريد المعادن إلى درجات حرارة منخفضة للغاية.

مدير «القاعة النقّية» في مختبرات «مايكروسوفت» في ريدموند

راهنت «مايكروسوفت» على نهج لا يتبعه سوى عدد قليل من الشركات الأخرى: الجمع بين أشباه الموصلات والموصلات الفائقة. وقد تم اقتراح المبدأ الأساسي - إلى جانب اسم البت الكمومي الطوبولوجي - لأول مرة في عام 1997 من قبل أليكسي كيتاييف، وهو فيزيائي أميركي روسي الأصل.

بدأت الشركة العمل على هذا المشروع غير المعتاد في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما لم يعتقد العديد من الباحثين أن مثل هذه التكنولوجيا ممكنة. إنه أطول مشروع بحثي لشركة مايكروسوفت.

جهاز تجريبي

لقد أنشأت الشركة الآن جهازاً واحداً يتكون من جزء من زرنيخيد الإنديوم indium arsenide (نوع من أشباه الموصلات) وجزء من الألمنيوم (موصل فائق في درجات حرارة منخفضة). عندما يتم تبريده إلى نحو 400 درجة تحت الصفر، فإنه يُظهر نوعاً من السلوك الآخر الذي قد يجعل أجهزة الكمبيوتر الكمومية ممكنة.

آراء متباينة للخبراء

وقال فيليب كيم، أستاذ الفيزياء بجامعة هارفارد، إن ابتكار «مايكروسوفت» الجديد كان مهماً لأن البتات الكمومية الطوبولوجية يمكن أن تسرع من تطوير أجهزة الكمبيوتر الكمومية. وأضاف: «إذا نجح كل شيء، فقد يكون بحث (مايكروسوفت) ثورياً».

لكن جيسون أليسيا، أستاذ الفيزياء النظرية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، تساءل عما إذا كانت الشركة قد بنت بالفعل بتاً كمومياً طوبولوجياً، قائلاً إن سلوك الأنظمة الكمومية غالباً ما يكون من الصعب إثباته.

وأضاف أليسيا: «إن البت الكمومي الطوبولوجي ممكن من حيث المبدأ، ويتفق الناس على أنه هدف يستحق العناء. لكن علينا التحقق، مع ذلك، من أن الجهاز يتصرف بكل الطرق السحرية التي تتوقعها النظرية؛ وإلا، فقد يتبين أن الواقع أقل تفاؤلاً لنجاح الحوسبة الكمومية. ولحسن الحظ، أصبحت (مايكروسوفت) الآن مستعدة للمحاولة».

قالت «مايكروسوفت» إنها قامت ببناء ثمانية كيوبتات طوبولوجية فقط، وأنها لم تتمكن بعد من إجراء حسابات من شأنها تغيير طبيعة الحوسبة. لكن باحثي الشركة يرون ذلك كخطوة نحو بناء شيء أقوى بكثير.

أخطاء وانهيارات

وفي الوقت الحالي، لا تزال التكنولوجيا ترتكب الكثير من الأخطاء بحيث لا تكون مفيدة حقاً، على الرغم من أن العلماء يطورون طرقاً للحد من تلك الأخطاء.

في العام الماضي، أظهرت «غوغل» أنه مع زيادة عدد الكيوبتات، يمكنها تقليل عدد الأخطاء بشكل كبير من خلال تقنيات رياضية معقدة. وقال العديد من العلماء إن تصحيح الأخطاء سيكون أقل تعقيداً وأكثر كفاءة إذا تمكنت «مايكروسوفت» من إتقان كيوبتاتها الطوبولوجية.

ورغم أن الكيوبت يمكن أن يحمل قيماً متعددة في نفس الوقت، فإنه مثقل بمشكلة متأصلة. إذ عندما يحاول الباحثون قراءة المعلومات المخزنة في كيوبت، فإنه «يفقد تماسكه» وينهار متحولاً إلى بت كلاسيكي يحمل قيمة واحدة فقط: 1 أو 0.

وهذا يعني أنه إذا حاول شخص ما قراءة كيوبت، فإنه يفقد قوته الأساسية. لذا يحتاج العلماء إلى التغلب على مشكلة أساسية: كيف يمكن صنع جهاز كمبيوتر إذا تعطل كلما استخدمته؟

إن طرق تصحيح الأخطاء التي تتبعها «غوغل» هي وسيلة للتعامل مع هذه المشكلة. إلا أن «مايكروسوفت» تعتقد أنها يمكن أن تحل المشكلة بشكل أسرع لأن كيوبتات الطوبولوجيا تتصرف بشكل مختلف ومن الناحية النظرية أقل عرضة للانهيار عندما يقرأ شخص ما المعلومات التي تخزنها. وقال ناياك: «إنه يشكل كيوبتاً جيداً حقاً».

* خدمة «نيويورك تايمز».


مقالات ذات صلة

«واتساب» تعلن عن ميزة «خصوصية الدردشة المتقدمة» لتعزيز حماية المحادثات

تكنولوجيا ميزة «خصوصية الدردشة المتقدمة» من واتساب تحمي المحادثات بمنع التصدير وتعطيل التنزيل التلقائي وحظر الذكاء الاصطناعي (واتساب)

«واتساب» تعلن عن ميزة «خصوصية الدردشة المتقدمة» لتعزيز حماية المحادثات

في تحديث جديد يركّز على خصوصية المستخدمين، أعلنت «واتساب» (WhatsApp) عن ميزة «خصوصية الدردشة المتقدمة».

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
علوم اختراق علمي: مواد نانوية قد تُحدث ثورة في تطوير تقنيات الرؤية الليلية

اختراق علمي: مواد نانوية قد تُحدث ثورة في تطوير تقنيات الرؤية الليلية

طريقة لتصنيع مستشعرات أشعة تحت حمراء كبيرة الحجم فائقة الرقة

باتريك تاكر (واشنطن)
تكنولوجيا طابعة «أينيكيوبيك كوبرا إس 1»

أفضل الطابعات التجسيمية الاقتصادية لعام 2025

هناك شيء مميز حقا في تجسيد أفكارك الإبداعية بيديك - ويمكن للطابعة التجسيمية (ثلاثية الأبعاد) أن تجعل من هذا السحر حقيقة. وسواء كنت تصنع معدات تنكرية مخصصة، أو…

علوم حيّ باريسي بيئي قد يكون نموذجاً لمدن أفضل

حيّ باريسي بيئي قد يكون نموذجاً لمدن أفضل

العمارة ذات الدرج الواحد... مفهوم متقدم للتخطيط المعماري

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا التطبيقات قد تستخدم صور الوجه في تقنيات التعرف البيومتري دون علم المستخدمين (كاسبرسكي)

احذر قبل المشاركة... تريندات «دُمَى الذكاء الاصطناعي» متعة أم تهديد للخصوصية؟

تحذِّر «كاسبرسكي» من مخاطر مشاركة الصور والمعلومات الشخصية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي الترفيهي، لما قد تسببه من انتهاك للخصوصية وسرقة الهوية.

نسيم رمضان (سان فرنسيسكو - الولايات المتحدة)

هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
TT

هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي

يُحدث تغير المناخ تحولاً في المشهد المتجمد للقطب الشمالي بمعدلات مذهلة. ورغم ما يُلحقه من دمار بالحياة البرية والمجتمعات التي تعيش هناك، فإن الحكومات والشركات تُدرك وجود فرصة سانحة، كما كتبت مادلين كاف (*).

ثروة قطبية

تتمتع المنطقة بثروة من الموارد، بما في ذلك احتياطيات غير مستغلة من الوقود الأحفوري ومعادن أساسية ضرورية. وقد تنافست دول القطب الشمالي على السيطرة على هذه الموارد لعقود، وبعض عمليات الاستغلال - وبخاصة استخراج الوقود الأحفوري في القطب الشمالي الروسي - جارية بالفعل.

وبحلول نهاية العقد، قد يصبح المحيط المتجمد الشمالي خالياً من الجليد خلال فصل الصيف؛ ما يسمح للسفن بالسفر مباشرة فوق القطب الشمالي لأول مرة. هذا الذوبان السريع يجعل المنطقة أكثر سهولة من أي وقت مضى؛ ما يُغذي توقعات النمو الصناعي السريع في القطب الشمالي. منذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب صراحةً رغبته في الاستيلاء على غرينلاند، وهي إقليم دنماركي، بالإضافة إلى كندا. لكن هل سيُحدث تغير المناخ طفرة صناعية حقيقية في القطب الشمالي؟

مصالح مادية

* النفط والغاز. لا شك أن المنطقة تزخر بموارد قيّمة، بما في ذلك نحو 90 مليار برميل من النفط ونحو 30 في المائة من احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة، وفقاً لتقييم أجرته هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عام 2012.

* المعادن الأرضية النادرة. كما تتوافر المعادن الأرضية النادرة بكثرة. ويُعتقد أن غرينلاند وحدها تمتلك احتياطيات كافية من معادن مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، التي تُستخدم في تصنيع توربينات الرياح والمركبات الكهربائية، لتلبية ربع الطلب العالمي المستقبلي على الأقل. كما أنها تفخر بوجود كميات كبيرة من الكوبالت والنحاس والغرافيت والنيكل.

ويتزايد الطلب على هذه المواد بسرعة في جميع أنحاء العالم مع تسارع وتيرة التحول في مجال الطاقة. تُهيمن الصين الآن على سلاسل التوريد العالمية، بينما تتسابق مناطق أخرى - أبرزها أوروبا - لتأمين إمدادات بديلة.

غرينلاند فخورة بثرواتها

تقول آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك: «هناك اهتمام متزايد من (شركات التعدين متعددة الجنسيات) باستكشاف ورسم خرائط الرواسب في القطب الشمالي؛ نظراً للحاجة إلى مواد خام بالغة الأهمية في أوروبا».

قضت ميريلد طفولتها في غرينلاند ولا يزال لديها عائلة تعيش هناك. وتقول إن اهتمام الولايات المتحدة قد «صدم» السكان، لكنه عزز أيضاً عزمهم على تطوير موارد الجزيرة لدعم قضيتها من أجل الاستقلال. وتضيف: «سكان غرينلاند شعب فخور جداً. إن تطوير مواردنا هو إحدى الطرق لتعزيز اقتصادنا، وتمهيد الطريق للمضي قدماً».

لكن على الرغم من الضجيج، فإن صناعة التعدين الفعلية في غرينلاند ضئيلة. ولا يوجد في الجزيرة سوى منجمَين نشطين، وبينما أصدرت نحو 100 ترخيص تعدين، معظمها للاستكشاف، فإن الأمر سيستغرق سنوات عدّة قبل أي انتقال إلى المشروعات التجارية.

الوصول إلى ثروات القطب

هذه ليست قضية جديدة؛ يعرف الجيولوجيون منذ عقود الثروات الكامنة في القطب الشمالي. لكن المشكلة تكمن في الوصول إليها.

يغطي الجليد البحري الكثيف معظم مساحة القطب الشمالي، ويغطيه معظم أيام السنة. ولكن على الرغم من أن هذا الغطاء الجليدي آخذ في التناقص والتراجع، فإن التنقيب عن النفط والغاز في المياه المفتوحة وحفر الآبار لا يزال مسعًى باهظ التكلفة وخطيراً للغاية، ولا يعدّ مبرراً إلا إذا كان سعر النفط مرتفعاً بما يكفي. وتجدر الإشارة إلى أن استخراج الوقود الأحفوري البري أكثر تكلفة في القطب الشمالي، حيث تزيد تكلفته بنسبة 50 في المائة إلى 100 في المائة بألاسكا عنه في تكساس، على سبيل المثال.

حساسية بيئية

هناك أيضاً مخاطر تتعلق بالسمعة والمال في حال حدوث أي مشكلة. تقول ميريلد: «بيئة القطب الشمالي قاسية، لكنها في الوقت نفسه معرَّضة للخطر؛ إنها هشة. النباتات والحيوانات حساسة، وتستغرق إعادة بنائها وقتاً طويلاً في حال تضررها».

على سبيل المثال، تحذر شركات النفط الغربية من العمل في منطقة حساسة بيئياً كهذه، حيث قد تكون الأخطاء مكلفة. في عام 1989، اصطدمت ناقلة النفط «إكسون فالديز»، المملوكة لشركة «إكسون» للشحن، بشعاب مرجانية قبالة سواحل ألاسكا؛ ما أدى إلى تسرب ما يقرب من 23 مليون لتر من النفط إلى المحيط في غضون ساعات قليلة. وتسببت تلك الكارثة في نفوق آلاف الطيور البحرية، وثعالب الماء، والنسور الصلعاء، والحيتان القاتلة، وغيرها من الحيوانات البرية، وتدمير الموائل البحرية لمئات الكيلومترات، ولا تزال آثارها واضحة حتى بعد عقود. واضطرت «إكسون» إلى إنفاق نحو 202 مليار دولار على تنظيف التسرب ودفع مليار دولار إضافية تعويضات.

وبالنسبة لعمليات التنقيب عن المعادن المهمة، التي تعني في المقام الأول التعدين البري، اضطرت الشركات تاريخياً إلى التعامل مع قشور جليدية ضخمة أو تربة جليدية دائمة. وغالباً ما تكون البنية التحتية المحلية، مثل الطرق والموانئ، شحيحة، والقوى العاملة المتاحة محدودة.

ذوبان الجليد

يُخفف الذوبان السريع بعض هذه المشاكل، لكنه يُنشئ أيضاً مشاكل جديدة. إذ يُحسّن ذوبان التربة الصقيعية إمكانية الوصول إلى المواد الحيوية، لكنه يُزعزع استقرار البنية التحتية القائمة ويزيد من خطر الكوارث البيئية.

في عام 2020، انهار خزان وقود في محطة طاقة روسية تُشغّلها شركة تابعة لشركة المعادن العملاقة «نوريلسك نيكل»؛ ما أدى إلى غمر الأنهار المحلية بما يصل إلى 21 ألف طن من زيت الديزل. وقد أُلقي باللوم جزئياً على التسرب، الذي تسبب في أضرار بيئية بقيمة 1.5 مليار دولار، على انهيار أساسات الخزان بسبب ذوبان التربة الصقيعية.

يقول فيليب أندروز - سبيد من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة: «سيُصعّب ذوبان التربة الصقيعية الحياة بشكل كبير». ويشير إلى أن بناء بنية تحتية جديدة - مثل المنازل والمباني التشغيلية والطرق القادرة على تحمل ذوبان الجليد - أكثر تكلفة بكثير.

في الوقت نفسه، في غرينلاند، حيث تُركّز الولايات المتحدة اهتمامها، كشف ذوبان الأنهار الجليدية عن آلاف الكيلومترات من سواحل جديدة. لكن هذه الأرض الجديدة هشة، وعرضة للانهيارات الأرضية التي قد تُسبب موجات تسونامي هائلة.

يقول فيليب شتاينبرغ من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة: «إذا كانت لديك بنية تحتية على الأرض، للتعدين أو الحفر أو البناء مثلاً، فربما تُفضل وجود تربة صقيعية، حيث يُمكنك التنبؤ بمدى استقرار الأرض، بدلاً من التوجه إلى سطح أكثر دفئاً يذوب في نصف الوقت». ويضيف: «لا يُمثل تغير المناخ دائماً، على الأقل، النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر».

رأي السكان الأصليين

يمكن لمجتمعات السكان الأصليين في القطب الشمالي أيضاً أن يكون لها رأي في مدى نشاط التعدين. غالباً ما تُبدي هذه المجتمعات معارضة شديدة لمقترحات التطوير؛ خوفاً من أن تُلحق الأنشطة الصناعية الجديدة الضرر بالبيئة المحلية وتقطع مسارات هجرتهم التقليدية.

في عام 2023، حددت شركة التعدين السويدية «LKAB» رواسب ضخمة من خام الحديد والفوسفور في القطب الشمالي السويدي، التي تقول إنها قد تُلبي 18 في المائة من احتياجات أوروبا من المعادن النادرة، لكن شعب السامي الأصلي يُعارض تطوير المنجم.

ويتوقع أندروز - سبيد أن مثل هذه الاشتباكات ستعيق الصناعة في أجزاء من القطب الشمالي؛ ما يحد من دور المنطقة في تعزيز الإمدادات العالمية من المعادن الأساسية اللازمة للتحول في مجال الطاقة. ويضيف: «سواءً كنا ننظر إلى كندا أو شمال أوروبا، فإن السكان الأصليين في القطب الشمالي سيُبطئون الأمور، على أقل تقدير».

تغير المناخ - نقمة اقتصادية؟

لا يُمثل تغير المناخ دائماً النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر.

بالنظر إلى المخاطر المادية والبيئية والاجتماعية لتطوير الأنشطة الصناعية في القطب الشمالي مجتمعةً، فإن هذه المخاطر ستُثني الكثير من الشركات، على الرغم من الذوبان السريع للجليد في المنطقة.

يقول شتاينبرغ: «لن تكون المنطقة بيئة تشغيلية سهلة للتعدين، والحفر، وحتى الشحن». ويضيف: «ستمضي المشروعات قدماً، لكنها لن تُحدث فرقاً كبيراً، باستثناء حالة أو حالتين صغيرتين. سيتجلى الفرق الكبير في أجزاء أخرى من العالم، حيث تكون ممارسة الأعمال التجارية على نطاق واسع أرخص وأسهل».

ازدهار الشحن في القطب الشمالي

مع تراجع الجليد البحري في القطب الشمالي، تُفتح طرق شحن جديدة؛ ما يسمح بنقل البضائع والسلع إلى المنطقة وعبرها وخارجها.

تشير البيانات التي جمعتها منظمة حماية البيئة البحرية في القطب الشمالي (PAME)، وهي جزء من المجلس الدولي للقطب الشمالي، إلى أن عدد السفن الفريدة التي تدخل القطب الشمالي قد ارتفع بنسبة 37 في المائة بين عامي 2013 و2024. وتُعدّ قوارب الصيد أكثر أنواع السفن شيوعاً في القطب الشمالي، ولكن هناك زيادةً كبيرة في عدد ناقلات النفط الخام وناقلات الغاز وسفن الرحلات البحرية وناقلات البضائع السائبة، وفقاً للبيانات.

وتشير منظمة «PAME» إلى أن ارتفاع عدد السفن التي تنقل البضائع والوقود الأحفوري يؤكد زيادة النشاط الصناعي في القطب الشمالي، حيث زادت المسافة التي تقطعها ناقلات البضائع السائبة بنسبة 205 في المائة بالسنوات الـ13 الماضية.

وتشير آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك إلى أن تغير المناخ يُسهّل «نقل المواد من منطقة القطب الشمالي وإليها». لكن ربما يكون ظهور طرق تجارية جديدة عبر القارات، مثل الممر عبر القطب الشمالي، هو ما يضع القطب الشمالي على خريطة أنشطة الشحن العالمية.

* مجلة «نيو ساينتست»، خدمات «تريبيون ميديا»

حقائق

90

مليار برميل من النفط يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي

حقائق

30 %

نسبة احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة التي يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي