مهمة جديدة لـ«ناسا»... مراقبة «الكون غير المرئي» على الأرض

انطلاق صاروخ «سبيس إكس فالكون» مع المركبة الفضائية «بيس» التابعة لـ«ناسا» (رويترز)
انطلاق صاروخ «سبيس إكس فالكون» مع المركبة الفضائية «بيس» التابعة لـ«ناسا» (رويترز)
TT

مهمة جديدة لـ«ناسا»... مراقبة «الكون غير المرئي» على الأرض

انطلاق صاروخ «سبيس إكس فالكون» مع المركبة الفضائية «بيس» التابعة لـ«ناسا» (رويترز)
انطلاق صاروخ «سبيس إكس فالكون» مع المركبة الفضائية «بيس» التابعة لـ«ناسا» (رويترز)

أطلقت «ناسا» قمراً صناعياً ثورياً جديداً سيوفر نظرة غير مسبوقة على الحياة البحرية المجهرية على الأرض وجزيئات الغلاف الجوي الصغيرة.

انطلقت مهمة «ناسا بيس» (NASA PACE)، أو (or Plankton, Aerosol, Cloud, and ocean Ecosystem) في الساعة 1:33 صباحاً اليوم (الخميس) على متن صاروخ «سبيس إكس فالكون» من محطة كيب كانافيرال لقوة الفضاء في فلوريدا. وهبط معزز الصاروخ بنجاح على الأرض، وأكد الفريق أن المصفوفات الشمسية للمركبة الفضائية انتشرت وأنها تتلقى الطاقة.

وكان من المقرر أن يتم الإطلاق صباح الثلاثاء، إلا أنه تم تأجيله مرتين بسبب الرياح العاتية والسحب الركامية.

وقال جيريمي ويرديل، عالم مشروع «بيس»، إن العلماء بدأوا في تصور طريقة لفهم كيفية تشكيل العمليات المحيطية والغلاف الجوي للكوكب منذ نحو 20 عاماً.

ستسلط المهمة الضوء على كيفية استخدام الهباء الجوي والسحب وكذلك العوالق النباتية في المحيط كمؤشرات لصحة المحيطات والاحتباس الحراري.

وأوضحت كارين سانت جيرمان، مديرة مركز« بيس»، إن الأدوات الثلاث الموجودة على متن «بيس»، بما في ذلك جهازا قياس استقطاب وكاميرا واحدة، ستلتقط قوس قزح من البيانات عبر أطوال موجية مختلفة من الضوء «تسمح لنا برؤية أشياء لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وقال ويرديل: «ما نقوم به هو في الواقع البحث عن الكون المجهري وغير المرئي في الغالب في البحر والسماء، وفي بعض الدرجات، على الأرض أيضاً».

على الرغم من تصميمها على أنه مهمة مدتها ثلاث سنوات، فإن «بيس» لديها ما يكفي من الوقود لمواصلة الدوران حول الأرض ودراستها لمدة تصل إلى 10 سنوات. ستنضم المركبة الفضائية إلى أسطول يضم أكثر من عشرين مهمة لعلوم الأرض تابعة لـ«ناسا» تدور حول كوكبنا وتجمع بيانات عن المحيطات والأرض والجليد والغلاف الجوي لتقديم المزيد من الأفكار حول كيفية تغير مناخ الأرض.

رسم توضيحي للمركبة الفضائية «بيس» (ناسا)

ويمكن لمهمات مثل «بيس» والمهمة الدولية للمياه السطحية وطبوغرافيا المحيطات، والمعروفة باسم «SWOT»، التي تم إطلاقها في عام 2022، أن تغير أيضاً الطريقة التي يفهم بها الباحثون محيطات الأرض.

وفي هذا الإطار، أوضحت نائبة مدير «ناسا» بام ميلروي، أنه «لا يمكن إنكار أننا في خضم أزمة مناخية، يمر كوكبنا بتغيرات تحويلية بدءاً من ازدياد الظواهر الجوية المتطرفة وحرائق الغابات المدمرة حتى ارتفاع مستويات سطح البحر».

وأشارت إلى أن «(ناسا) ليست مجرد وكالة فضاء وطيران. نحن وكالة المناخ. نستفيد من وجهة النظر الفريدة للفضاء لدراسة موطننا بوصفه كوكباً شاملاً، وجمع بيانات علوم الأرض الحيوية. ومن ثم تصبح هذه المعلومات متاحة للناس في جميع أنحاء العالم، ما يمكنهم من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن كيفية حماية كوكبنا وسكانه للأجيال القادمة».

عيون جوية في سماء الأرض

وفي يناير (كانون الثاني)، أعلنت «ناسا» ووكالات أخرى أن عام 2023 كان العام الأكثر سخونة على الإطلاق، وهو جزء من الاتجاه العام الذي ارتفعت فيه درجات الحرارة العالمية خلال العقد الماضي، حسبما قالت كيت كالفين، كبيرة العلماء وكبيرة مستشاري المناخ في وكالة «ناسا».

ويعود ارتفاع درجة الحرارة إلى حد كبير إلى الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون. وبعد إطلاقه، تمتص اليابسة والمحيطات ثاني أكسيد الكربون، ولكن يبقى بعض منه في الغلاف الجوي ويحبس الغازات الدفيئة التي تعمل على تسخين الكوكب.

ووفق كالفين، فإن «أحد الأشياء الرائعة في مهمة مثل (بيس) هو أنها ستمنحنا فهماً أفضل لتبادل الكربون بين المحيط والغلاف الجوي».

لكن هناك عوامل أخرى تسهم في ارتفاع درجة الحرارة، بما في ذلك جزيئات الهباء الجوي الموجودة في الغلاف الجوي التي تتكون مجتمعة من الملوثات والغبار والدخان وملح البحر. وشرحت كالفين أن «الهباء الجوي يمكن أن يعكس أو يمتص ضوء الشمس ويؤثر على تكوين السحب».

وقالت سانت جيرمان: «إنها تأتي من مصادر مثل الغبار المنبعث من حرائق الغابات في الصحراء وحتى الأنشطة البشرية. إنها تزرع السحب التي يمكن أن تتحول إلى أعاصير قادمة عبر المحيط الأطلسي، ولكنها تعكس أيضاً الكثير من طاقة الشمس. لذلك، عليهم أن يلعبوا دوراً مهماً في استقرار مناخ الأرض على المدى الطويل».

وأشار آندي ساير، عالم الغلاف الجوي في «بيس»، إلى أن الهباء الجوي يمكن أن يسهم في سوء نوعية الهواء الذي يؤدي إلى حالات مزمنة مثل الربو، كما أن فهم تكوين الهباء الجوي وموقعه في الغلاف الجوي يمكن أن يساعد في تحديد النقاط الساخنة للهواء الملوث وتقديم تحذيرات أفضل.

وسيساعد جهازا قياس الاستقطاب في المهمة، العلماء على دراسة حجم الجسيمات وتكوينها وكمية الهباء الجوي في الغلاف الجوي للأرض عبر مجموعة من الأطوال الموجية لتقديم صورة تفصيلية للمناطق الأكثر إشكالية.

رسم خرائط الحياة المجهرية من الفضاء

وتغطي المحيطات نحو 70 في المائة من سطح الأرض، وعادةً ما تطرح هذه المسطحات المائية الضخمة أسئلة أكثر مما تعطي إجابات، لكن العلماء يأملون أن تساعد «بيس» في تغيير ذلك.

وقالت سانت جيرمان: «من نواحٍ عديدة، نعرف عن سطح القمر أكثر مما نعرفه عن محيطاتنا. وستكون «بيس» هي المهمة الأكثر تقدمًا التي أطلقناها على الإطلاق لدراسة بيولوجيا المحيطات. سوف يعلمنا عن المحيطات بنفس الطريقة التي يعلمنا بها ويب عن الكون».

عادة ما تنبض المياه قبالة ساحل ألاسكا بالحياة كل عام مع أزهار العوالق النباتية المذهلة التي تسبب أنماط مياه البحر الزرقاء والخضراء (Ocean Colour Web)

من المدار، ستبحث «بيس» عن الضوء المنعكس من كائنات صغيرة تسمى العوالق النباتية لمعرفة مكان ازدهارها وهي تطفو على سطح محيطات الأرض. تحمل المهمة أداة لون المحيط. وسوف تستخدم أكثر من 100 طول موجى مختلف من الضوء لدراسة العوالق النباتية على نطاق عالمي وتحديد الأنواع المختلفة، بما في ذلك بعض الأنواع التي تشكل تهديداً لأشكال الحياة الأخرى، من الفضاء لأول مرة.

وحسبما وصفت سانت جيرمان «بيس»، فإنها مهمة ستستخدم نقطة فريدة من الفضاء لدراسة أصغر الأشياء التي لها التأثير الأكبر في المحيطات».


مقالات ذات صلة

وميض في زُحل... هل اصطدم كويكب بالكوكب العملاق السبت؟

يوميات الشرق هل كان ذلك الاصطدام الأول؟ (ناسا)

وميض في زُحل... هل اصطدم كويكب بالكوكب العملاق السبت؟

دعا علماء الفلك إلى المساعدة في تحديد جسم غامض يُعتقد أنه اصطدم بكوكب زحل، السبت، فيما قد يكون أول حالة مُسجَّلة لاصطدام جسم فضائي بهذا الكوكب الغازيّ العملاق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم أعلنت وكالة ناسا اكتشاف مذنب يتجول داخل المجموعة الشمسية (أ.ب)

«ناسا» تعلن اكتشاف مذنّب يتجول داخل المجموعة الشمسية

أعلنت وكالة ناسا اكتشاف مذنب يتجول داخل المجموعة الشمسية.

«الشرق الأوسط» (فلوريدا)
يوميات الشرق كويكب يهدّد القمر (وكالة الفضاء الأوروبية)

كويكب يقترب من القمر: انفجار نووي مُحتمل عام 2032؟

احتمال اصطدام الكويكب «2024 YR4» بالقمر ارتفع إلى 4.3 في المائة، وفق بيانات جمعها التلسكوب «جيمس ويب» الفضائي في مايو.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق محكومون بالهشاشة أمام الفوضى الكوكبية المحتملة (ناسا)

الأرض مُهدَّدة بالطرد من النظام الشمسي

من المرجَّح أن تبتلع الشمس الأرض خلال مليارات السنوات المقبلة. لكن، هل يمكن أن يكون هناك نجم مارّ في مسار تصادمي مع نظامنا الشمسي، وربما مع الأرض في النهاية؟

«الشرق الأوسط» (لندن)
تحليل إخباري ماسك وترمب في مركز كيندي للفضاء بعد نجاح «سبيس إكس» في إطلاق «فالكون 9» مايو 2020 (أ.ف.ب)

تحليل إخباري كيف يؤثر إلغاء «عقود ماسك» على «ناسا» والبنتاغون؟

يُهدّد تفاقم الخلاف بين إدارة ترمب وماسك بالحدّ من قدرة البنتاغون و«ناسا» على تحقيق أهدافهما المتعلقة بالفضاء، والتي تُسهّلها شركة «سبيس إكس».

إيلي يوسف (واشنطن)

الذكاء الاصطناعي يقلب المعادلة في فوضى «الحميات الغذائية»

الذكاء الاصطناعي يقلب المعادلة في فوضى «الحميات الغذائية»
TT

الذكاء الاصطناعي يقلب المعادلة في فوضى «الحميات الغذائية»

الذكاء الاصطناعي يقلب المعادلة في فوضى «الحميات الغذائية»

قال أبقراط في عام 400 قبل الميلاد: «اجعل غذاءك دواءك، واجعل دواءك غذاءك». ومنذ آلاف السنين، أدرك الإنسان أن ما يضعه في طبقه قد ينقذ حياته أو يدمرها. لكن في عصر الخوارزميات والبيانات الضخمة، هل ما زال علم التغذية يسير على هدى؟ أم أننا نأكل بناءً على توصيات متناقضة، وصفها أحد أشهر أطباء العصر بأنها «أقرب إلى التخمين»؟

فوضى الحميات الغذائية

وسط الفوضى المتزايدة في عالم الحميات الغذائية والنصائح الصحية المتضاربة، يبرز تساؤل محوري: هل لا يزال علم التغذية يسير على أسس علمية راسخة، أم أننا أصبحنا أسرى توصيات متناقضة أقرب إلى التخمين منها إلى الدليل؟

ولم يأت وصفٌ كهذا من ناقد عابر، بل صدر عن أحد أبرز أطباء العصر، الدكتور إريك توبول (Eric Topol) طبيب القلب الأميركي الشهير، والعالم الرائد في استخدامات الذكاء الاصطناعي في الطب، ومدير معهد سكريبس للأبحاث الانتقالية (Scripps Research Translational Institute) في كاليفورنيا.

يُعد الدكتور إريك توبول من الأصوات الرائدة في إعادة تشكيل ملامح الطب الحديث، وهو أحد أبرز من تصدوا لنقد النماذج التقليدية في الرعاية الصحية. وقد ألّف عدداً من الكتب المرجعية التي أحدثت تأثيراً عالمياً، من أبرزها Deep Medicine وThe Creative Destruction of Medicine، حيث مهّد من خلالها لفهمٍ جديد لدور البيانات في التشخيص والعلاج واتخاذ القرار الطبي.

وفي 17 يونيو (حزيران) الماضي، شارك توبول بصفته ضيفاً رئيسياً في «بودكاست دولي» بثّ عبر منصة YouTube تحت عنوان:

«Shocking Truth About AI, Chronic Disease, Toxins, Diet & Lifestyle For Longevity».

«طب التغذية الرقمي»

وقدّم الباحث رؤية ثاقبة حول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي لتطوير استراتيجيات تغذية شخصية قائمة على تحليل شامل لنمط حياة الفرد، وتاريخه المرضي، والعوامل البيئية التي يتعرض لها.

وفي حوارٍ لافت، قال توبول: «نحن لا نحتاج إلى مزيد من الدراسات العامة، بل إلى تغذية دقيقة مخصّصة للفرد. وهذا لن يتحقق إلا من خلال الذكاء الاصطناعي الذي يربط بين بيانات الطعام الحقيقي، والجينات، والسجلات الصحية في آن واحد».

وقد دعا توبول إلى تبنّي مفهوم جديد أطلق عليه اسم «طب التغذية الرقمي» (Digital Nutrition Medicine)، وهو نهج طبي مستقبلي يمكّن الأطباء من تصميم أنظمة غذائية فائقة التخصيص، تتوافق مع الشيفرة الوراثية لكل شخص، وتاريخه الصحي، وأسلوب حياته، في محاولة للانتقال من التغذية العامة إلى التغذية العميقة والدقيقة، بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليل الجيني.

لا تكاد تمرّ أشهر قليلة حتى تنقلب قائمة «الأطعمة الصحية» رأساً على عقب: ما كان يُصنّف بالأمس غذاءً ضاراً، يتحوّل اليوم إلى عنصر مفيد، والعكس صحيح. فبعد أن وُصِفت الدهون لعقود بأنها العدو الأول للقلب، اكتُشف لاحقاً أن بدائلها من السمن النباتي غنية بدهون متحولة أشد فتكاً.

أما البيض، الذي وُضِع تحت الحظر الغذائي الصارم، عاد ليوصى به كمصدر مثالي للبروتين. وبالنسبة للكحول، تنقل في التوصيات الطبية بين كونه حامياً للقلب إلى كونه مادة مسرطِنة بلا نقاش.

هشاشة أدلة الادعاءات الغذائية

لكن ما السبب وراء هذا التخبّط؟ الجواب، ببساطة، هو هشاشة الأدلة التي تُبنى عليها كثير من هذه الادعاءات: معظم «الاكتشافات» الغذائية لا تستند إلى تجارب سريرية صارمة، بل إلى دراسات رصدية تعتمد على ما يتذكره المشاركون عن طعامهم، وهي ذاكرة كثيراً ما تتعرض للتشويش والنسيان.

ولتفكيك هذه المنهجية، لا بد من فهم المفاهيم الثلاثة التالية:

> الدراسات الرصدية أو دراسات الملاحظة (Observational Studies): تعتمد على استبيانات شاملة تسأل آلاف الأشخاص عمّا تناولوه من طعام، ثم تربط هذه البيانات بمعدلات الإصابة بأمراض معينة.

> الإبلاغ الذاتي (Self-reporting): يُفترض أن يتذكّر الأشخاص، بدقّة، ما أكلوه على مدار شهور وربما سنوات... وهي مهمة مستحيلة، حتى بعد عشاء البارحة!

> غياب العلاقة السببية (Lack of Causality): مجرد وجود علاقة بين نوع من الطعام ومرض معين لا يعني بالضرورة أن الأول تسبب في الثاني؛ فالارتباط لا يعني السببية.

ويُعلق على هذا النهج البروفسور الشهير جون إيوانيديس (John Ioannidis)، أستاذ علم البيانات الطبية في جامعة ستانفورد وأحد أبرز نقّاد البحوث العلمية في العالم، قائلاً: «كثير من الدراسات الغذائية يمثل سلسلة من الأوهام الإحصائية التي تُغذّي الإعلام أكثر مما تُغذّي العقول».

دراسات بنتائج صادمة

في خضم هذا الجدال، جاءت دراسة PURE الشهيرة والتي بدأت عام 2003 وما زالت مستمرة بقيادة البروفسور سليم يوسف من جامعة ماكماستر الكندية - وهي واحدة من أضخم الدراسات التغذوية في التاريخ - لتُحدث زلزالاً في الأوساط العلمية. فقد تابعت الدراسة أكثر من 135 ألف شخص في 18 دولة على مدى سنوات، وانتهت إلى نتيجة صادمة: السبب الأول في أمراض القلب والوفاة لم يكن الدهون، بل الكربوهيدرات، التي طالما اعتُبرت أقل ضرراً.

لم تقف المفاجآت عند هذا الحد. ففي عام 2017، كشفت دراسة كبرى نُشرت في Journal of the American Medical Association أن نحو 45 في المائة من وفيات أمراض القلب، والسكتات الدماغية، والسكري في الولايات المتحدة يمكن ربطها بعشر عادات غذائية فقط، أبرزها نقص تناول المكسرات والخضراوات الكاملة وزيادة استهلاك الصوديوم والمشروبات المحلاة. ومع ذلك، ورغم الأرقام الصادمة، فإن هذه الدراسة، كغيرها، لم تتمكن من إثبات العلاقة السببية المباشرة.

كانت الرسالة غير المعلنة صادمة بوضوحها: نحن نخسر أرواحاً كل يوم بسبب جهلنا في علوم التغذية... لكننا لا نعرف من أين نبدأ أو بمن نثق.

ثلاث دراسات حديثة

وفي هذا الشهر فقط، تصدّرت ثلاث دراسات علمية بارزة المشهد الطبي، وطرحت تساؤلات جذرية حول ما نعدّه «حقائق غذائية» ثابتة:

> هل الملح بريء (من التهم الموجهة إليه)؟ في دراسة نُشرت في مجلة Frontiers in Nutrition، توصّل فريق بحثي أميركي - صيني إلى أن ارتفاع مستويات الصوديوم في النظام الغذائي قد يُقلّل من خطر الوفاة بنسبة 11 في المائة لدى مرضى حصى الكلى، في تناقض صريح مع التوصيات الغذائية العالمية التي طالما حذّرت من الملح.

> الصويا تثير القلق لدى الأطفال: في بحث نُشر في Journal of Pediatric Urology، كشف باحثو جامعة سينسيناتي أن الأطفال الذين يعتمدون على تغذية أنبوبية تحتوي على الصويا، أظهروا مستويات مرتفعة من الأوكسالات البولية، وهو عامل خطر معروف في تكوّن الحصى الكلوية.

> نهاية «الكأس اليومي»: أعلنت مسودّة الإرشادات الغذائية الأميركية لعام 2025 حذف التوصية التقليدية التي طالما شجّعت على استهلاك الكحول «باعتدال». وهو تحوّل كبير يُنهي عقوداً من الجدل العلمي حول فوائد كأس النبيذ اليومي.

هذه الدراسات أعادت فتح ملف تاريخي طالما أثار الجدل. ففي ستينيات القرن الماضي، نشر عالم الفسيولوجيا الأميركي أنسل كيز (Ancel Keys) دراسته الشهيرة «دول السبع»، التي زعمت أن الدهون المشبعة هي الجاني الأساسي في أمراض القلب. لكن كيز استبعد عمداً بيانات من 15 دولة أخرى لم تتماشَ مع فرضيته، ورغم ذلك، تبنّت جمعية القلب الأميركية نتائجه، واندلعت «حرب الزبدة»، لتُستبدل بالدهون الطبيعية دهون صناعية (Trans fats)، قبل أن نكتشف لاحقاً أنها مسرطنة وتم حظرها عالمياً.

في تعليقه على هذه الفوضى، يقول الدكتور إريك توبول بوضوح: «ما دمنا نستمر في تقديم توصيات غذائية عامة للجميع، فستبقى الأمراض العامة تطارد الجميع. والحل الوحيد هو التخصيص الدقيق... والذكاء الاصطناعي هو المفتاح».

إننا نقف على أعتاب عصر جديد: عصر يُصمَّم فيه نظامك الغذائي لك وحدك، بناءً على جيناتك، طريقة تفاعل جسدك مع الطعام، وتاريخك الصحي الكامل. لا مزيد من الوصفات العامة. بل تغذية دقيقة... بإشراف خوارزميات ذكية. وأخيراً، آن أوان التغذية الذكية الدقيقة: زمنٌ تُقرِّر فيه الخوارزميات، لا العناوين الصحافية الصاخبة، وصفة غذائك اليومي. والخلاصة الذهبيّة أن التوصيات الكلاسيكية تنقضُّ على نفسها واحدةً تلو الأخرى.

الذكاء الاصطناعي يفتح الباب لثورة علميّة تُعيد تعريف ما هو «صحي» وفق بياناتك الحيّة، لا وفق متوسطات عامّة. والقاعدة الأهم: لا تُقصي طعاماً بلا دليل، ولا تتّبع حمية لمجرد أنّها رائجة.

في عالمٍ تتبدّل فيه النصائح مع كل موسم، قد يكون الذكاء الاصطناعي أوّل خبير تغذية يمكن الوثوق به حقاً.