الطاقة العقلية... تأملات وتفسيرات لجوهرها

تحول الموهبة إلى عبقرية

الطاقة العقلية... تأملات وتفسيرات لجوهرها
TT

الطاقة العقلية... تأملات وتفسيرات لجوهرها

الطاقة العقلية... تأملات وتفسيرات لجوهرها

يصعب تعريف الطاقة العقلية، والأصعب من ذلك قياسها، ولكن الجميع يطمح إلى امتلاك المزيد منها.

طاقة العقل لاتخاذ القرارات

رغم أن وزن الدماغ لا يتجاوز 2 في المائة من وزن الجسم، فإنه يستهلك ما بين 20 إلى 25 في المائة من إجمالي الطاقة الأيضية (طاقة التمثيل الغذائي). وهذا يمثل فقط الطاقة اللازمة للحفاظ على عمل 86 مليار خلية عصبية، وبقاء ما يقارب 164 تريليون وصلة عصبية على أهبة الاستعداد.

بمجرد تنشيط الدماغ، يزداد استهلاكه للطاقة سريعاً. إذ يتطلب الانتباه جهداً ذهنياً كبيراً، وكذلك ممارسة ضبط النفس. كما أن اتخاذ القرارات، والتعاطف وحتى التأمل، تستهلك الموارد العقلية، إضافة إلى استقبال المعلومات، ومعالجتها، ومقارنتها بالذاكرة، والحفاظ على التركيز والاهتمام، وكذلك القدرة على تجاهل الإلهاء، كل ذلك مسبب للإرهاق حتى بمجرد التفكير فيه.

ولا يمكنك التفكير كثيراً بشكل جيد أو الضحك، أو الاستجابة للخطر، أو الحلم بالمستقبل، أو حتى تذكر مكان وضع مفاتيح السيارة، من دون طاقة عقلية.

الطاقة العقلية Mental Energy تكمن حرفياً في صميم كل ما تفعله، وتحدد ما إذا كنت تستطيع فعل أي شيء على الإطلاق.

ويستهلك تنشيط الطاقة العقلية، الذي يمتد عبر تقاطع العقل والجسد، الأكسجين، والغلوكوز، ومجموعة كاملة من المغذيات الكبرى والصغرى، ما يتطلب من قلبك زيادة ضخ الدم. وينعكس ذلك في ارتفاع ضغط الدم.

الحلقة المفقودة

رغم أهميتها القصوى، فإن الطاقة العقلية عامل مفقود في معظم تفسيرات العمليات النفسية. وليس من الواضح حتى ماهية الطاقة العقلية بالضبط.

يرى أحد النماذج العلمية أنها تتكون من ثلاثة عناصر: جزء متعلق بالحالة المزاجية (الشعور بالقدرة على القيام بالأنشطة العقلية أو البدنية)، وجزء متعلق بالإدراك (ينعكس في اختبارات الانتباه وسرعة معالجة المعلومات)، وجزء متعلق بالدافع (العزيمة والحماس).

يقيس مقياس حالات المزاج (POMS) Profile of Mood States مستوى الطاقة العقلية من خلال مدى التحبيذ الذي تناله صفات مثل: النشاط والحماس والحركية. ولا يوجد مقياس متفق عليه أو طريقة لتقييم الطاقة العقلية.

ورغم أن الدافع motivation والطاقة العقلية غالباً ما يُستخدمان بالتبادل، فإن هناك سبباً يدعو إلى عدّهما ظاهرتين مختلفتين. يقول عالم النفس روي باومايستر: «أعتقد أن الدافع هو الرغبة، بينما تذهب الطاقة إلى الفعل والتفكير. الدافع هو أحد أسس النفس، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة والتكاثر. ويمكن أن تكون الرغبة موجودة لدى الأشخاص من ذوي الطاقة العقلية العالية أو المنخفضة».

ضبط النفس وقوة الإرادة

في الواقع، أحدث باومايستر ضجة في عالم علم النفس الحديث في أواخر التسعينات من خلال طرح فكرة أن الطاقة العقلية تلعب دوراً رئيسياً في الحياة العقلية اليومية. وقد قدم أدلة على أن التنظيم الذاتي self - regulation «لا يزال موضع نقاش كبير»، وهو جوهر الوظيفة التنفيذية للدماغ، هو ظاهرة تعتمد على الطاقة.

يعتمد ضبط النفس Self - control (المعروف أيضاً باسم قوة الإرادة) على مصادر طاقة محدودة، وستؤدي المهمة الصعبة التي تتطلب ضبط النفس إلى إعاقة الأداء في مهمة لاحقة، وهو ما يسمى «استنزاف الأنا». ليس الأمر أن الدافع يتراخى، ولكن الطاقة التي يوفرها الغلوكوز تُستنفد إلى حد كبير.

يقول باومايستر: «لقد اخترنا مصطلح (استنزاف الأنا) ego depletion كنوع من الإشادة بسيغموند فرويد، لأننا لم نتمكن من العثور على أي شخص بعد فرويد قال إن الذات مصنوعة من الطاقة، على الأقل جزئياً. لم نكن نؤيد بقية نموذج فرويد». ويشير إلى أن الحياة كلها عبارة عن عملية طاقة.

مهما كانت طبيعة الطاقة العقلية، فهي تلعب دوراً في تشكيل الشخصية والإنجازات على مدار العمر. وقد رأى عالم الوراثة السلوكية الراحل ديفيد ليكين أن الطاقة العقلية هي المكون المصاحب الذي يحول الموهبة إلى عبقرية. وقد عدّها قدرة مشتركة بين المفكرين والمبدعين العظماء، بدءاً من أرخميدس إلى إسحاق نيوتن، وبنجامين فرانكلين، وألكسندر هاميلتون، وثيودور روزفلت، وبابلو بيكاسو.

تكلفة الالتهاب

كما يرتبط مستوى الطاقة العقلية ارتباطاً وثيقاً بالأداء الفكري، كذلك يرتبط أيضاً بوظيفة المناعة.

عند تنشيط الجهاز المناعي بسبب الضغوط، والعدوى - أي تهديد خارجي أو داخلي، بما في ذلك الأفكار المزعجة - يثير الجهاز المناعي استجابة (ردة فعل) التهابية تستنفد كمية كبيرة من الطاقة. وتشير الأدلة إلى أن الالتهاب يحول الانتباه أيضاً نحو الأفكار السلبية، ما يمهد الطريق المحتمل للاكتئاب، وهو أم لجميع حالات الشعور بانخفاض مستوى الطاقة.

وعلى نحو متزايد، يرتبط أي عدد من الاضطرابات في العمليات الأيضية في خلايا الدماغ باضطرابات الصحة العقلية، بما في ذلك الاكتئاب والتدهور الإدراكي.

من المغري الاعتقاد أن النقيض التام للطاقة العقلية هو الإرهاق، وأنهما يمثلان طرفي نقيض على سلسلة واحدة متصلة. ولكن هناك بعض الأدلة على أنهما حالتان منفصلتان مدعومتان بآليات مختلفة وتخدمان احتياجات مختلفة. فالجلوس على المكتب طوال اليوم يقلل من الطاقة من دون أن يزيد بالضرورة من الشعور بالإرهاق. كما ثبت أن التمارين الرياضية المعتدلة تزيد من الطاقة من دون أن تؤثر على مستويات الإرهاق.

يبدو أن أنظمة الناقلات العصبية تختلف بين الشعورين بالنشاط والإرهاق: فالشعور بالنشاط - المدفوع بكل من «الدوبامين» و«النورابينفرين» - يدعم السلوك التقاربي (الإقدام)؛ أما الإرهاق، الذي يسهله كل من «السيروتونين» و«السيتوكينات» الالتهابية، فيدعم السلوك التباعدي (الإحجام). يرى البعض أن نقيض النشاط ليس الإرهاق، وإنما اللامبالاة.

مهما كانت ماهية الطاقة العقلية، فهناك شيء واحد واضح: إنه شيء يطمح إليه الناس بشكل أكبر. ربما لأننا نعيش في أوقات مقلقة ونكافح لفهمها - حتى قرارات ما ينبغي وضعه في القمامة تضعنا وجهاً لوجه أمام تهديدات وجودية - فهناك متطلبات لا هوادة فيها على الطاقة العقلية. أو ربما يكون ذلك مجرد ثمن امتلاك قشرة دماغية كبيرة في عصر الحمل الزائد للمعلومات.

الحفاظ على الطاقة العقلية

هناك طرق معروفة للحفاظ على الطاقة العقلية. ربما يكون الأسهل منها هو الاستخدام الحكيم لأي طاقة عقلية يمتلكها الأفراد بالفعل.

العادات ليست سوى أوعية عظيمة للحفاظ على الطاقة العقلية، فهي تحول دون الحاجة إلى اتخاذ عدد لا يحصى من القرارات. والعادات الجيدة أفضل من ذلك، لأنها تمنع أيضاً الحاجة إلى صرف الطاقة في إزالة الأضرار الناجمة عن العادات السيئة.

إضافة إلى ذلك، من الممكن توليد الطاقة العقلية من الداخل عبر تقنية تُعرف باسم «التباين العقلي» mental contrasting. وقد شرعت الدكتورة غابرييل أوتينغن، عالمة النفس بجامعة نيويورك، في تطوير التباين العقلي بوصفه وسيلة لحشد الطاقة اللازمة لتحويل الأهداف إلى إنجازات.

تستلزم هذه التقنية تصور المستقبل الذي تريد تحقيقه، مثلاً في تأليف كتاب - وأفضل نتيجة لذلك الهدف المنشود - مشاعر الإنجاز والافتخار. ثم يأتي الجزء الحاسم وهو تجنب الخيال الخالص من خلال مقارنة رغباتك بحقيقة العمل اللازم لتحقيقها.

الأحكام التي يصدرها الناس بعد ذلك حول مدى احتمالية تحقيق المستقبل المنشود هي أحكام مُحفزة، ويمكن قياس تعبئة الطاقة جسدياً في اختبارات قوة قبضة اليد. علاوة على ذلك، وجدت الدكتورة أوتينغن أن التباين العقلي يؤدي إلى حالة من التنبيه الشامل يمكن فيها تحويل الطاقة إلى مهام عقلية لا علاقة لها بالخيال الذي أوجدها.

إمدادات الطاقة

يُستمد معظم مخزون الطاقة العقلية، يوماً بعد يوم، من مصادر خارجية، أي من النظام الغذائي.

وتُعد المغذيات الكبرى - البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون - ضرورية، وكذلك الحال في المجموعة الكاملة للمغذيات الصغرى. وبما أن الدماغ هو مصدر الطاقة الرئيسي، فهو يحتاج بالتأكيد إلى إمدادات ثابتة من جميع هذه العناصر.

يلجأ كثير من الناس إلى المكملات الغذائية المصممة لتعزيز الطاقة العقلية. وأهم العناصر الغذائية المهمة لنشاط الدماغ هي فيتامين «بي»، وفيتامين «سي»، وفيتامين «دي»، وأحماض أوميغا 3 الدهنية، والمغنيسيوم. وهناك أيضاً أدلة على أن الحمض الأميني «إل – ثيانين»، وهو مكون طبيعي موجود في الشاي، يزيد بشكل موثوق من يقظة الدماغ.

* «سايكولوجي وداي»، خدمات «تريبيون ميديا».



استراتيجيات علمية لتبني الذكاء الاصطناعي في الدول النامية

الذكاء الاصطناعي يحتل مكانة بارزة في النقاشات العالمية (رويترز)
الذكاء الاصطناعي يحتل مكانة بارزة في النقاشات العالمية (رويترز)
TT

استراتيجيات علمية لتبني الذكاء الاصطناعي في الدول النامية

الذكاء الاصطناعي يحتل مكانة بارزة في النقاشات العالمية (رويترز)
الذكاء الاصطناعي يحتل مكانة بارزة في النقاشات العالمية (رويترز)

يحتل الذكاء الاصطناعي حالياً مكانة بارزة في النقاشات العالمية؛ حيث يتم استكشاف مدى اعتماده وتأثيره الواسع على المنظمات والأعمال والمجتمع. ووفق تقرير صادر عن شركة «آي بي إم»، بلغ معدل تبني الذكاء الاصطناعي عالمياً 35 في المائة عام 2022، مسجلاً بذلك زيادة ملحوظة بمقدار 4 نقاط عن العام السابق.

تخلف الدول النامية

ورغم الإمكانات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات الصحية، وتعزيز التعليم، ودعم أنظمة الطاقة، ورفع كفاءة الحوكمة، فإن البلدان ذات الدخل المنخفض لا تزال تعاني من نقص الأبحاث والتطبيقات المتاحة في هذا المجال.

وفي هذا السياق، سعى باحثون من الولايات المتحدة واليابان إلى وضع استراتيجيات تتيح لهذه الدول دمج الذكاء الاصطناعي بفاعلية في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والطاقة والحوكمة، مؤكدين أهمية تقليص الفجوة الرقمية لضمان وصول فوائد الذكاء الاصطناعي للجميع.

وأشار الباحثون، في دراستهم المنشورة بعدد 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بدورية «Humanities and Social Sciences Communications» إلى العقبات الأساسية التي تواجه البلدان ذات الدخل المنخفض في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، التي تشمل محدودية الوصول إلى التكنولوجيا، وضعف البنية التحتية، وقلة الكوادر المتخصصة، مشددين على أن هذه التحديات تعيق قدرة هذه الدول على توظيف الذكاء الاصطناعي بفاعلية لدعم التنمية المستدامة، ما يستدعي استراتيجيات تكاملية لمعالجة هذه الثغرات وتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانات الذكاء الاصطناعي.

يقول الدكتور محمد سالار خان، أستاذ السياسات العامة في معهد روتشستر للتكنولوجيا بنيويورك، إن المضي قدماً في مجال الذكاء الاصطناعي ليس خياراً، بل ضرورة لهذه البلدان. ومن خلال تعزيز البنية الرقمية، وتدريب الكوادر البشرية، وتبني سياسات فعّالة؛ يمكن لهذه الدول الاستفادة من القدرات التحويلية للذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الحياة لمواطنيها.

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «على صانعي السياسات إدراك الدور المحوري للذكاء الاصطناعي في تحقيق التنمية العادلة، وإعطاء الأولوية للمبادرات التي تدعم دمجه في هذه البلدان، ومن خلال الجهود التعاونية، يمكن للمجتمع الدولي ضمان ألا تتخلف البلدان منخفضة الدخل عن ثورة الذكاء الاصطناعي».

استراتيجيات فعالة

تواجه الدول ذات الدخل المنخفض تحديات فريدة في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يستدعي اقتراح استراتيجيات تتماشى مع احتياجاتها الخاصة. وفقاً لأستاذ السياسات العامة في معهد روتشستر للتكنولوجيا بنيويورك، يتطلب دمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية نهجاً متعدد الجوانب.

ووفق خان، تتمثل إحدى التوصيات الأساسية في تعزيز البحث والتطوير، من خلال دعم الجامعات والمؤسسات المحلية في إجراء أبحاث الذكاء الاصطناعي الموجهة إلى التحديات المحلية، وإنشاء مراكز ابتكار تركز على تطوير تقنيات مناسبة للصناعات المحلية. كما يُنصح بتوفير التمويل والموارد للشركات الناشئة المحلية المتخصصة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وتشمل التوصيات أيضاً بناء أنظمة ذكاء اصطناعي متكاملة، عبر تطوير استراتيجية وطنية لتعزيز القدرات في هذا المجال، وإنشاء شبكات تعاونية بين الكيانات المحلية والمنظمات الدولية.

ونبه خان إلى ضرورة تشجيع مشاركة القطاع الخاص في استثمار تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعالج القضايا المحلية، خاصة في مجالات الصحة والتعليم، وتنفيذ مشاريع تجريبية تُظهر التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي.

تقنيات تتناسب مع السياقات المحلية

وشدد خان على ضرورة ضمان وصول عادل للتكنولوجيا، مع التركيز على المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات في هذا المجال، وتعزيز الاستقلال التكنولوجي عبر تطوير تقنيات تتناسب مع السياقات المحلية.

وأوصى خان بضرورة التعاون مع الدول المتقدمة للحصول على دعم في مجال نقل التكنولوجيا؛ حيث يمكن للبلدان ذات الاقتصاديات المتقدمة والمنظمات الدولية ذات الصلة مثل اليونيسكو، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، والبنك الدولي؛ دعم هذه الدول في مساعيها من خلال نقل التكنولوجيا، وتقديم المنح، والمساعدات.

ونصح خان بضرورة تحسين الأطر السياسية من خلال وضع إرشادات تنظيمية واضحة، وإشراك جميع أصحاب المصلحة في عملية صنع القرار، لضمان وضع المبادئ التوجيهية واللوائح الأخلاقية التي تضمن تطوير ونشر الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وعادل.

ومن خلال تنفيذ هذه التوصيات، يمكن للدول ذات الدخل المنخفض دمج الذكاء الاصطناعي بفاعلية، ما يعزز التنمية ويقلل الفجوات الحالية في اعتماد التكنولوجيا، على حد قول خان.