الصداع النصفي... اضطراب عصبي وراثي معقد

«ثقّف نفسك وعلّم الآخرين»... شعار عام 2023 للتوعية به

طبيب يفحص صورة لرأس مريض يعاني من آلام الصداع النصفي
طبيب يفحص صورة لرأس مريض يعاني من آلام الصداع النصفي
TT

الصداع النصفي... اضطراب عصبي وراثي معقد

طبيب يفحص صورة لرأس مريض يعاني من آلام الصداع النصفي
طبيب يفحص صورة لرأس مريض يعاني من آلام الصداع النصفي

تعمل فرق دراسة الصداع والصداع النصفي في العالم على زيادة الوعي بالصداع النصفي خلال شهر يونيو (حزيران) من كل عام (Migraine Headache Awareness Month (MHAM))، وقد اتخذت شعارها لهذا العام 2023 «ثقّف نفسك وعلّم الآخرين Educate Yourself, Educate Others» للمساعدة في نشر الوعي بإقامة مجموعة واسعة من الفعاليات والبرامج الحية والافتراضية. علاوة على ذلك، يشارك المرضى قصصهم عن الصداع النصفي، ويقوم خبراء طبيون بارزون بنقل خبرتهم للمساعدة في تسليط الضوء على هذا المرض المعوق والذي غالباً ما يُساء فهمه.

اضطراب «حسّي»

الصداع النصفي في أبسط مستوياته هو نوع من اضطرابات المعالجة الحسية، حيث يبالغ دماغ الصداع النصفي في رد فعله تجاه جميع أنواع المدخلات الحسية. وفيزيولوجيا الصداع النصفي معقدة، ولسوء الحظ غير مفهومة جيداً، ولكن عندما يُثار دماغ الصداع النصفي بسبب التحميل الحسي الزائد، فإنه يصبح متحمساً ويؤدي إلى عاصفة من المواد الكيميائية التي تتسبب في حدوث نوبة الصداع النصفي والتي بدورها تحدث ثلاثة أشياء: ألم الأعصاب في الرأس والرقبة، التهيج، وتشنج الأوعية الدموية في الرأس. وهناك التهاب يحدث في الجزء المصاب من الدماغ. أي أن النوبة مزيج من هؤلاء الثلاثة، الذي ينتج عنه عادة صداع شديد قد يسبب العجز أحياناً وأعراضاً عصبية أخرى.

الدكتورة شيرين قريشي

الصداع النصفي يصيب ما يصل إلى 1 من كل 5 أشخاص، ويؤثر على أكثر من (42) مليون شخص في الولايات المتحدة، وحدها، وحالياً لا يتم تشخيص حوالي نصف المصابين بالصداع النصفي. يعاني ما يقرب من 400 ألف أميركي من الصداع العنقودي، المعروف بأنه أحد أكثر أنواع الصداع النصفي إيلاماً التي يمكن أن يصاب بها الشخص.

وتشير التقديرات في أستراليا إلى أن 20 في المائة من سكان أستراليا يعانون من الصداع النصفي، وأن 71 في المائة من المصابين بالصداع النصفي هم من النساء. أكثر من 90 في المائة من المصابين بالصداع النصفي لا يستطيعون العمل بشكل طبيعي أثناء النوبة.

تحدثت إلى «صحتك» الدكتورة شيرين قرشي استشارية مخ وأعصاب أستاذ مشارك في مركز جونز هوبكنز الطبي - أرامكو الطبي (عضو الزمالة الملكية الكندية لأمراض الأعصاب عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية لأطباء الأعصاب عضو مجلس إدارة الشعبة السعودية لأمراض الصداع عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية لأمراض الصرع)، وأشارت إلى أن منظمة الصحة العالمية تفيد بأن الصداع النصفي هو السبب الرئيسي الثاني للعجز والغياب عن العمل على مستوى العالم. وبالرغم من آثاره السلبية على أكثر من مليار شخص حول العالم وما يصل إلى ثلث السكان في الدول العربية، فإن هنالك مجموعة من المعتقدات السلبية والخاطئة حول هذه المشكلة الصحية الخطيرة والمنهكة في كثير من الأحيان، وغالباً ما يتم تجاهل تلك الأعراض الشديدة على اعتبارها «مجرّد صداع»، مما يؤدي إلى تأخر التشخيص والمعالجة وما يتركه من تبعات صحية واقتصادية.

الأسباب والأعراض

تضيف د. شيرين قرشي أن نوبات الصداع النصفي يمكن أن تدوم لأكثر من ساعات، وقد تستمر لأيام، وقد يكون الألم شديداً لدرجة أنه يتعارض مع الأنشطة اليومية. تشمل بعض المسببات الشائعة، الإجهاد وقلة النوم والتغيرات الهرمونية أثناء الدورة الشهرية لدى النساء وتعاطي الكافيين والكحول. وتتزايد هذه الضغوط في حياة العديد من الأشخاص في ظل التوسع الحضري السريع.

ومما يميز الصداع النصفي أنه صداع نابض مصاحب بأعراض أخرى كالغثيان والقيء وصولاً إلى التحسس من الضوضاء والنور. كما يمكن أن تؤثر نوبات الصداع النصفي أيضاً على الدماغ والنخاع الشوكي والأعصاب في جميع أنحاء الجسم، وهو ما قد يسبب صعوبةً في التركيز، ودواراً، واضطراب الرؤية. ويمكن أن تحدث هذه الأعراض في أي مكان وتتراوح من 4 إلى 72 ساعة. وعدم القدرة على توقّعه يعني أن الصداع النصفي يمكن أن يحدث في أي وقت، وهو ما يتسبب في اضطرابات كبيرة في حياة الناس.

وعلى الرغم من الآثار المعوِّقة المترتبة على الصداع النصفي، غير أنه لا يزال يتم التغاضي عنه ولا يتم تشخيصه ولا يحظى بالعلاج. وفي الواقع، فإن 40 في المائة فقط من المصابين بالصداع النصفي أو الصداع الناتج عن التوتر يتم تشخيصه بشكل مهني (وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية). وغالباً ما تدفع المفاهيم الخاطئة حول كون الصداع النصفي «مجرّد» صداع، إلى التغاضي عن أعراضه. كما تسهم حصيلة العلاج السيئة في ذلك؛ ومن هذا المنطلق، فإن أكثر من ثلثي الأشخاص الذين يعانون من الصداع النصفي إما لم يستشيروا طبيباً على الإطلاق أو توقفوا عن القيام بذلك بسبب قلة الآمال المعلقة على العلاج. لذا، فإن الكثير من المصابين بالصداع النصفي غير راضين عن مستوى الرعاية الحالي.

تأثيرات صحية

وعن تأثير الصداع النصفي غير المعالج على الصحة النفسية والاقتصاد

تقول الدكتورة شيرين قرشي: «بغض النظر عن الألم الذي يتسبب به، فإن التعايش مع الصداع النصفي له تداعيات على الصحة النفسية. فالأشخاص الذين يصابون بالصداع النصفي هم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بمعدل مرتين إلى أربع مرات، ويعانون من الشعور بالعزلة والعجز تجاه الألم. قد يؤدي عدم تشخيص الصداع النصفي إلى سوء الفهم وبروز المعتقدات السلبية ونقص الدعم من العائلة والأصدقاء والمجتمع على نطاق أوسع. كما يمكن أن تسهم الحالة غير المتوقعة للصداع النصفي وقلة الإدراك أو التحقق من صحة الآخرين في زيادة العبء العاطفي والشعور بالعزلة».

عادةً ما يتعيّن على الأشخاص الذين يعانون من الصداع النصفي تحمل عبء التكلفة المالية المباشرة لزيارات الطبيب والاستشفاء والعلاج الطبي، وقد تكون لهذه التكلفة تأثيرات غير متكافئة على المجتمعات المُعوِزة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا التي يتعين عليها موازنة الأولويات اليومية الأخرى، بالإضافة إلى نوبات الصداع النصفي.

ولوضع الأمور في سياقها المناسب، فإن هؤلاء المرضى يفقدون أيضاً ما متوسطه 4.5 يوم عمل في الشهر، وهو ما يزيد من التكلفة الاقتصادية الناتجة عن التعايش مع الصداع النصفي. وفقاً لنتائج دراسة عالمية عن عبء المرض بين الأفراد المصابين بالصداع النصفي الذين فشلت معهم العلاجات الوقائية، نشرت في مجلة الصداع والألم (J Headache and Pain. 2018;19).

ومع ذلك، فإن نوبات الصداع النصفي لا تؤثر فقط على من يعاني منها، فيمكن أن يكون لفقدان إنتاجية العمل والتغيب لدى المرضى الذين يعانون من الصداع النصفي غير المشخص، تأثير اقتصادي كبير على كل من أصحاب العمل والمجتمع ككل. كما يمثل الصداع النصفي عبئاً اقتصادياً عالمياً أكبر من جميع الحالات العصبية الأخرى مجتمعة. فعلى الصعيد العالمي، يؤثر الصداع النصفي على النساء ثلاث إلى أربع مرات أكثر من الرجال، وغالباً ما تكون النوبات أكثر حدّة بالنسبة للنساء. أما في الخليج، فإن احتمالية إصابة النساء بالصداع النصفي تزداد بمقدار الضعف.

يمكن أن يؤدي تأخر التشخيص إلى استنزاف موارد الرعاية الصحية، حيث قد يقوم هؤلاء المرضى بزيارة العديد من الأطباء بحثاً عن المساعدة والعلاج. وبالتالي، فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة الاستفادة من الرعاية الصحية، وأوقات انتظار أطول، وتضاؤل إمكانية حصول مَن هم بحاجة على الرعاية.

حقائق عن الصداع النصفي

مستقاةً من المؤسسة الأميركية للصداع النصفي (American Migraine Foundation):

* الصداع النصفي واحد من أكثر 10 أمراض إعاقةً في العالم.

* أقل من 5 في المائة هم من تمت متابعتهم وتشخيصهم بدقة بواسطة مقدمي الرعاية الصحية.

* معظم المصابين بالصداع النصفي يعانون من عدد قليل من الهجمات في الشهر، ولكن 2 في المائة يعانون من الصداع النصفي المزمن، ويصابون بالصداع أكثر من 15 يوماً في الشهر.

* الصداع النصفي أكثر شيوعاً 3 مرات في النساء أكثر من الرجال. ويؤثر الصداع النصفي على أكثر من 30 في المائة من النساء على مدى العمر.

* تناول أدوية وقائية غير محددة عن طريق الفم يقلل الصداع بنسبة النصف في حوالي 40 في المائة من المرضى الذين يتناولون هذه الأدوية.

* تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 148 مليوناً من الناس في العالم يعانون من الصداع النصفي المزمن.

* تصل التكلفة أكثر من 20 مليون دولار كل عام في الولايات المتحدة بسبب النفقات الطبية المباشرة وفقدان الإنتاجية.

* أكثر من 80 في المائة من المرضى توقفوا عن تناول الأدوية بعد 12 شهراً.

* أكثر من 90 في المائة من المتضررين، يتدخل عندهم الصداع النصفي مع التعليم والوظيفة أو الأنشطة الاجتماعية.

* في عام 2018، وافقت إدارة الغذاء والدواء على ثلاثة علاجات وقائية صممت خصيصاً لِعلاج الصداع النصفي.

* الصداع النصفي هو ثالث أكثر الأمراض شيوعاً في العالم، يصيب 1 من كل 7 أشخاص على مستوى العالم.

* الصداع النصفي لا يمكن علاجه علاجاً نهائياً، ولكن يمكن إدارة أعراضه بمجموعة من الأدوية والوسائل المناسبة.

* يعاني ثلث مرضى الصداع النصفي من «هالة أورا aura»، وهي مجموعة من الأعراض العصبية مثل رؤية خطوط أو أنماط متعرجة أو ثقب عديم اللون في الرؤية والخدر والضعف، أو الدوخة، قبل حدوث الصداع وبعض الناس يعانون من الهالة فقط من دون الصداع.

* يجب أن يدرك الأشخاص المصابون بالصداع النصفي، وخاصة أولئك الذين يعانون من الصداع النصفي المصحوب بهالة (aura)، أن لديهم مخاطر أكبر للإصابة بسكتة دماغية.

* قد يكون العديد من الأشخاص المصابين بالصداع النصفي خالين من الأعراض لسنوات ولا يعرفون أبداً أنهم مصابون بالصداع النصفي. وآخرون تكون لديهم نوبات الصداع النصفي متكررة ويمكن أن تكون منهكة للغاية. يعاني بعض الأشخاص أيضاً من أعراض بين النوبات.

* الأشخاص الذين يعانون من الصداع النصفي معرضون أيضاً لخطر الإصابة بصداع الإفراط في تناول الأدوية. يحدث هذا عندما يتسبب الإفراط في استخدام أدوية الألم والصداع النصفي في حدوث صداع الانتعاش، وتحويل نوبات الصداع النصفي إلى صداع مستمر لا هوادة فيه.

* لا يعرف معظم الناس أنهم مصابون بالصداع النصفي حتى يبدأوا في الإصابة بنوباته التي تكون عادة نوبات فجائية، أو نوبات تنطوي على مجموعة من الأعراض العصبية مثل الصداع الشديد، والحساسية للضوء، والضوضاء، والروائح والغثيان والقيء وفي بعض الحالات الضعف والخدر والدوخة ومشاكل في الرؤية.

التوعية والرعاية

أخيراً، تؤكد الدكتورة شيرين قرشي على أن معالجة نقص التشخيص الناجم عن الصداع النصفي أمرٌ بالغ الأهمية لتقليل هذه التأثيرات الفردية والمجتمعية. ومن هذا المنطلق، فإن حملات التثقيف والتوعية وتحسين إمكانية الحصول على خدمات الرعاية الصحية والتدريب الأفضل للأطباء، من شأنه أن يُسهم في الكشف المبكر والعلاج المناسب وتحسين إدارة علاج الصداع النصفي.

وفي مطلق الأحوال، فإنه لا يزال هناك قدر كبير من العمل في المستقبل. ولا شك أن لدينا القدرة على تعزيز معدلات اكتشاف الصداع النصفي وتخفيف الآثار المرتبطة به على الأفراد والمجتمع، وذلك من خلال تعزيز الوعي العام وتطوير قدرات نظام الرعاية الصحية لدينا. ومن الأهمية للأفراد ومقدمي الرعاية الصحية وواضعي السياسات والمجتمع ككل، توحيد الجهود في محاولة موحدة لتعويض النقص الناتج عن عدم تشخيص الصداع النصفي وتعزيز الرفاهية العامة لمن يعانون من هذه الحالة المسببة للعجز.

* استشاري طب المجتمع


مقالات ذات صلة

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

صحتك سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)
صحتك الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي ليس مجرد صداع عادي يعاني منه الجميع في وقتٍ ما، بل هو اضطراب عصبي معقد يمكن أن يُشعر المريض وكأن العالم قد توقف.

د. عبد الحفيظ يحيى خوجة (جدة)
صحتك استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

استشارات طبية: المغنيسيوم والنوم... وعدم تحمّل دواء خفض الكوليسترول

ما تأثير تناول المغنيسيوم الغذائي بالعموم، أو أقراص مكملات المغنيسيوم، على النوم؟

د. حسن محمد صندقجي
صحتك تعريض الجسم للبرودة الشديدة قد يساعد الشخص على النوم بشكل أفضل (رويترز)

تعريض جسمك للبرودة الشديدة قد يساعدك على النوم بشكل أفضل

كشفت دراسة جديدة عن أن تعريض الجسم للبرودة الشديدة قد يساعد الشخص على النوم بشكل أفضل.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام
TT

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

مؤشرات وزن الجسم

يستخدم «مؤشر كتلة الجسم» BMI الذي يحسب مقدار وزن الجسم بالكيلوغرامات، مع الأخذ بالاعتبار مقدار طول الجسم بالمتر، ليعطينا «رقماً» يفصل بين 3 حالات: الحالة الطبيعية، وزيادة الوزن، والسمنة.

ونلجأ كذلك إلى قياس «محيط الخصر» WC بعدد السنتيمترات بوصفه «رقماً» يميز وجود سمنة البطن من عدم ذلك.

في السنوات الأخيرة ازداد ظهور أمراض ذات صلة بالسلوكيات غير الصحية في نمط عيش الحياة اليومية، وعادات الأكل السيئة، وتداعيات التقدم التكنولوجي الذي يفصل الناس عن ممارسة النشاط البدني. وقد ثبت تجريبياً أن العواقب الصحية السلبية لذلك تنمو على مستوى العالم بمعدل مثير للقلق. وهي تشمل السمنة Obesity، ومرض السكري من النوع 2، وأمراض القلب.

وإلى جانب ظهور «أمراض نمط الحياة» هذه، هناك انتشار زائد لمتلازمة التمثيل الغذائي Metabolic Syndrome، وهي مجموعة من الاضطرابات الأيضية في العمليات الكيميائية الحيوية التي تجري في الجسم، وترتبط بمقاومة الجسم لمفعول الإنسولين، ونشوء عمليات بطيئة ومستمرة في الالتهابات، واضطرابات الدهون في الدم (خصوصاً ارتفاع الدهون الثلاثية)، وارتفاع ضغط الدم.

«سمنة مركزية» ووزن طبيعي

ومن بين كل ذلك، تطفو السمنة البطنية (السمنة المركزية Central Obesity)، التي تتميز بزيادة كمية الأنسجة الشحمية (الشحوم الصفراء) داخل البطن، بوصفها علامة مميزة في كثير من تلك الحالات.

والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل الأمر في شأن الأضرار الصحية مرتبط بالسمنة بوصفها حالة عامة في زيادة كتلة عموم الجسم أم أن الأمر مرتبط على وجه الخصوص بزيادة تراكم الشحوم في البطن (محيط منطقة الوسط)؟

والأدق أيضاً في طرح هذا السؤال عندما يكون لدى المرء حالة «الوزن الطبيعي مع سمنة بطنية» NWCO، أي عندما يكون وزن الجسم طبيعياً لدى الشخص بالنسبة لطوله، ولكن في الوقت نفسه لديه سمنة بطنية... هل من الممكن أن يكون هذا الشيء ضاراً ويمثل خطراً صحياً؟

والإجابة عن هذا السؤال تحتاج بداية إلى التساؤل بالأصل: هل ثمة «مشروعية طبية» لطرح مثل هذا السؤال؟

والإجابة نعم بالتأكيد، أن ثمة مشروعية طبية في طرح هذا السؤال لدواع شتى، أهمها اثنان، هما:

- الداعي الأول أن هناك أمثلة من سمنة أجزاء معينة في الجسم، ثبت أن ليس لها ضرر صحي واضح، حتى لو كان لدى الشخص ارتفاع في مقدار وزن الجسم، وارتفاع في مؤشر كتلة الجسم. وتحديداً أفادت نتائج دراسات عدة بأن سمنة شحوم الأرداف بحد ذاتها لدى النساء، ليس لها تأثير صحي ضار يوازي وجود سمنة تراكم شحوم البطن لديهن. وكذلك ثبت أن سمنة كتلة عضلات الجسم (زيادة مقدار وزن الجسم بسبب زيادة وزن كتلة العضلات فيه وليس زيادة تراكم الشحوم)، التي قد تزيد في مقدار مؤشر كتلة الجسم لتجعله ضمن نطاق السمنة، ليس لها تأثيرات سلبية مقارنة مع سمنة زيادة كتلة الشحوم في الجسم بالعموم وفي البطن على وجه الخصوص. وثبت أيضاً أن سمنة الوزن الطبيعي، مع تدني حجم كتلة العضلات، وارتفاع كتلة الشحوم Sarcopenic Obesity، لها تأثيرات ضارة لا تقل عن سمنة زيادة مؤشر كتلة الجسم.

- الداعي الآخر أن نحو 25 في المائة من البالغين ذوي الوزن الطبيعي، يُصنفون بالفعل على أن لديهم سمنة تراكم شحوم البطن، وفي الوقت نفسه يكون وزن أجسامهم طبيعياً، وفق «المجلة الطبية البريطانية BMJ» عدد 26 أبريل (نيسان) 2017. وهذه النسبة مقاربة جداً للإحصاءات الطبية في الولايات المتحدة. وفي مجتمعات أخرى ثبت أنها أعلى وفق نتائج دراسات طبية فيها. وهي نسبة مهمة بين عموم البالغين الذين قد يعتقدون أن كون مقدار وزن جسمهم طبيعياً يعني تلقائياً أنه لا ضرر متوقعاً عليهم من تراكم الشحوم في بطونهم.

دراسات سمنة البطن

والملاحظ أن الأوساط الطبية تأخرت كثيراً في الاهتمام بهذه الوضعية الصحية ومعرفة آثارها. وأيضاً تأخرت في وضع إرشادات ونصائح طبية للتعامل معها. وفي دراسة مشتركة لباحثين من جامعة آيوا، ومن كلية ألبرت آينشتاين للطب بنيويورك، ومن جامعة كاليفورنيا، ومن كلية الطب بجامعة هارفارد، ومن مركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في سياتل، تم طرح الأمر في دراسة بعنوان: «ارتباط السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بالوفيات بين النساء». ونشر ضمن عدد 24 يوليو (تموز) 2019 من مجلة «شبكة جاما المفتوحة» JAMA NETWORK Open، الصادرة عن «الجمعية الطبية الأميركية» AMA.

وقال فيها الباحثون: «السمنة المركزية، التي تتميز بتراكم الشحوم في منطقة البطن بشكل مرتفع نسبياً، ارتبطت بارتفاع خطر الوفاة، بغض النظر عن مقدار مؤشر كتلة الجسم. ومع ذلك، فإن الأفراد الذين لديهم مؤشر كتلة جسم طبيعي مع السمنة المركزية يتم إهمالهم عادة في الإرشادات الإكلينيكية. وعلاوة على ذلك لا يحظى الأفراد الذين يعانون من السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي باهتمام كبير في وضع استراتيجيات الحد من المخاطر، مثل تعديلات نمط الحياة والتدخلات الأخرى».

ولكن حتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي، قد يكون أولئك الذين يعانون من السمنة المركزية مُعرّضين لخطر زائد للوفاة بسبب تراكم الشحوم المفرط في البطن. وفي نتائج دراستهم التي شملت أكثر من 160 ألف امرأة أفادوا بالقول: «ارتبطت السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والوفاة بالسرطان، مقارنة بالوزن الطبيعي دون السمنة المركزية».

عوامل خطر أيضية قلبية

ومن ثمّ بدأت تصدر دراسات طبية من مناطق مختلفة من العالم حول هذا الأمر. وعلى سبيل المثال، نذكر دراسة حديثة من الصين، وأخرى من بنما.

وفي دراسة بعنوان: «ارتباط السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي بارتفاع ضغط الدم»، تم نشرها العام الماضي، عدد 8 مارس (آذار) 2023 من مجلة «BMC» لاضطرابات القلب والأوعية الدموية، لباحثين من الصين، أفادوا بالقول: «السمنة المركزية ذات الوزن الطبيعي (NWCO) هي حالة أيضية تم وصفها أخيراً في عدد قليل من الدراسات. ويتم تجاهل الأفراد المصابين بها بسهولة في الرعاية الصحية الروتينية، بسبب التركيز الصارم على مؤشر كتلة الجسم».

وأضافوا: «قد يكون لدى الفرد ذي الوزن الطبيعي نسبة شحوم كبيرة في الجسم، وهو ما لا يظهر عندما يكون مقدار مؤشر كتلة الجسم طبيعياً. وتشير الأدلة الموجودة إلى أن السمنة المركزية، التي تتميز بالتراكم المرتفع نسبياً للشحوم في البطن، ترتبط ارتباطاً أقوى بعوامل الخطر الأيضية القلبية من السمنة العامة، وحتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي». وخلصوا في نتائجهم إلى القول: «ترتبط السمنة المركزية، كما هو محدد بواسطة محيط الخصر، بزيادة خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى البالغين ذوي مؤشر كتلة الجسم الطبيعي».

وضمن عدد يونيو (حزيران) 2022 من مجلة «لانسيت للصحة الإقليمية - بالأميركتين» The Lancet Regional Health - Americas، نشر باحثون من كلية الطب بجامعة بنما، حول انتشار السمنة المركزية والتعرف على مدى وجود عوامل الخطر القلبية الأيضية Cardiometabolic risk لديهم.

ويتم تعريف مخاطر القلب والأيض على أنها مجموعة من التشوهات في العمليات الأيضية الكيميائية الحيوية، وفي القلب، وفي الأوعية الدموية، بما في ذلك السمنة البطنية، ومقاومة الإنسولين، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات الكولسترول، ودهون الدم، وتصلب الشرايين، التي تجعل الأفراد أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب، والأوعية الدموية، ومرض السكري من النوع 2.

ولاحظوا أن باستخدام مؤشر «نسبة الخصر إلى الطول»WHtR، كان معدل انتشار السمنة البطنية نحو 44 في المائة بين الذين بالأساس لديهم مؤشر كتلة الجسم طبيعياً. وقالوا في نتائجهم: «ارتبطت السمنة البطنية مع الوزن الطبيعي للجسم بعوامل الخطر القلبية الوعائية، خصوصاً مع ارتفاع تركيز الدهون الثلاثية. قد يكون تقييم السمنة البطنية على مستوى الرعاية الصحية الأولية تقنية مفيدة لتحديد الأشخاص ذوي الوزن الطبيعي مع خصائص السمنة الأيضية».

ولذا إذا أردنا ألا نفقد متابعة هذه الفئة من الناس، فيجدر قياس محيط الوسط مع قياس وزن الجسم وحساب مؤشر كتلة الجسم، والالتفات إلى كليهما في التقييم الإكلينيكي. وللتوضيح، على الرغم من حقيقة أن مؤشر كتلة الجسم يتم استخدامه على نطاق واسع لتحديد السمنة في الممارسة الإكلينيكية، فإن أحد القيود المهمة لمؤشر كتلة الجسم هو أنه لا يميز بين أشكال مكونات تركيبات أجزاء الجسم المختلفة، حيث قد يكون لدى الفرد ذي الوزن الطبيعي نسبة شحوم متزايدة في منطقة من الجسم، ولكنها قد تكون مخفية بالقيمة الطبيعية لمؤشر كتلة الجسم.

وحتى بين الأفراد ذوي الوزن الطبيعي، فإن أولئك الذين لديهم نسبة عالية من الشحوم في الجسم، لديهم انتشار أعلى لمتلازمة التمثيل الغذائي ومكوناتها من أولئك الذين لديهم مؤشر كتلة جسم طبيعي، ونسبة شحوم في الجسم طبيعية.

25 % من البالغين ذوي الوزن الطبيعي لديهم سمنة تراكم شحوم البطن

تشخيص السمنة بالأساس مجرد حسابات من الأرقام

* عند التكلم عن السمنة في جانب التشخيص، علينا ابتداءً استخدام لغة الأرقام. ومن بين عدة «طرق» مطروحة لدى الأوساط العلمية والطبية، يظل «الأشهر»، و«الأقرب» هو الطرق الأربع التالية في تقييم وزن الجسم والسمنة:

- حساب «مؤشر كتلة الجسم» BMI يتم بقسمة مقدار الوزن بالكيلوغرامات على مربع طول الجسم بالمتر. و«الطبيعي» أن يكون مؤشر كتلة الجسم ما بين 20 إلى 25، أما ما بين 25 و30 فهو «زيادة في الوزن»، وما بين 30 إلى 35 فهو «سمنة»، وما بين 35 و40 فهو «سمنة شديدة»، وما فوق ذلك هو «سمنة مفرطة».

- حساب محيط الخصر Waist Circumference هو طريقة مهمة في تقييم سمنة البطن بالذات. وبدقة، يتم قياس محيط الخصر عند مستوى منتصف المسافة بين أدنى ضلع ملموس وبين الحافة الحرقفية لأعلى قوس عظمة الحوض، وذلك تقريباً أعلى قليلاً من السرّة، بعد إخراج هواء الزفير من النفس، أي قياس محيط أصغر جزء من الخصر. ولكن تجدر ملاحظة أن محيط الخصر يختلف في المجتمعات الجغرافية المختلفة وفق متوسط الطول فيها وعموم حجم الجسم.

ووفقاً للمعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة NIH، فإن محيط الخصر الذي يزيد على 102 سنتيمتر (40 بوصة) للرجال ويزيد على 88 سنتيمتراً (35 بوصة) للنساء (غير الحوامل)، هو سمنة البطن. بينما لدى ذوي الأصول من جنوب شرقي آسيا، فإن الطبيعي نحو 94 سنتيمتراً (37 بوصة) للرجال و80 سنتيمتراً (31 بوصة) للنساء. ولذا تحتاج المجتمعات المختلفة دراسات لتقييم الطبيعي وغير الطبيعي في ذلك.

- حساب نسبة محيط الخصر إلى محيط الورك WHR. ومحيط الورك Hip Circumference يختلف عن محيط الخصر، حيث إن محيط الورك هو قياس محيط الجزء الأكبر من الوركين، أي الجزء الأوسع من كتلة الأرداف. والطبيعي أن تكون تلك النسبة أقل من 0.95 للرجال، وأقل من 0.80 للنساء. وما فوق ذلك فهو سمنة. وهي طريقة يتم بها التغلب على وجود حجم أكبر في الأرداف التي تكون الشحوم فيها مختلفة عن نوعية الشحوم التي في البطن. وتحديداً شحوم بيضاء في الأرداف، وشحوم صفراء في البطن.

- حساب نسبة الخصر إلى الطول WHtR: يكون بقسمة مقدار محيط الخصر على مقدار الطول. والطبيعي أن يكون أقل من 0.5، وما فوق ذلك هو سمنة. وهي طريقة يتم من خلالها التغلب على الاختلافات العرقية في متوسط الطول لدى غالبية الناس في المجتمعات المختلفة.