جين غودال وإرث البشرية المضطرب

غياب عالمة الرئيسيات أغلق نافذة فتحتها لنا بقوة على غابات غومبي التنزانية

عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
TT

جين غودال وإرث البشرية المضطرب

عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال
عالمة الرئيسيات والناشطة البيئية جين غودال

غيابها ليس مجرد فقدانٍ لعالمةِ رئيسياتٍ بارزةٍ أو ناشطةِ بيئةٍ شهيرة، بل هو إغلاق للنافذة التي فتحتها بنفسها بقوةٍ وصبرٍ في غابات غومبي التنزانية قبل أكثر من ستة عقود، نافذة أجبرتنا، ولأول مرة، على النظر بصدقٍ مرعبٍ إلى المرآة، لنرى أنفسنا من خلال عالم الشمبانزي: قرداً يُصنِّع أداةً، ويشن حرباً، ويواسي رفيقاً.

جين غودال الراحلة عن عالمنا منذ ما يقارب ثلاثة أسابيع، عن عمر يناهز 91 عاماً، تاركةً خلفها إرثاً فكرياً يتجاوز كثيراً صورتها الأيقونية كالسيدة اللطيفة ذات الشعر الأشقر التي تداعب صغار الشمبانزي، والتي عندما وصلت إلى شواطئ بحيرة تنجانيقا في عام 1960، كانت تفتقر إلى أي تدريبٍ أكاديميٍّ رسميٍّ. كانت مجردَ سكرتيرة سابقةٍ تحمل شغفاً طفولياً بالحيوانات وبأفريقيا، مدعومةً بحدس عالم الأنثروبولوجيا الشهير لويس ليكي، الذي آمن بأن عقلها غير المُدرَّب علميّاً قد يرى ما فشل الآخرون في رؤيته. وكان محقاً.

لم تكن مساهمتها مجرد اكتشافٍ، بل كانت زلزالاً فلسفياً. في الأشهر الأولى من بحثها، ومن خلال صبرها الأسطوري الذي سمح للشمبانزي أخيراً بقبول وجودها، شاهدت ذكراً أطلقت عليه اسم «ديفيد غرايبيرد» وهو يُجرِّد غصناً من أوراقه ليصطاد به النمل الأبيض. كان هذا الفعل البسيط بمثابة تفجيرٍ للتعريف الراسخ للإنسان. فإذا كان «الإنسان صانع الأدوات»، كما عَرَّفه بنجامين فرانكلين وردده الأكاديميون، فإن برقية ليكي الشهيرة لغودال لخصت المأزق: «الآن يجب علينا إعادة تعريف (الأداة)، أو إعادة تعريف (الإنسان)، أو قبول الشمبانزي كبشر».

إن قيمتها الثقافية لا تكمن فقط في ماذا رأت، ولكن في كيف جعلتنا نراه. تحدت الأعراف العلمية الصارمة في عصرها، ورفضت بشدةٍ نصيحة أساتذتها في كامبريدج (التي التحقت بها لاحقاً لتحصل على الدكتوراه دون درجة بكالوريوس) بتسمية الشمبانزي بأرقامٍ. أصرت على منحهم أسماءً: «فلو» الأم المسيطرة، «فيفي» ابنتها، «ديفيد غرايبيرد» الهادئ، «غولياث» الطموح.

هذا القرار، الذي عُدّ حينها عاطفياً وغير علمي، كان في جوهره موقفاً فكرياً ثورياً. من خلال منحهم أسماء، وإلباسهم «شخصياتٍ». وعندما كتبت عنهم في مقالاتها لمجلة «ناشيونال جيوغرافيك» أو في كتابها الكلاسيكي «في ظل الإنسان - (1971)»، تحولوا من مجرد «مواضيع بحث» إلى «شخصياتٍ» درامية، باستخدامها السرد بأسلوبها الأدبي الرصين والممتع معاً، كأداةٍ لنقل حياتهم العاطفية الغنية.

في صفحاتها، لم نقرأ تحليلاتٍ جافةً للسلوك، بل قرأنا عن الأمومة الحانية، والروابط الأسرية الممتدة لأجيالٍ، والتحالفات السياسية المعقدة، حتى التعبير عن الحزن. لقد أجبرت نتاجاتها العالم، العلمي والشعبي على حدٍ سواء، على الاعتراف بأن التعاطف، والترابط الاجتماعي المعقد، والوعي بالذات، كلها سماتٌ تسبق وجودنا البشري. لقد جعلتنا نرى الإنسانيةَ في غير البشر، وبصدقها العلمي الذي لا يلين، أعطتنا الحقيقةَ كاملةً، حتى عندما كانت قبيحةً. في البداية، حطمت أسطورة «الشمبانزي النباتي المسالم» حين كشفت كيف يصطادون بانتظامٍ قردة الكولوبوس ويأكلون لحومها بوحشية، لكن الاكتشاف الأكثر إثارةً للرعب جاء في السبعينات. في كتابها «عبر نافذة - (1990)»، الذي سجلت فيه وقائع ما عُرف بـ«حرب الأربع سنوات في غومبي».

شاهدت غودال مجتمع الشمبانزي ينقسم إلى فصيلتين متنافستين. وخلال أربع سنوات، راقبت بعمق وفزع كيف شنت مجموعة الذكور الشمالية غاراتٍ منظمةً وممنهجةً على أراضي المجموعة الجنوبية، وكيف كانوا يعزلون الذكورَ واحداً تلو الآخر ويضربونهم حتى الموت، فوثَّقت «حرب الإبادة» البدائية، والقتل المتعمد لأبناء جنسهم، وحتى أكل لحوم الأعداء.

نشرت لاحقاً عن صدمتها، وكيف استيقظت ليلاً تتخيل «ساتان» وهو يلعق الدماء من جرح غائر في وجه «سنيف». هذا الكشفُ كان أعمق وأكثر إزعاجاً من اكتشاف الأدوات، إذ أثبت أن الحرب المنظمة، والعدوان الإقليمي، والجانب المظلم الذي ننسبه عادةً لـ«الثقافة البشرية الفاسدة»، هي في الواقع جزءٌ لا يتجزأ من إرثنا البيولوجي، لتحطم بذلك أسطورة «الوحش النبيل» إلى الأبد، ليس فقط عن الإنسان، بل عن الطبيعة ذاتها، بعد مكاشفتنا بأننا لسنا ملائكةً سقطت من الجنة، بل نحن مخلوقات متطورةٌ تحمل في داخلها القدرةَ على التعاطف الاستثنائي (مثل الأم «فلو») والقدرةَ على الوحشية الممنهجة (مثل حرب غومبي).

كان هذا الفهم المزدوج للطبيعة هو الذي دفعها إلى «حياتها الثانية» بصفتها ناشطة، في منتصف الثمانينات، إذ تحولت من عالمةٍ مراقبةٍ إلى داعية عالمية. أسست «معهد جين غودال» في عام 1977 وبرنامج «الجذور والبراعم» (Roots and Shoots) في عام 1991، محولةً شهرتها العالمية إلى قوةٍ سياسيةٍ لحماية البيئة بعدما أدركت أن فهم الشمبانزي يعني بالضرورة حمايتهم، لكن نشاطاتها النابضة لم تكن مجرد دعوات لطيفة لزراعة الأشجار، بل كانت «ثوريةً» حقيقيةً، موقفها السياسي متجذر في علمها، لفهمها العميق قدرتنا الموروثة على العنف، وإدراكها أن التعاون والأخلاق ليسا أمرين فطريين بالكامل، بل هما اختيارٌ واعٍ يجب النضال من أجله.

تحدت الأعراف العلمية الصارمة في عصرها وقيمتها الثقافية لا تكمن فقط في ماذا رأت ولكن في كيف جعلتنا نراه

في سنواتها الأخيرة، أصبحت مواقفها أكثر تشدداً. وصفت نفسها بأنها «معاديةٌ للفاشية» بحزمٍ. وفي كلماتها الشهيرة التي بُثت بعد وفاتها، انتقدت بحدةٍ قادةً مثل ترمب وبوتين ونتنياهو، ساخرةً من رغبتها في وضعهم جميعاً على صاروخٍ إلى المريخ. لم يكن هذا مجرد غضب سيدة عجوزٍ، بل كان الاستنتاج المنطقي لحياتها كلها: أن القادة الذين يغذون الانقسام والعنف القبلي ليسوا سوى استسلامٍ لأحلك أجزاء إرثنا التطوري، وهو الإرث الذي قضت حياتها تحذرنا منه.

كتبت غودال 32 كتاباً، كان آخرها «الأمل: دليل للبقاء في الأوقات الصعبة - (2021)». قد يبدو غريباً أن تختتم امرأةٌ - رأت حرب إبادةٍ بين الشمبانزي - حياتَها بكلمات عن الأمل، وللمفارقة لم يأتِ أملها على شاكلة سذاجة رومانسية. فهي رأت الأسوأ في طبيعتنا، والأفضل أيضاً. فكما شهدت على العنف، خبرت التعاطف الذي لا حدود له بين الأم وطفلها، والمصالحة بعد القتال، والذكاء في صناعة الأدوات.

ذهبت هي بجسدها بعيداً، وبقي منها إرث ثقافي مزدوج، فمن خلال كتبها وأبحاثها، أجبرتنا على التخلي عن غطرستنا بوصفنا «كائنات فريدة» صانعةً للأدوات، وأجبرتنا في الوقت ذاته على التخلي عن براءتنا بوصفنا «كائنات مسالمة» أفسدتها الحضارة. لقد وضعتنا تماماً «في ظل الإنسان»، وهو الظل الذي يمتد عميقاً في غابات غومبي.

لعل قيمتها الكبرى للثقافة الإنسانية هي في إهدائنا «الحقيقة».

حقيقة أننا مخلوقات معقدةٌ بشكلٍ مذهلٍ، وأن الخير والشر، التعاون والصراع، كل منها جزءٌ أصيلٌ منا. رحيل جين غودال يغلق نافذة غومبي، لكن المرآة التي وضعتها أمامنا ستبقى تحدق فينا إلى الأبد، مجبرةً إيانا على الاختيار.


مقالات ذات صلة

العثور على آثار أقدام ديناصورات بجبال الألب في إيطاليا

بيئة أقدام الديناصورات التي اكتشفها علماء حفريات إيطاليون (أ.ب)

العثور على آثار أقدام ديناصورات بجبال الألب في إيطاليا

اكتشف علماء حفريات إيطاليون الآلاف من آثار أقدام الديناصورات على صخرة شبه عمودية على ارتفاع أكثر من ألفي متر فوق مستوى سطح البحر في متنزه ستلفيو الوطني.

«الشرق الأوسط» (ميلانو)
الولايات المتحدة​ مياه الفيضانات في الولايات المتحدة (أ.ب)

كندا وأميركا تتأهبان لمزيد من الأمطار والفيضانات

انحسرت مياه الفيضانات في غرب الولايات المتحدة وكندا، اليوم السبت، بعد أيام من الأمطار الغزيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
بيئة عامل يقف تحت أشعة الشمس وسط درجات الحرارة المرتفعة (رويترز)

ارتفاع الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوتيرة أسرع من مثلي المعدل العالمي

قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، في تقرير، إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجّلت أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق في عام 2024

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق نفايات القهوة تعزز قوة الخرسانة وتقلل البصمة الكربونية (معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا)

نفايات القهوة تصنع خرسانة أقل انبعاثاً للكربون

تكشف الدراسة عن إمكانية تحويل مخلفات القهوة إلى مادة بناء مستدامة تعزز صلابة الخرسانة وتخفض بصمتها الكربونية، مما يدعم التوجه نحو اقتصاد دائري.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
آسيا فيضانات في تايلاند (أ.ب)

ارتفاع عدد الوفيات جراء الفيضانات في تايلاند وسريلانكا

ذكر بيان حكومي أن حصيلة الوفيات جراء الفيضانات في جنوب تايلاند ارتفعت إلى 87 اليوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (بانكوك)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.