الطاقة العقلية ودورها في بناء شخصية الإنسان

مكوّن مرافق يحوّل الموهبة إلى عبقرية

الطاقة العقلية ودورها في بناء شخصية الإنسان
TT

الطاقة العقلية ودورها في بناء شخصية الإنسان

الطاقة العقلية ودورها في بناء شخصية الإنسان

«الطاقة العقلية»: يصعب تعريفها، ومن الأصعب قياسها، ولكنّ الجميع يريد المزيد منها.

يزن الدماغ 2 في المائة من مجمل وزن الجسم ولكنّه يستهلك ما بين 20 و25 في المائة من الطاقة الأيضية للحفاظ على 86 مليون خليّة عصبية و164 تريليون مشبك عصبي - وهذا فقط في حال السكون.

يرتفع الطلب على الطاقة إلى الضعف فور انطلاق نشاط الدماغ. يتطلّب التركيز مثلاً الكثير من الجهد الدماغي، وكذلك ممارسة ضبط النفس. بدورها، تستهلك وظائف اتخاذ القرار، والتعاطف، وحتّى التأمّل الكثير من الموارد العقلية. ويجب ألّا ننسى الإرهاق الذي تسببه وظائف عدّة كتلقّي المعلومات ومعالجتها، ومراجعة محتوى الذاكرة، والحفاظ على التركيز والاهتمام، وحتّى بذل المجهود لمقاومة التشتّت الذهني.

لا يمكننا التفكير، والضحك، والاستجابة للمخاطر، والحلم بالمستقبل، ولا حتّى تذكّر أين وضعنا مفتاح السيارة من دون طاقة دماغية. تكمن هذه الطاقة حرفياً في قلب كلّ شيء نفعله أو نخطّط لفعله. يحتاج تنشيط الدماغ إلى الأكسجين، والغلوكوز، ومجموعة كاملة من الأغذية الكبيرة والدقيقة، فضلاً عن أنّه يفرض على القلب ضبط نشاط ضخّه، ما يرفع ضغط الدم.

الرابط المفقود

تغيب الطاقة العقلية mental energy، على أهميّتها، عن معظم اعتبارات المعالجات النفسية، حتّى إنّ مفهوم الطاقة العقلية ليس واضحاً بعد. إذ يصفها أحد النماذج بأنّها أجزاء: واحدٌ يمثّل الحالة المزاجية mood state (المشاعر حيال القدرة على إتمام نشاطات عقلية أو جسدية)، والثاني يمثّل الإدراك cognition (ينعكس في اختبارات الانتباه وسرعة معالجة المعلومات)، والثالث يمثّل الدافع motivation (الإصرار والحماس). يقيس «مقياس ملف الأوضاع المزاجية» أو «بومس»، الطاقة العقلية بالاعتماد على درجة توافق أحدهم مع توصيف معيّن كـ«نشيط، ومتحمّس، وديناميكي»، ولكن لا يوجد مقياس أو وسيلة متّفق عليها لتقييم الطاقة العقلية.

صحيح أنّ مصطلحي «الدافع» والطاقة العقلية يُستخدمان غالباً للتعبير عن نفس المعنى، ولكن يُنظر إليهما على أنّهما ظاهرتان مختلفتان لسبب وجيه. يقول عالم النفس روي بوميستر: «أرى الدافع كالرغبة، بينما تعود الطاقة للفعل والتفكير. الدافع هو أحد أسس النفس، ويرتبط بشكلٍ وثيق بما يحتاج إليه البشر للعيش والتكاثر، والرغبة موجودة لدى أصحاب الطاقة العقلية المنخفضة أو العالية».

أحدث بوميستر خضّة في عالم علم النفس الحديث في أواخر التسعينات بتعريفه الطاقة العقلية على أنّها لاعبٌ أساسي في حياتنا العقلية اليومية، وتقديمه أدلّة (لا تزال محلّ جدل) على أنّ ضبط النفس، أي الجانب المركزي في وظيفة الدماغ التنفيذية، هو ظاهرة تعتمد على الطاقة. يستخدم ضبط النفس self - regulation (أو ما يُعرف أيضاً بقوّة الإرادة) مصادر محدّدة من الطاقة، أي إنّ المهمّة التي تتطلّب ضبطاً للنفس ستعطّل أداء المهمّة التالية – فيما يُعرف بـ«نضوب الأنا»؛ بمعنى آخر، يعود النشاط الكبير هنا للطاقة التي يوفرها الغلوكوز، وليس للدافع.

ويشرح بوميستر: «اخترنا مصطلح (نضوب الأنا) كنوعٍ من التكريم لفرويد لأنّه الوحيد حتّى يومنا هذا الذي رأى أنّ النفس مصنوعة من الطاقة ولو بجزءٍ منها على الأقل»، لافتاً إلى أنّ الحياة برمّتها عبارة عن معالجات طاقوية.

تلعب الطاقة العقلية، مهما كانت، دوراً في بناء الشخصية والإنجاز في حياة الإنسان. من جهته، رأى عالم الجينات السلوكية ديفيد لايكن، الطاقة العقلية كمكوّن مرافق يحوّل الموهبة إلى عبقرية، وقدرة يتشاركها كبار المفكّرين وأصحاب الإنجازات من أرخميدس إلى إسحاق نيوتن، وبن فرانكلين، وألكسندر هاملتون، وتيدي روزفلت، وبابلو بيكاسو.

العقل والفكر والمناعة

ترتبط الطاقة العقلية بالأداء الفكري بشكلٍ وثيق، ما يعني أنّها مرتبطة أيضاً بالوظيفة المناعية.

ينشط الجهاز المناعي بفعل التوتر والأمراض، أي التهديدات الداخلية أو الخارجية ومن بينها الأفكار المزعجة، فيُطلق استجابة (ردة فعل) التهابية تزيد الطلب على الطاقة بشكلٍ كبير. تشير الأدلّة إلى أنّ الالتهاب يحوّل انتباه الإنسان إلى الانحياز السلبي، الذي يعد ممراً محتملاً نحو الاكتئاب، المسبب الرئيسي لجميع الأوضاع النفسية المؤدية لتراجع الطاقة العقلية. (تلعب اضطرابات المعالجات الأيضية في الخلايا العقلية دوراً متزايداً في اضطرابات الصحة النفسية كالاكتئاب والتراجع الإدراكي).

من المغري الاعتقاد أنّ نقيض الطاقة العقلية هو التعب، ولكن بعض الأدلّة العلمية يشير إلى أنّهما وضعان مختلفان كلياً مدعومين بآليات مختلفة، ويلبّيان حاجات مختلفة. يتسبب الجلوس خلف المكتب طوال النهار في تراجع واستنفاد الطاقة دون أن يُشعرنا بتعب إضافي. ويشير بعض الأبحاث إلى أنّ ممارسة الرياضة باعتدال ترفع مستوى الطاقة دون التأثير على درجات التعب. ويبدو أيضاً أنّ أنظمة الناقلات العصبية تميّز بين الاثنين: التنشيط، مدفوعٌ بالدوبامين والنورإبينفرين، يدعم سلوك التقارب، بينما يحصل التعب بتسهيل من السيروتونين والسيتوكين الالتهابي، ويدعم سلوك الهروب من المسؤولية. بمعنى آخر، نقيض الطاقة ليس التعب، بل اللامبالاة، على حدّ اعتقاد البعض.

في الخلاصة، ومهما كانت النتيجة عندما يتضح أخيراً مفهوم الطاقة العقلية، يبقى شيءٌ واحدٌ واضحٌ وأكيد: إنّها شيءٌ يريد الناس المزيد منه. لعلّ الأوقات المقلقة التي يعيشها الناس تمنعهم من التفكير بشكلٍ منطقي ومن اتخاذ قرارات حتّى ولو كانت سخيفة، وتعرّضهم لتهديدات وجودية مباشرة، وهذا ما يسبب تصاعد الطلب على الطاقة العقلية؛ أو لعلّها ببساطة كلفة امتلاك قشرة مخيّة كبيرة في زمن فرط المعلومات.

توجد وسائل معروفة للحفاظ على استدامة الطاقة العقلية. تعد العادات مثلاً من أفضل حافظات هذه الطاقة لأنّها تنفي الحاجة إلى اتخاذ القرارات. تتمتّع العادات الجيّدة بدورها في تأثير أفضل لأنّها تنفي الحاجة لاستهلاك الطاقة في تعويض الضرر الذي سببته العادات السيئة.

يستطيع الإنسان أيضاً توليد الطاقة العقلية من داخله بالاعتماد على تقنية تُعرف بالتباين الدماغي. طوّر عالم النفس غابرييل أوتينغن من جامعة نيويورك، التباين الدماغي mental contrasting كوسيلة لتجنيد الطاقة الضرورية لتحويل الأهداف إلى إنجازات.

تتطلّب التقنية تخيّل المستقبل الذي يريد الإنسان بلوغه وأفضل نتيجة من الهدف المنشود، بالإضافة إلى مشاعر الإنجاز والفخر. ولكنّ الجزء الأهمّ في هذه التقنية هو تجنّب الخيال الذي يناقض بين الأمنيات وحقيقة العمل المطلوب لتحقيقها.

بعدها، يصدر الأشخاص أحكاماً حول أرجحية بلوغهم المستقبل المنشود وتكون هذه الأحكام محفّزة، ثمّ يُصار إلى قياس الطاقة جسدياً من خلال اختبارات قوّة قبضة اليد. ووجد أوتينغن أيضاً أنّ التباين الدماغي يعزّز وضع النشوة العام الذي يُصار خلاله إلى نقل الطاقة للمهام العقلية المنفصلة تماماً عن الخيال الذي وُلدت منه.

مخزون الطاقة

تُكتسب الطاقة العقلية أيضاً من خلال النظام الغذائي. تعد الأغذية الكبيرة، أي البروتينات والنشويات والدهون، مهمّة جداً، بالإضافة إلى جميع أنواع المغذيات الدقيقة. وبصفته مصنع الطاقة في الجسم، يحتاج الدماغ إلى مخزون ثابت من هذه الأغذية. يلجأ الكثيرون إلى تناول المكمّلات الغذائية التي تنشّط الطاقة العقلية، وأبرزها فيتامينات بي، وسي، ودي، بالإضافة إلى أحماض أوميغا 3 الدهنية، والماغنيسيوم. ووجد بعض الأبحاث أيضاً أنّ حمض الثيانين - إل، المتوفّر كمكوّن طبيعي في الشاي، يزيد نشاط الدماغ بشكلٍ ملحوظ.

* «سايكولوجي توداي»

ـ خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

إيلون ماسك أكثر ثراءً من أي وقت مضى... كم تبلغ ثروته؟

الاقتصاد الملياردير إيلون ماسك يظهر أمام الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

إيلون ماسك أكثر ثراءً من أي وقت مضى... كم تبلغ ثروته؟

أتت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 بفوائد على الملياردير إيلون ماسك بحسب تقديرات جديدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يسير أمام عدد كبير من جنود بلاده (د.ب.أ)

واشنطن: القوات الكورية الشمالية ستدخل الحرب ضد أوكرانيا «قريباً»

أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اليوم (السبت) أن بلاده تتوقع أن آلافاً من القوات الكورية الشمالية المحتشدة في روسيا ستشارك «قريباً» في القتال.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ ترمب يبحث القضايا الأمنية العالمية مع أمين عام «الناتو»

ترمب يبحث القضايا الأمنية العالمية مع أمين عام «الناتو»

التقى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته، الجمعة، الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في بالم بيتش في ولاية فلوريدا، فيما يدرس تعيين مبعوث خاص لأوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
الولايات المتحدة​ سكوت بيسنت مؤسس شركة الاستثمار «كي سكوير غروب» يتحدث في مناسبة انتخابية للرئيس ترمب (رويترز)

ترمب يكشف عن مرشحيه لتولي وزارات الخزانة والعمل والإسكان

رشّح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، سكوت بيسنت، مؤسس شركة الاستثمار «كي سكوير غروب»، لتولي منصب وزير الخزانة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم القراصنة قاموا بعمليات استطلاع وفحص محدودة لمواقع إلكترونية متعددة مرتبطة بالانتخابات الأميركية (أرشيفية - رويترز)

مسؤول: قراصنة إلكترونيون صينيون يستعدون لصدام مع أميركا

قال مسؤول كبير في مجال الأمن الإلكتروني في الولايات المتحدة إن قراصنة إلكترونيين صينيين يتخذون مواطئ قدم في بنية تحتية خاصة بشبكات حيوية أميركية.


«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية
TT

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«تخيل أنك بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في غضون بضع دقائق لأنك قد لا تنجو... لا يوجد جراحون في الجوار ولكن يوجد روبوت جراحي مستقل متاح يمكنه إجراء هذا الإجراء باحتمالية عالية جداً للنجاح، هل ستغتنم الفرصة؟» هذا ما أجابني به طالب ما بعد الدكتوراه بجامعة جونز هوبكنز عبر البريد الإلكتروني، لدى سؤالي عن التطوير الجديد.

تعليم الروبوت بمقاطع فيديو للجراحة

لأول مرة في التاريخ، تمكن كيم وزملاؤه من تعليم الذكاء الاصطناعي استخدام آلة جراحة آلية لأداء مهام جراحية دقيقة، من خلال جعلها تشاهد آلاف الساعات من الإجراءات الفعلية التي تحدث في ردهات جراحية حقيقية. ويقول فريق البحث إنه تطور رائد يتجاوز حدوداً طبية محددة ويفتح الطريق لعصر جديد في الرعاية الصحية.

وفقاً لورقتهم البحثية المنشورة حديثاً، يقول الباحثون إن الذكاء الاصطناعي تمكن من تحقيق مستوى أداء مماثل لجراحي البشر دون برمجة مسبقة.

جراحة بتوظيف الروبوت

تدريب على العروض بدلاً من البرمجة

وبدلاً من محاولة برمجة الروبوت بشق الأنفس للعمل -وهو ما تقول ورقة البحث إنه فشل دائماً في الماضي- قاموا بتدريب هذا الذكاء الاصطناعي من خلال شيء يسمى التعلم بالتقليد، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي حيث تراقب الآلة وتكرر الأفعال البشرية. سمح هذا للذكاء الاصطناعي بتعلم التسلسلات المعقدة للأفعال المطلوبة لإكمال المهام الجراحية عن طريق تقسيمها إلى مكونات حركية. وتترجم هذه المكونات إلى أفعال أبسط -مثل زوايا المفاصل ومواضعها ومساراتها- والتي يسهل فهمها وتكرارها وتكييفها أثناء الجراحة.

توظيف روبوت «دافنشي» للتدريب

استخدم كيم وزملاؤه نظام دافنشي الجراحي كأيدٍ وعيون لهذا الذكاء الاصطناعي. ولكن قبل استخدام المنصة الروبوتية الراسخة (التي يستخدمها الجراحون حالياً لإجراء عمليات دقيقة محلياً وعن بُعد) لإثبات نجاح الذكاء الاصطناعي الجديد، قاموا أيضاً بتشغيل محاكاة افتراضية. وقد سمح هذا بتكرار أسرع وتحقق من السلامة قبل تطبيق الإجراءات التي تم تعلمها على الأجهزة الفعلية.

«كل ما نحتاجه هو إدخال الصورة، ثم يجد نظام الذكاء الاصطناعي هذا الإجراء الصحيح»، كما يقول كيم. كانت روبوتات دافنشي أيضاً مصدر مقاطع الفيديو التي حللها الذكاء الاصطناعي، باستخدام أكثر من 10000 تسجيل تم التقاطها بواسطة كاميرات المعصم أثناء العمليات الجراحية التي يقودها الإنسان.

تعلّم 3 مهام جراحية

وكان الهدف تعلم ثلاث مهام جراحية: التعامل مع إبرة جراحية وتحديد موضعها، ورفع الأنسجة والتلاعب بها بعناية، والخياطة -كلها مهام معقدة تتطلب تحكماً دقيقاً وحساساً للغاية.

مكنت مجموعة البيانات واسعة النطاق هذه الذكاء الاصطناعي من تعلم الاختلافات الدقيقة بين الإجراءات الجراحية المتشابهة، مثل شدة التوتر المناسب اللازم للتعامل مع الأنسجة دون التسبب في ضرر.

تعد مقاطع الفيديو التدريبية هذه جزءاً صغيراً جداً من مستودع واسع النطاق للبيانات الجراحية. مع ما يقرب من 7000 روبوت دافنشي قيد الاستخدام في جميع أنحاء العالم، هناك مكتبة ضخمة من العروض الجراحية للمراقبة والتعلم منها، والتي يستخدمها فريق البحث الآن لتوسيع ذخيرة الذكاء الاصطناعي الجراحية لدراسة جديدة لم تُنشر بعد.

«في عملنا المتابع، والذي سنصدره قريباً، ندرس ما إذا كانت هذه النماذج يمكن أن تعمل في الإجراءات الجراحية طويلة المدى التي تنطوي على هياكل تشريحية غير مرئية»، يكتب كيم، في إشارة إلى الإجراءات الجراحية المعقدة التي تتطلب التكيف مع حالة المريض في أي وقت معين، مثل إجراء عملية جراحية على جرح داخلي خطير.

التحقق من صحة النموذج المطور

أثناء التطوير، عمل الفريق عن كثب مع الجراحين الممارسين لتقييم أداء النموذج وتقديم ملاحظات حاسمة (خاصة فيما يتعلق بالتعامل الدقيق مع الأنسجة)، والتي قام الروبوت بدمجها في عملية التعلم الخاصة به.

أخيراً، للتحقق من صحة النموذج، استخدموا مجموعة بيانات منفصلة غير مدرجة في التدريب الأولي لإنشاء محاكاة افتراضية، ما يضمن قدرة الذكاء الاصطناعي على التكيف مع السيناريوهات الجراحية الجديدة وغير المرئية قبل الشروع في اختبارها في الإجراءات المادية. أكد هذا التحقق المتبادل قدرة الروبوت على التعميم بدلاً من مجرد حفظ الإجراءات، وهو أمر بالغ الأهمية بالطبع نظراً للعدد المجهول المحتمل الذي قد ينشأ في غرفة العمليات.

جراح آلي «ذو خبرة»

كل شيء سار بشكل جميل إذ تعلم نموذج الروبوت هذه المهام إلى مستوى الجراحين ذوي الخبرة. يقول أكسل كريغر، الأستاذ المساعد في الهندسة الميكانيكية في جامعة جونز هوبكنز والمؤلف الرئيسي للدراسة، في بيان عبر البريد الإلكتروني: «إنه لأمر سحري حقاً أن يكون لدينا هذا النموذج حيث كل ما نقوم به هو تلقيمه مدخلات الكاميرا، ويمكنه التنبؤ بالحركات الروبوتية اللازمة للجراحة». «نعتقد أن هذا يمثل خطوة مهمة إلى الأمام نحو أفق جديد في مجال الروبوتات الطبية».

تطوير رائد

إن أحد مفاتيح هذا النجاح هو استخدام الحركات النسبية بدلاً من التعليمات المطلقة. ففي نظام دافنشي قد لا تنتهي الأذرع الآلية إلى حيث هي مقصودة تماماً بسبب التناقضات الطفيفة في حركة المفصل التي تتراكم على مدار عدة حركات ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى أخطاء كبيرة -خاصة في بيئة حساسة مثل الجراحة. كان على الفريق إيجاد حل، لذا بدلاً من الاعتماد على هذه القياسات، قام بتدريب النموذج على التحرك بناءً على ما يلاحظه في الوقت الفعلي أثناء إجراء العملية.

لكن الابتكار الرئيسي هنا هو أن التعلم بالتقليد يزيل الحاجة إلى البرمجة اليدوية للحركات الفردية. قبل هذا الاختراق، كانت برمجة الروبوت للخياطة تتطلب ترميزاً يدوياً لكل حركة بالتفصيل. يقول كيم إن هذه الطريقة كانت أيضاً عرضة للخطأ وتشكل قيداً رئيسياً في تقدم الجراحة الروبوتية. إذ إنها حدت مما يمكن للروبوت فعله بسبب جهود التطوير، والافتقار إلى المرونة التي جعلت من الصعب للغاية على الروبوتات القيام بمهام جديدة.

ومع ذلك، يسمح التعلم بالتقليد للروبوت بالتكيف بسرعة مع أي شيء يمكن مشاهدته، والتعلم على غرار طالب الجراحة. «(نحن) نحتاج فقط إلى جمع بيانات التعلم التقليدي لإجراءات مختلفة، ويمكننا تدريب الروبوت على تعلمها في غضون يومين»، كما يقول كريغر. «هذا يسمح لنا بالتعجيل نحو هدف الاستقلالية مع تقليل الأخطاء الطبية وتحقيق جراحة أكثر دقة».

تقييم مدى النجاح

لقياس مدى نجاح الذكاء الاصطناعي، حدد الباحثون مقاييس الأداء الرئيسية، مثل الدقة في وضع الإبرة والاتساق في التلاعب بالأنسجة باستخدام مجموعة من البيئات الجراحية الوهمية المادية، والتي تضمنت محاكيات الأنسجة الاصطناعية والدمى الجراحية. وكانت النتائج مذهلة. يقول كريغر: «النموذج جيد جداً في تعلم الأشياء التي لم نعلمه إياها. على سبيل المثال، إذا أسقط الإبرة، فسوف يلتقطها تلقائياً ويستمر».

لا تعد هذه القدرة على التكيف مهمة فقط لمواصلة تعلم مهارات جديدة ولكنها أيضاً ضرورية للتعامل مع الأحداث غير المتوقعة في الجراحات الحية، مثل تمزق الشريان أو تغير العلامات الحيوية للمريض فجأة. بالإضافة إلى ذلك، أظهر النموذج كفاءة زمنية محسنة، ما أدى إلى تقليل وقت الانتهاء للمهام الجراحية القياسية مثل الخياطة بنحو 30 في المائة، وهو أمر واعد بشكل خاص للعمليات الحرجة من حيث الوقت.

ويتصور العلماء سيناريو حيث تساعد هذه الروبوتات الجراحين في المواقف عالية الضغط، وتعزيز قدراتهم وتقليل الخطأ البشري. سيؤثر جراحو الذكاء الاصطناعي المستقبليون بشكل كبير على توفر الرعاية الجراحية، مما يجعل التدخلات الطبية عالية الجودة متاحة لعدد أكبر.

اللوائح التنظيمية وأخلاقيات الطب

هناك أيضاً تحديات أخلاقية وتنظيمية يجب معالجتها قبل نشر مثل هذا الذكاء الاصطناعي في بيئات جراحية حقيقية دون إشراف بشري. فالقفزة نحو الروبوتات الجراحية المستقلة تثير مخاوف أخلاقية جديدة.

هناك قضية المساءلة: من سيكون مسؤولاً إذا حدثت مشكلة؟ الشركة التي صنعت الجراح الذكي؟ المهنيون الطبيون الذين يشرفون عليه (إذا كان هناك أي إشراف)؟ هناك أيضاً مسألة موافقة المريض، والتي ستتطلب تثقيف كل من الشخص الذي يخضع للجراحة والأشخاص المحيطين به حول ماهية هذا الذكاء الاصطناعي، وما الذي يمكنهم فعله بالضبط، وما هي المخاطر التي تشكلها الروبوتات مقارنة بالجراحين البشر.

يعترف كيم بأن المستقبل الآن في منطقة رمادية حيث يمكن للجميع مجرد التكهن بما يجب أن يحدث أو سيحدث. ستكون أيدي السلطات التنظيمية مشغولة، من معالجة المساءلة والمخاوف الأخلاقية عند السماح لجراحي الذكاء الاصطناعي بالعمل بشكل مستقل، إلى وضع معايير للحصول على موافقة مستنيرة من المرضى.

ولكن عند الاختيار بين إجراء عملية جراحية طارئة منقذة للحياة بواسطة جراح مستقل أو عدم تلقي العلاج لأن الجراح البشري غير متاح (مثلاً في مكان بعيد أو منطقة متخلفة)، يزعم كيم أن الخيار الأفضل واضح. يمكنني بسهولة أن أتخيل مستقبلاً قريباً حيث يبدأ الناس في اختيار روبوتات الذكاء الاصطناعي على نظرائهم من البشر - في ظل وجود دليل إحصائي على أن جراحي الذكاء الاصطناعي يعملون بأمان.

وبعيداً عن التحديات الأخلاقية والقانونية، هناك حاجة إلى المزيد من العمل لتمكين التنفيذ العملي. ستحتاج المستشفيات إلى الاستثمار في البنية الأساسية التي تدعم جراحة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأجهزة المادية والخبرة الفنية للتشغيل والصيانة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون تدريب الفرق الطبية على إدارة العملية أمراً بالغ الأهمية. فالأطباء سيحتاجون إلى فهم الآلة ومتى يكون التدخل ضرورياً، وفي النهاية تحويل الجراحين البشريين من المهام الجراحية المباشرة إلى أدوار تركز على الإشراف والسلامة.

جراحات بسيطة أولاً

على المستوى العملي، يتصور الباحثون تقدماً تدريجياً، بدءاً بجراحات أبسط وأقل خطورة مثل إصلاح الفتق والتقدم تدريجياً إلى عمليات أكثر تعقيداً. سيساعد النهج التدريجي في التحقق من موثوقية الروبوت مع معالجة المخاوف التنظيمية والأخلاقية بمرور الوقت، فضلاً عن مساعدة السكان على الثقة في الذكاء الاصطناعي لإجراء العمليات الحرجة للحياة.

يقول كريغر: «ما زلنا في المراحل الأولى من فهم ما يمكن أن تحققه هذه الآلات حقاً. الهدف النهائي هو الحصول على أنظمة جراحية مستقلة تماماً وموثوقة وقابلة للتكيف وقادرة على إجراء العمليات الجراحية التي تتطلب حالياً اختصاصياً مدرباً تدريباً عالياً».

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً