جين غودال وإرث البشرية المضطرب

غياب عالمة الرئيسيات أغلق نافذة فتحتها لنا بقوة على غابات غومبي التنزانية

عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
TT

جين غودال وإرث البشرية المضطرب

عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال

غيابها ليس مجرد فقدانٍ لعالمةِ رئيسياتٍ بارزةٍ أو ناشطةِ بيئةٍ شهيرة، بل هو إغلاق للنافذة التي فتحتها بنفسها بقوةٍ وصبرٍ في غابات غومبي التنزانية قبل أكثر من ستة عقود، نافذة أجبرتنا، ولأول مرة، على النظر بصدقٍ مرعبٍ إلى المرآة، لنرى أنفسنا من خلال عالم الشمبانزي: قرداً يُصنِّع أداةً، ويشن حرباً، ويواسي رفيقاً.

جين غودال الراحلة عن عالمنا منذ ما يقارب ثلاثة أسابيع، عن عمر يناهز 91 عاماً، تاركةً خلفها إرثاً فكرياً يتجاوز كثيراً صورتها الأيقونية كالسيدة اللطيفة ذات الشعر الأشقر التي تداعب صغار الشمبانزي، والتي عندما وصلت إلى شواطئ بحيرة تنجانيقا في عام 1960، كانت تفتقر إلى أي تدريبٍ أكاديميٍّ رسميٍّ. كانت مجردَ سكرتيرة سابقةٍ تحمل شغفاً طفولياً بالحيوانات وبأفريقيا، مدعومةً بحدس عالم الأنثروبولوجيا الشهير لويس ليكي، الذي آمن بأن عقلها غير المُدرَّب علميّاً قد يرى ما فشل الآخرون في رؤيته. وكان محقاً.

لم تكن مساهمتها مجرد اكتشافٍ، بل كانت زلزالاً فلسفياً. في الأشهر الأولى من بحثها، ومن خلال صبرها الأسطوري الذي سمح للشمبانزي أخيراً بقبول وجودها، شاهدت ذكراً أطلقت عليه اسم «ديفيد غرايبيرد» وهو يُجرِّد غصناً من أوراقه ليصطاد به النمل الأبيض. كان هذا الفعل البسيط بمثابة تفجيرٍ للتعريف الراسخ للإنسان. فإذا كان «الإنسان صانع الأدوات»، كما عَرَّفه بنجامين فرانكلين وردده الأكاديميون، فإن برقية ليكي الشهيرة لغودال لخصت المأزق: «الآن يجب علينا إعادة تعريف (الأداة)، أو إعادة تعريف (الإنسان)، أو قبول الشمبانزي كبشر».

إن قيمتها الثقافية لا تكمن فقط في ماذا رأت، ولكن في كيف جعلتنا نراه. تحدت الأعراف العلمية الصارمة في عصرها، ورفضت بشدةٍ نصيحة أساتذتها في كامبريدج (التي التحقت بها لاحقاً لتحصل على الدكتوراه دون درجة بكالوريوس) بتسمية الشمبانزي بأرقامٍ. أصرت على منحهم أسماءً: «فلو» الأم المسيطرة، «فيفي» ابنتها، «ديفيد غرايبيرد» الهادئ، «غولياث» الطموح.

هذا القرار، الذي عُدّ حينها عاطفياً وغير علمي، كان في جوهره موقفاً فكرياً ثورياً. من خلال منحهم أسماء، وإلباسهم «شخصياتٍ». وعندما كتبت عنهم في مقالاتها لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» أو في كتابها الكلاسيكي «في ظل الإنسان - (1971)»، تحولوا من مجرد «مواضيع بحث» إلى «شخصياتٍ» درامية، باستخدامها السرد بأسلوبها الأدبي الرصين والممتع معاً، كأداةٍ لنقل حياتهم العاطفية الغنية.

في صفحاتها، لم نقرأ تحليلاتٍ جافةً للسلوك، بل قرأنا عن الأمومة الحانية، والروابط الأسرية الممتدة لأجيالٍ، والتحالفات السياسية المعقدة، حتى التعبير عن الحزن. لقد أجبرت نتاجاتها العالم، العلمي والشعبي على حدٍ سواء، على الاعتراف بأن التعاطف، والترابط الاجتماعي المعقد، والوعي بالذات، كلها سماتٌ تسبق وجودنا البشري. لقد جعلتنا نرى الإنسانيةَ في غير البشر، وبصدقها العلمي الذي لا يلين، أعطتنا الحقيقةَ كاملةً، حتى عندما كانت قبيحةً. في البداية، حطمت أسطورة «الشمبانزي النباتي المسالم» حين كشفت كيف يصطادون بانتظامٍ قردة الكولوبوس ويأكلون لحومها بوحشية، لكن الاكتشاف الأكثر إثارةً للرعب جاء في السبعينات. في كتابها «عبر نافذة - (1990)»، الذي سجلت فيه وقائع ما عُرف بـ«حرب الأربع سنوات في غومبي».

شاهدت غودال مجتمع الشمبانزي ينقسم إلى فصيلتين متنافستين. وخلال أربع سنوات، راقبت بعمق وفزع كيف شنت مجموعة الذكور الشمالية غاراتٍ منظمةً وممنهجةً على أراضي المجموعة الجنوبية، وكيف كانوا يعزلون الذكورَ واحداً تلو الآخر ويضربونهم حتى الموت، فوثَّقت «حرب الإبادة» البدائية، والقتل المتعمد لأبناء جنسهم، وحتى أكل لحوم الأعداء.

نشرت لاحقاً عن صدمتها، وكيف استيقظت ليلاً تتخيل «ساتان» وهو يلعق الدماء من جرح غائر في وجه «سنيف». هذا الكشفُ كان أعمق وأكثر إزعاجاً من اكتشاف الأدوات، إذ أثبت أن الحرب المنظمة، والعدوان الإقليمي، والجانب المظلم الذي ننسبه عادةً لـ«الثقافة البشرية الفاسدة»، هي في الواقع جزءٌ لا يتجزأ من إرثنا البيولوجي، لتحطم بذلك أسطورة «الوحش النبيل» إلى الأبد، ليس فقط عن الإنسان، بل عن الطبيعة ذاتها، بعد مكاشفتنا بأننا لسنا ملائكةً سقطت من الجنة، بل نحن مخلوقات متطورةٌ تحمل في داخلها القدرةَ على التعاطف الاستثنائي (مثل الأم «فلو») والقدرةَ على الوحشية الممنهجة (مثل حرب غومبي).

كان هذا الفهم المزدوج للطبيعة هو الذي دفعها إلى «حياتها الثانية» بصفتها ناشطة، في منتصف الثمانينات، إذ تحولت من عالمةٍ مراقبةٍ إلى داعية عالمية. أسست «معهد جين غودال» في عام 1977 وبرنامج «الجذور والبراعم» (Roots and Shoots) في عام 1991، محولةً شهرتها العالمية إلى قوةٍ سياسيةٍ لحماية البيئة بعدما أدركت أن فهم الشمبانزي يعني بالضرورة حمايتهم، لكن نشاطاتها النابضة لم تكن مجرد دعوات لطيفة لزراعة الأشجار، بل كانت «ثوريةً» حقيقيةً، موقفها السياسي متجذر في علمها، لفهمها العميق قدرتنا الموروثة على العنف، وإدراكها أن التعاون والأخلاق ليسا أمرين فطريين بالكامل، بل هما اختيارٌ واعٍ يجب النضال من أجله.

تحدت الأعراف العلمية الصارمة في عصرها وقيمتها الثقافية لا تكمن فقط في ماذا رأت ولكن في كيف جعلتنا نراه

في سنواتها الأخيرة، أصبحت مواقفها أكثر تشدداً. وصفت نفسها بأنها «معاديةٌ للفاشية» بحزمٍ. وفي كلماتها الشهيرة التي بُثت بعد وفاتها، انتقدت بحدةٍ قادةً مثل ترمب وبوتين ونتنياهو، ساخرةً من رغبتها في وضعهم جميعاً على صاروخٍ إلى المريخ. لم يكن هذا مجرد غضب سيدة عجوزٍ، بل كان الاستنتاج المنطقي لحياتها كلها: أن القادة الذين يغذون الانقسام والعنف القبلي ليسوا سوى استسلامٍ لأحلك أجزاء إرثنا التطوري، وهو الإرث الذي قضت حياتها تحذرنا منه.

كتبت غودال 32 كتاباً، كان آخرها «الأمل: دليل للبقاء في الأوقات الصعبة - (2021)». قد يبدو غريباً أن تختتم امرأةٌ - رأت حرب إبادةٍ بين الشمبانزي - حياتَها بكلمات عن الأمل، وللمفارقة لم يأتِ أملها على شاكلة سذاجة رومانسية. فهي رأت الأسوأ في طبيعتنا، والأفضل أيضاً. فكما شهدت على العنف، خبرت التعاطف الذي لا حدود له بين الأم وطفلها، والمصالحة بعد القتال، والذكاء في صناعة الأدوات.

ذهبت هي بجسدها بعيداً، وبقي منها إرث ثقافي مزدوج، فمن خلال كتبها وأبحاثها، أجبرتنا على التخلي عن غطرستنا بوصفنا «كائنات فريدة» صانعةً للأدوات، وأجبرتنا في الوقت ذاته على التخلي عن براءتنا بوصفنا «كائنات مسالمة» أفسدتها الحضارة. لقد وضعتنا تماماً «في ظل الإنسان»، وهو الظل الذي يمتد عميقاً في غابات غومبي.

لعل قيمتها الكبرى للثقافة الإنسانية هي في إهدائنا «الحقيقة».

حقيقة أننا مخلوقات معقدةٌ بشكلٍ مذهلٍ، وأن الخير والشر، التعاون والصراع، كل منها جزءٌ أصيلٌ منا. رحيل جين غودال يغلق نافذة غومبي، لكن المرآة التي وضعتها أمامنا ستبقى تحدق فينا إلى الأبد، مجبرةً إيانا على الاختيار.


مقالات ذات صلة

ارتفاع الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوتيرة أسرع من مثلي المعدل العالمي

بيئة عامل يقف تحت أشعة الشمس وسط درجات الحرارة المرتفعة (رويترز)

ارتفاع الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوتيرة أسرع من مثلي المعدل العالمي

قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، في تقرير، إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجّلت أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق في عام 2024

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق نفايات القهوة تعزز قوة الخرسانة وتقلل البصمة الكربونية (معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا)

نفايات القهوة تصنع خرسانة أقل انبعاثاً للكربون

تكشف الدراسة عن إمكانية تحويل مخلفات القهوة إلى مادة بناء مستدامة تعزز صلابة الخرسانة وتخفض بصمتها الكربونية، مما يدعم التوجه نحو اقتصاد دائري.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
آسيا فيضانات في تايلاند (أ.ب)

ارتفاع عدد الوفيات جراء الفيضانات في تايلاند وسريلانكا

ذكر بيان حكومي أن حصيلة الوفيات جراء الفيضانات في جنوب تايلاند ارتفعت إلى 87 اليوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (بانكوك)
يوميات الشرق يعكس ظهور النسر ضمن المحمية أهميتها المتزايدة بوصفها ملاذاً للطيور المهاجرة (واس)

رصد أول ظهور للنسر أبيض الذيل في السعودية منذ 20 عاماً

رصدت محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ظهوراً نادراً للنسر أبيض الذيل، أحد الطيور المهاجرة، وهو الرصد المؤكد الأول لهذا النوع في السعودية منذ أكثر من 20 عاماً.

«الشرق الأوسط» (تبوك)
يوميات الشرق خرائط جوية تُظهر موجة الحر الشديدة التي اجتاحت جنوب أوروبا وشمال أفريقيا في 29 يونيو 2025 مع درجات حرارة مرتفعة بشكل غير معتاد (وكالة الفضاء الأوروبية)

مراقبة التغيرات المناخية بالذكاء الاصطناعي

أظهرت دراسة دولية أن دمج الذكاء الاصطناعي مع بيانات الأقمار الاصطناعية يمثل تحولاً جذرياً في قدرة العالم على تتبُّع التكيف مع تغيُّر المناخ وقياس تأثيراته بدقة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.