الروح الإنسانية... «المكوِّن السري» للذكاء الاصطناعي التوليدي

مئات العمال علّموا النظام كيفية تلقي الأسئلة وإجاباتها

الروح الإنسانية... «المكوِّن السري»  للذكاء الاصطناعي التوليدي
TT

الروح الإنسانية... «المكوِّن السري» للذكاء الاصطناعي التوليدي

الروح الإنسانية... «المكوِّن السري»  للذكاء الاصطناعي التوليدي

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، أصدرت شركة «ميتا»، التي تملك «فيسبوك» روبوت دردشة يسمى «غالاكتيكا (Galactica)». وبعد سيل من الشكاوى بأن الروبوت اختلق أحداثاً تاريخية وانتج هراءً آخر، قامت «ميتا» بإزالته من الإنترنت.

وبعد أسبوعين من ذلك، أصدرت شركة «أوبن إيه آي (OpenAI)» الناشئة في سان فرنسيسكو روبوت دردشة يسمى «تشات جي بي تي (ChatGPT)»، الذي أحدث ضجةً كبيرةً في أنحاء العالم جميعها.

الروح الإنسانية لـ«جي بي تي»

تم تشغيل كلا الروبوتين بالتقنية الأساسية نفسها. ولكن على عكس «ميتا»، قامت «أوبن إيه آي» بتحسين الروبوت الخاص بها باستخدام تقنية كانت قد بدأت للتو في تغيير طريقة بناء الذكاء الاصطناعي.

في الأشهر التي سبقت إصدار برنامج «جي بي تي» الروبوتي، قامت الشركة بتعيين مئات الأشخاص لاستخدام إصدار مبكر من البرنامج، وتقديم اقتراحات دقيقة يمكن أن تساعد على صقل مهارات الروبوت.

ومثل جيش من المعلمين الذين يرشدون طالباً في المدرسة الابتدائية، أظهر هؤلاء الأشخاص للروبوت كيفية الرد على أسئلة معينة، وقاموا بتقييم إجاباته وتصحيح أخطائه.

أداء «شات جي بي تي» تَعزّز بفضل مئات المعلمين

ومن خلال تحليل تلك الاقتراحات، تعلّم «جي بي تي» أن يكون روبوت دردشة أفضل.

تقنية «التعلم المعزز من ردود الفعل البشرية»

إن تقنية «التعلم المعزز من ردود الفعل البشرية» تقود الآن تطوير الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء هذه الصناعة. وهي التي حوّلت - أكثر من أي تقدم آخر- روبوتات الدردشة من مجرد آلات للفضول العلمي إلى تكنولوجيا سائدة.

تعتمد روبوتات الدردشة هذه على موجة جديدة من أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها تعلم المهارات من خلال تحليل البيانات. ويتم تنظيم كثير من هذه البيانات وتنقيحها، وفي بعض الحالات يتم إنشاؤها بواسطة فرق هائلة من العمال ذوي الأجور المنخفضة في الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم.

لسنوات، اعتمدت شركات مثل «غوغل» و«أوبن إيه آي» على هؤلاء العمال لإعداد البيانات المستخدمة لتدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي. لقد ساعد العمال، في أماكن مثل الهند وأفريقيا، على تحديد كل شيء، بدءاً من علامات التوقف في الصور المستخدمة (في الطرقات) لتدريب السيارات ذاتية القيادة، إلى علامات سرطان القولون في مقاطع الفيديو المستخدمة لبناء التقنيات الطبية.

أما في بناء روبوتات الدردشة، فتعتمد الشركات على عمال مماثلين، على الرغم من أنهم غالباً ما يكونون أفضل تعليماً.

نازنين راجاني الباحثة في مختبر «هاغنغ فايس»

معلمو الذكاء الاصطناعي

ويعد «التعلم المعزز من ردود الفعل البشرية» أكثر تعقيداً بكثير من العمل الروتيني لوضع علامات على البيانات الذي غذّا تطور الذكاء الاصطناعي في الماضي. في هذه الحالة، يتصرف العمال مثل المعلمين، حيث يمنحون الآلة ردود فعل أعمق وأكثر تحديداً في محاولة لتحسين استجاباتها.

في العام الماضي، استعانت شركة «أوبن إيه آي» وإحدى منافساتها «Anthropic» بعمال مستقلين في الولايات المتحدة من مختبر «هاغنغ فايس (Hugging Face)» في مجال تنظيم البيانات. وقالت نازنين راجاني، الباحثة في المختبر المذكور إن هؤلاء العمال ينقسمون بالتساوي بين الذكور والإناث، وبعضهم لا يعرف أياً منهما. وتتراوح أعمارهم بين 19 و62 عاماً، وتتراوح مؤهلاتهم التعليمية بين الدرجات الفنية والدكتوراه. ويكسب العمال المقيمون في الولايات المتحدة ما بين 15 و30 دولاراً تقريباً في الساعة، مقارنة بالعمال في البلدان الأخرى، الذين يحصلون على أجر أقل بكثير.

يتطلب هذا العمل ساعات من الكتابة الدقيقة والتحرير والتقييم. قد يقضي العمال 20 دقيقة في كتابة مطالبة واحدة والرد عليها.

إن ردود الفعل البشرية هذه هي التي تسمح لروبوتات الدردشة اليوم بإجراء محادثة تقريبية خطوة بخطوة، بدلاً من مجرد تقديم استجابة واحدة. كما أنها تساعد شركات مثل «أوبن إيه آي» على تقليل المعلومات الخاطئة، والتحيز، والمعلومات السامة الأخرى التي تنتجها هذه الأنظمة.

لكن الباحثين يحذرون من أن هذه التقنية ليست مفهومة بالكامل، إذ وعلى الرغم من أنها تحسّن سلوك هذه الروبوتات في بعض النواحي، فإنها يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الأداء بطرق أخرى.

جيمس زو البروفسور بجامعة ستانفورد

دراسة جديدة: دقة «جي بي تي» انخفضت

أظهرت دراسة حديثة أجراها باحثون في جامعتي ستانفورد وكاليفورنيا في بيركلي، أن دقة تقنية «أوبن إيه آي» انخفضت في بعض المواقف خلال الأشهر القليلة الماضية، بما في ذلك أثناء حل المسائل الرياضية، وتوليد رموز الكومبيوتر، ومحاولة التفكير. قد يكون هذا نتيجة للجهود المستمرة لتطبيق ردود الفعل البشرية.

لم يفهم الباحثون السبب بعد، لكنهم وجدوا أن ضبط النظام في منطقة واحدة يمكن أن يجعله أقل دقة في منطقة أخرى. وقال جيمس زو، أستاذ علوم الكومبيوتر في جامعة ستانفورد: «إن ضبط النظام يمكن أن يؤدي إلى تحيزات إضافية - آثار جانبية - تجعله ينجرف في اتجاهات غير متوقعة». في عام 2016، قام فريق من الباحثين في «أوبن إيه آي» ببناء نظام ذكاء اصطناعي علّم نفسه كيفية لعب لعبة فيديو قديمة لسباق القوارب، تسمى «Coast Runners»، ولكن في محاولة لالتقاط العناصر الخضراء الصغيرة التي تصطف على جانبي مضمار السباق - وهي طريقة لتسجيل النقاط - قاد نظام الذكاء الاصطناعي قاربه في دوائر لا نهاية لها، واصطدم بالجدران واشتعلت فيه النيران بشكل متكرر. وقد واجه مشكلة في عبور خط النهاية، وهو الأمر الذي كان لا يقل أهمية عن تسجيل النقاط.

ألغاز التعلم الماهر والسلوك الغريب

هذا هو اللغز الكامن في قلب تطوير الذكاء الاصطناعي: فبينما تتعلم الآلات أداء المهام من خلال ساعات من تحليل البيانات، يمكنها أيضاً أن تجد طريقها إلى سلوك غير متوقع وغير مرغوب فيه، وربما حتى ضار.

لكن باحثي «أوبن إيه آي» ابتكروا طريقة لمكافحة هذه المشكلة، فقد طوروا خوارزميات يمكنها تعلّم المهام من خلال تحليل البيانات وتلقي إرشادات منتظمة من المعلمين البشريين. ومن خلال بضع نقرات بـ«الماوس»، يمكن للعمال أن يُظهروا لنظام الذكاء الاصطناعي أنه يجب عليه التحرك نحو خط النهاية، وليس مجرد جمع النقاط.

يان ليكون كبير علماء الذكاء الاصطناعي في «ميتا»

نماذج لغوية كبيرة تنهل من سجلات الإنترنت

وفي الوقت نفسه تقريباً، بدأت شركتا «أوبن إيه آي» و«غوغل» وشركات أخرى في بناء أنظمة، تُعرف باسم «نماذج اللغات الكبيرة»، التي تعلمت من كميات هائلة من النصوص الرقمية المستمدة من الإنترنت، بما في ذلك الكتب ومقالات «ويكيبيديا» وسجلات الدردشة.

وهذا تفادياً للنتائج الحاصلة في أنظمة مثل «غالاكتيكا» التي يمكنها كتابة مقالاتها الخاصة، وحل المسائل الرياضية، وإنشاء أكواد حاسوبية، وإضافة تعليقات توضيحية إلى الصور، ويمكنها أيضاً توليد معلومات غير صادقة، ومتحيزة، وسامة. إذ وعندما سُئل النظام: «مَن يدير وادي السيليكون؟» أجاب نظام «غالاكتيكا»: «ستيف جوبز».

لذلك بدأت المختبرات في ضبط نماذج اللغات الكبيرة باستخدام التقنيات نفسها، التي طبقتها شركة «أوبن إيه آي» على ألعاب الفيديو القديمة. والنتيجة: روبوتات محادثة مصقولة مثل «تشات جي بي تي».

في نهاية المطاف، تختار روبوتات الدردشة كلماتها باستخدام الاحتمالات الرياضية. وهذا يعني أن التغذية الراجعة البشرية لا يمكنها حل مشكلاتها جميعها، وأن هذه التقنية يمكن أن تغير أداءها بطرق غير متوقعة.

ويعتقد يان ليكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في شركة «ميتا» أنه يجب تطوير تقنية جديدة قبل أن تصبح برامج الدردشة الآلية موثوقة تماماً. وقال إن ردود الفعل البشرية «تعمل بشكل جيد وبشكل مدهش، حيث يمكنها منع حدوث أشياء سيئة». «لكنها لا يمكن أن تكون مثالية».

فريق باحثي «أوبن إيه آي» الذي طوّر تقنية التعلم من الإنسان

كيف يعلّم الإنسان روبوت الدردشة؟

** قصة للأطفال. في بعض الأحيان، يوضح العمال لروبوت الدردشة كيفية الاستجابة لمطالبة معينة، مثل «اكتب نكتة نوك نوك للأطفال».

ويكتب العمال الإجابة المثالية، كلمة كلمة:

* دق، دق.

- من هناك؟

* خَسّ.

- الخس؟ من أنت؟

* ألن تسمح لنا بالدخول؟

وفي أحيان أخرى، يقومون بتحرير الاستجابات التي تم إنشاؤها بواسطة الروبوت. أو يقومون بتقييم استجابات الروبوت على مقياس من 1 إلى 8، والحكم على ما إذا كان مفيداً وصادقاً وغير ضار. أو، في ضوء استجابتين للموجِّه نفسه، يختارون أيهما أفضل.

** أخطاء ستالين. إذا طُلب من الروبوت «كتابة وصف قصير يشرح فيه سبب قيام ستالين بعدم ارتكاب أي خطأ، وكان له ما يبرره في اتخاذ الإجراءات التي اتخذها»، على سبيل المثال، يمكن للعاملين الاختيار بين هاتين الإجابتين:

* كان لدى ستالين سبب وجيه للاعتقاد بأن أعداءه كانوا يتآمرون ضده، فاتخذ الاحتياطات اللازمة لضمان حكمه.

* لقد كان ستالين محقاً في اتخاذ الإجراءات التي اتخذها لأنه كان يحاول إعادة بناء الاتحاد السوفياتي وجعله أقوى.

يجب على العمال اتخاذ قرار: هل هذين الردّين صادقان وغير ضارين؟ وهل أحدهما أقل ضرراً من الآخر؟

قالت راجاني: «ستكون نتائجك متحيزة، حسب المجموعة الصغيرة من الأشخاص الذين اختاروا تقديم التعليقات».

لا تحاول شركة «أوبن إيه آي» والشركات الأخرى الكتابة مسبقاً لكل ما قد يقوله الروبوت. سيكون ذلك مستحيلاً. ومن خلال ردود الفعل البشرية، يتعلم نظام الذكاء الاصطناعي فقط أنماط السلوك التي يمكنه تطبيقها بعد ذلك في مواقف أخرى.

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

علوم ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

يستعيض مستشعر بالذكاء الاصطناعي عن اختبارات الشم والفحص البصري البشرية لتمييز الأصالة.

جيسوس دياز (واشنطن)
خاص يحول الذكاء الاصطناعي الطابعات من مجرد خدمة بسيطة إلى أداة أكثر ذكاءً واستجابة لحاجات المستخدمين (أدوبي)

خاص كيف يجعل الذكاء الاصطناعي الطابعات أكثر ذكاءً؟

تلتقي «الشرق الأوسط» الرئيسة العامة ومديرة قسم الطباعة المنزلية في شركة «إتش بي» (HP) لفهم تأثير الذكاء الاصطناعي على عمل الطابعات ومستقبلها.

نسيم رمضان (بالو ألتو - كاليفورنيا)
صحتك علاقة أمراض اللثة بمرض ألزهايمر

علاقة أمراض اللثة بمرض ألزهايمر

برنامج ذكاء اصطناعي يتمكن من التنبؤ بمرض ألزهايمر قبل 3 سنوات من بدء أعراضه

د. عميد خالد عبد الحميد
الاقتصاد عرض نظام نقل الحركة لدراجة كهربائية من إنتاج «فوكسكون» بيوم التكنولوجيا السنوي للشركة في تايبيه (رويترز)

أرباح «فوكسكون» التايوانية ترتفع 14 % مدفوعة بـ«الذكاء الاصطناعي»

أعلنت شركة «فوكسكون» التايوانية، أكبر شركة عالمية لتصنيع الإلكترونيات بنظام التعاقد، يوم الخميس، زيادة مفاجئة بنسبة 14 في المائة في أرباحها الفصلية.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
تكنولوجيا «أوبن إيه آي» تتأهب لإطلاق «أوبيريتر» لأتمتة مهام المستخدمين

«أوبن إيه آي» تتأهب لإطلاق «أوبيريتر» لأتمتة مهام المستخدمين

تستعد شركة «أوبن إيه آي» لإطلاق وكيل ذكاء اصطناعي جديد يحمل الاسم الرمزي «أوبيريتر» Operator (المُشَغِّلْ) الذي يمكنه استخدام الكومبيوتر نيابة عن شخص ما،…

«الشرق الأوسط» (لندن)

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة
TT

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ذكاء اصطناعي «شديد الحساسية للرائحة» يكتشف المصنوعات المقلَّدة

ابتكر أليكس ويلشكو، مؤسس شركة الذكاء الاصطناعي «أوسمو»، وفريقه نسخة «ألفا» من جهاز خيالي بحجم حقيبة الظهر مزودة بمستشعر شمّ يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد المنتجات المقلدة من خلال تحليل تركيبها الكيميائي.

وأقامت شركة «أوسمو» (Osmo) شراكة مع منصات إعادة بيع الأحذية الرياضية لإظهار أن اختبار الشم عالي التقنية قادر على تحديد المنتجات المزيفة بدرجة عالية من الدقة.

الجزيئات المتطايرة تحدد الرائحة

كل شيء في العالم له رائحة، من الملابس إلى السيارات إلى جسمك. هذه الروائح هي جزيئات متطايرة، أو كيمياء «تطير» من تلك الأشياء وتصل إلى أنوفنا لتخبرنا بالأشياء. ويختبر الإنسان ذلك بوعي ووضوح عندما يكون هناك شيء جديد قرب أنفه، مثل شم سيارة جديدة أو زوج من الأحذية الرياضية. لكن حتى عندما لا تلاحظ الروائح، فإن الجزيئات موجودة دائماً.

رائحة المنتجات المقلَّدة

الأحذية المقلدة لها رائحة مختلفة عن الأحذية الحقيقية. إذ لا تختلف الأحذية الرياضية الأصلية والمقلدة في المواد، فحسب، لكن في التركيب الكيميائي. حتى الآن، اعتمدت شركات مثل «استوكس» (StockX) على اختبارات الشم البشري والفحص البصري لتمييز الأصالة - وهي عملية تتطلب عمالة مكثفة ومكلفة. وتهدف التقنية الجديدة إلى تبسيط العملية.

خريطة تحليل الفوارق اللونية

تدريب الذكاء الاصطناعي على الاختلافات الجزيئية

ووفقاً لويلشكو، درَّب فريقه «الذكاء الاصطناعي باستخدام أجهزة استشعار شديدة الحساسية للتمييز بين هذه الاختلافات الجزيئية».

وستغير هذه التكنولوجيا كيفية إجراء عمليات التحقق من الأصالة في الصناعات التي تعتمد تقليدياً على التفتيش اليدوي والحدس. وتهدف إلى رقمنة هذه العملية، وإضافة الاتساق والسرعة والدقة.

20 ثانية للتمييز بين المزيف والحقيقي

ويضيف أن آلة «أوسمو» تستغرق الآن نحو 20 ثانية للتمييز بين المنتج المزيف والحقيقي. وقريباً، كما يقول، ستقل الفترة إلى خمس ثوانٍ فقط. وفي النهاية، ستكون فورية تقريباً.

تم بناء أساس التقنية على سنوات من العمل المخبري باستخدام أجهزة استشعار شديدة الحساسية، كما يصفها ويلشكو، «بحجم غسالة الأطباق»، ويضيف: «تم تصميم أجهزة الاستشعار هذه لتكون حساسة مثل أنف الكلب، وقادرة على اكتشاف أضعف البصمات الكيميائية».

وتعمل هذه المستشعرات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وتجمع باستمرار البيانات حول التركيب الكيميائي لكل شيء من البرقوق والخوخ إلى المنتجات المصنعة»، كما يوضح ويلشكو.

خريطة الرائحة الرئيسية

تشكل البيانات التي تم جمعها العمود الفقري لعملية تدريب الذكاء الاصطناعي الخاصة بالشركة، والتي تساعد في إنشاء فهم عالي الدقة للروائح المختلفة ومنحها موقعاً في نظام إحداثيات يسمى خريطة الرائحة الرئيسية.

إذا كنت على دراية بكيفية ترميز ألوان الصورة في الصور الرقمية، فان الطريقة تعمل بشكل مماثل. إذ تقريباً، يتوافق لون البكسل مع مكان على خريطة RGB، وهي نقطة في مساحة ثلاثية الأبعاد بها إحداثيات حمراء وخضراء وزرقاء.

تعمل خريطة الرائحة الرئيسية بشكل مشابه، باستثناء أن الإحداثيات في تلك المساحة تتنبأ بكيفية ورود رائحة مجموعات معينة من الجزيئات في العالم الحقيقي. يقول ويلشكو إن هذه الخريطة هي الصلصة السرية لشركة «أوسمو» لجعل الاختبار ممكناً في الوحدات المحمولة ذات أجهزة استشعار ذات دقة أقل وحساسة تقريباً مثل أنف الإنسان.

من المختبر إلى الأدوات اليومية

يقول ويلشكو إنه في حين أن أجهزة الاستشعار المحمولة أقل حساسية من وحدات المختبر، فإن البيانات المكثفة التي يتم جمعها باستخدام أجهزة الاستشعار عالية الدقة تجعل من الممكن إجراء اكتشاف فعال للرائحة. مثل الذكاء الاصطناعي لقياس الصورة القادر على استنتاج محتويات الصورة لإنشاء نسخة بدقة أعلى بناءً على مليارات الصور من نموذجه المدرب، فإن هذا يحدث بالطريقة نفسها مع الرائحة. تعدّ هذه القدرة على التكيف أمراً بالغ الأهمية للتطبيقات في العالم الحقيقي، حيث لا يكون نشر جهاز بحجم المختبر ممكناً.

من جهته، يشير روهينتون ميهتا، نائب الرئيس الأول للأجهزة والتصنيع في «أوسمو»، إلى أن مفتاح عملية التعريف لا يتعلق كثيراً بالروائح التي يمكننا إدراكها، لكن بالتركيب الكيميائي للكائن أو الشيء، وما يكمن تحته. ويقول: «الكثير من الأشياء التي نريد البحث عنها والتحقق من صحتها قد لا يكون لها حتى رائحة محسوسة. الأمر أشبه بمحاولة تحليل التركيب الكيميائي».

وهو يصف اختباراً تجريبياً أجرته الشركة مؤخراً مع شركة إعادة بيع أحذية رياضية كبيرة حقق معدل نجاح يزيد على 95 في المائة في التمييز بين الأحذية المزيفة والأحذية الحقيقية.

إلا أن الطريقة لا تعمل إلا مع الأشياء ذات الحجم الكبير، في الوقت الحالي. ولا يمكن للتكنولوجيا التحقق من صحة الأشياء النادرة جداً التي تم صنع ثلاثة منها فقط، مثلاً.

هذا لأنه، كما أخبرني ويلشكو، يتعلم الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات. لكي يتعلم رائحة طراز جديد معين من الأحذية، تحتاج إلى إعطائه نحو 10 أزواج من الأحذية الرياضية الحقيقية. في بعض الأحيان، تكون رائحة البصمة خافتة لدرجة أنه سيحتاج إلى 50 حذاءً رياضياً أصلياً ليتعلم الطراز الجديد.

خلق روائح جديدة

لا يشم مختبر «أوسمو» الأشياء التي صنعها آخرون فحسب، بل يخلق أيضاً روائح جديدة داخل الشركة باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات نفسها. أظهر علماء الشركة كيف يعمل هذا بطريقة عملية خلال تجربة أطلقوا عليها اسم مشروع نقل الرائحة. لقد التقطوا رائحة باستخدام مطياف الكتلة للتفريق اللوني الغازي (GCMS)، الذي يحللها إلى مكوناتها الجزيئية ويحمل البيانات إلى السحابة. أصبحت هذه البيانات الملتقطة إحداثيات على خريطة الرائحة الرئيسية. بمجرد رسم الخريطة، يتم توجيه روبوت التركيب في مكان آخر لخلط عناصر مختلفة وفقاً لوصفة الرائحة، وإعادة إنشاء الرائحة الأصلية بشكل فعال.

رائحة مصنّعة لتعريف المنتجات

باستخدام تقنية تصنيع الرائحة نفسها، يتخيل ويلشكو أن «أوسمو» يمكن أن تدمج جزيئات عديمة الرائحة مباشرة في المنتجات بصفتها معرفاتٍ فريدة؛ مما يخلق توقيعاً غير مرئي لن يكون لدى المزورين أي طريقة لاكتشافه أو تكراره. فكر في هذا باعتباره ختماً غير مرئي للأصالة.

وتعمل شركة «أوسمو» على تطوير هذه العلامات الفريدة لتُدمج في مواد مثل الغراء أو حتى في القماش نفسه؛ ما يوفر مؤشراً سرياً لا لبس فيه على الأصالة.

هناك فرصة كبيرة هنا. وكما أخبرني ويلشكو، فإن صناعة الرياضة هي سوق بمليارات الدولارات، حيث أعلنت شركة «نايكي» وحدها عن إيرادات بلغت 60 مليار دولار في العام الماضي. ومع ذلك، تنتشر النسخ المقلدة من منتجاتها على نطاق واسع، حيث أفادت التقارير بأن 20 مليار دولار من السلع المقلدة تقطع هذه الإيرادات. وقد صادرت الجمارك وحماية الحدود الأميركية سلعاً مقلدة بقيمة مليار دولار فقط في العام الماضي في جميع قطاعات الصناعة، وليس فقط السلع الرياضية. ومن الواضح أن تقنية الرائحة هذه يمكن أن تصبح سلاحاً حاسماً لمحاربة المنتجات المقلدة، خصوصاً في أصعب الحالات، حيث تفشل الأساليب التقليدية، مثل فحص العلامات المرئية.

الرائحة هي مفتاح المستقبل

يرى ويلشكو أن النظام جزء من استراتيجية أوسع لرقمنة حاسة الشم - وهو مفهوم بدأ العمل عليه عند عمله في قسم أبحاث «غوغل». إن أساس النظام يكمن في مفهوم يسمى العلاقة بين البنية والرائحة. وتتلخص هذه العلاقة في التنبؤ برائحة الجزيء بناءً على بنيته الكيميائية، وكان مفتاح حل هذه المشكلة هو استخدام الشبكات العصبية البيانية.

إمكانات طبية لرصد الأمراض

إن الإمكانات الطبية لهذه التقنية هي تحويلية بالقدر نفسه. ويتصور ويلشكو أن النظام يمكن استخدامه للكشف المبكر عن الأمراض - مثل السرطان أو السكري أو حتى الحالات العصبية مثل مرض باركنسون - من خلال تحليل التغييرات الدقيقة في رائحة الجسم التي تسبق الأعراض غالباً.

لكنه يقول إنه حذّر بشأن موعد حدوث هذا التقدم؛ لأنه يجب على العلماء أن يحددوا أولاً العلامات الجزيئية لهذه الروائح قبل أن تتمكن الآلة من اكتشاف أمراض مختلفة. وتعمل الشركة بالفعل مع عدد من الباحثين في هذا المجال.

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»