تسعى فرنسا إلى البناء على الدور الكبير الذي لعبته مع المملكة العربية السعودية في إنجاح مؤتمر «حلّ الدولتين» في نيويورك في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي والتأييد الواسع الذي حصل عليه، وتعمل بقوة لجعل مخرجاته هدفاً دائماً.
وتواكب مؤتمر «حلّ الدولتين»، مع إطلاق «خطة العشرين بنداً» للرئيس الأميركي دونالد ترمب الهادفة إلى إنهاء الحرب في غزة والتي بابت محل اهتمام؛ غير أن باريس لم تتخلّ عن أهدافها وما زالت تريد أن تكون حاضرة بقوة في هذا الملف.
وتستهدف التحركات الفرنسية، التي كان آخرها الزيارة التي قام بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولقاؤه الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، الثلاثاء، تأكيد أمرين: الأول أن مؤتمر نيويورك مهّد الطريق لمبادرة ترمب التي استقت منه الكثير، والآخر إعلان أن هدفها اليوم كما تؤكده مصادرها يكمن «بطبيعة الحال» في دعم «خطة ترمب»، ومواكبتها والاستفادة منها من أجل الدفع باتجاه الهدف النهائي، وهو إقامة الدولة الفلسطينية التي تعي صعوبات تحقيقها.
ترجمة الوعود
ويصعب فهم أهمية ومعنى الزيارة التي قام بها، ولقائه ماكرون، والبروتوكول «الرئاسي» الذي استُقبل به للمرة الأولى بعد أن اعترفت فرنسا بالدولة الفلسطينية، بمعزل عن الإطار الذي تمت فيه الزيارة.
وتريد باريس أن تمسك بيد أبو مازن، وأن تساعده على ترجمة وعوده التي تضمنتها رسالته الشهيرة في شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى ماكرون، وإلى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى وقائع. والهدف التمكّن من تقديم «حزمة متكاملة» للرئيس الأميركي تتناول التوصل إلى تصور متكامل حول القضايا الأساسية والحساسة مثل: إصلاح السلطة الفلسطينية، وإنشاء قوة الاستقرار الدولية ودور قوات الأمن الفلسطينية، ونزع سلاح «حماس»، وإبعادها عن حكم غزة، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.

في هذا السياق، يُنظر إلى اتفاق الطرفين على إقامة لجنة مشتركة فلسطينية - فرنسية من مهماتها توفير المساعدة التقنية للسلطة من أجل صياغة مقترحات لدستور جديد وإعادة تنظيم المؤسسات ومساعدتها على تحقيق الإصلاحات الموعودة التي تضمنها إعلان نيويورك، وكذلك خطة ترمب.
عودة إلى غزة... ووحدة الدولة
وتريد باريس أن تساعد السلطة على العودة إلى قطاع غزة بما تعنيه من المحافظة على وحدة الدولة المرتقبة في إطار قانوني موحّد.
وليس سرّاً أن إسرائيل تعارض عودتها إلى غزة، كما أن الجانب الأميركي، وإن كانت خطة ترمب تشير في بندها التاسع عشر إلى أفق لإقامة الدولة الفلسطينية؛ فإنها تُراكم في وجهها الشروط المسبقة.
وأهمية الإطار القانوني أنه سيكون المرجع للجنة التقنية التي ستتولى الإدارة الانتقالية في غزة؛ أي إن باريس تريد مواكبة ودعم وترسيخ السلطة الفلسطينية في عودتها إلى غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية وزوال «الخط الأصفر» الذي يعني بقاؤه تشطير القطاع، بحيث تبقى إسرائيل في النصف الشرقي من القطاع و«حماس» في نصفه الغربي.

كذلك تتمسك فرنسا بإبقاء الأضواء مسلطة على ما يحصل في الضفة الغربية من تسعير الاستيطان وخطط الضم.
ويبرز في هذا السياق تحذير الرئيس ماكرون من اجتياز ما وصفه بـ«الخط الأحمر»، وما يمكن أن يستدعيه من ردود فعل فرنسية وأوروبية لم يشأ الخوض في تفاصيلها. وتريد باريس أيضاً التركيز على المستقبل الاقتصادي والمالي والنقدي للسلطة التي «تخنقها» التدابير الإسرائيلية.
تسهيل الطريق مع هدف أبعد
الفلسفة الكامنة وراء الحراك الفرنسي تتمحور حول توفير «حزمة» متكاملة يمكن أن تُدرج في سياق تسهيل الطريق لإنجاح الخطة الأميركية، ولكن في الوقت عينه إدراجها في إطار هدف أبعد هو السعي لبناء الدولة الفلسطينية.
وترى باريس أن الصعوبة الكبرى في غزة تكمن في نزع سلاح «حماس» التي ترفض السير في خطوة كهذه قبل انسحاب كامل القوات الإسرائيلية من القطاع، فيما ترفض إسرائيل الانسحاب ما دام سحب سلاح «حماس» لم يُنجَز، لذا ترى باريس أن هذه المسألة «بالغة التعقيد».
وخلال قمة الإليزيه، حثّ ماكرون رئيس السلطة الفلسطينية على تعميق الحوار الفلسطيني - الفلسطيني حول هذا الملف.
من جهته، أكّد أبو مازن أكثر من مرة، خلال إقامته الباريسية، سواء في المؤتمر الصحافي المشترك مع ماكرون أو في حديثه إلى صحيفة «لوموند» المنشور الأربعاء، أنه لن تكون في غزة إلا القوات الأمنية الفلسطينية التي رأى أنها «جاهزة» لمهمة حفظ الأمن في غزة، وأنها ستحظى بدعم قوة الاستقرار الدولية التي يناقش تشكيلها في مجلس الأمن منذ أسابيع. وحتى اليوم، لم يتوافر بعد مقترح واضح حول مهماتها وحول الانتداب الذي سيوكل إليها، فضلاً عن الدول التي ستسهم بها.
عودة إلى القوة الدولية
وترى فرنسا أنه سيتعيّن على القوة الدولية، من جهة، أن تُشكّل فاصلاً بين القوات الإسرائيلية وسكان غزة، ومن جهة أخرى أن تقوم بدور الداعم للقوات الأمنية الفلسطينية التي ستكون مهمتها الأولى المحافظة على الأمن والنظام في القطاع، كذلك سيكون من مهمات القوة الدولية الإشراف على المعابر.
وتؤكد باريس استعدادها لزيادة حضورها في إطار القوة الأوروبية الموجودة منذ سنوات على هذه المعابر، وأشار ماكرون إلى أن بإمكان بلاده إرسال ما لا يقل عن مائة جندي لهذه المهمة، ولكن أيضاً للمساهمة في تدريب وتجهيز القوات الأمنية الفلسطينية، وإعادة فتح المعابر.
تعي باريس أنه من غير الانخراط الأميركي سوف يتجمّد، الوضع إن لم يكن يسير نحو الأسوأ، ومن هنا تحرص على ما تعده «التكامل» مع «خطة ترمب» والتأكيد، لدى كل مناسبة، دوام ديناميتها؛ كونها الطريق -ربما الوحيد- للخروج من ديمومة الحرب، ووضع حد للنزاع المزمن.






