التاريخ بين التسلط الأبوي وقصص الحب المبتورة

شيماء غنيم تقلّب صفحاته في رواية «مشربية زهزهان»

التاريخ بين التسلط الأبوي وقصص الحب المبتورة
TT

التاريخ بين التسلط الأبوي وقصص الحب المبتورة

التاريخ بين التسلط الأبوي وقصص الحب المبتورة

تتخذ رواية «مشربية زهزهان»، للروائية المصرية شيماء غنيم، من النصف الثاني للقرن التاسع عشر فضاءً زمنياً لها، وتحديداً فترة نهايات حكم الخديو إسماعيل، ثم تولي ابنه الخديو توفيق، مروراً بثورة أحمد عرابي، وانكسارها، واحتلال الإنجليز مصر. لكنَّ الرواية، رغم هذا التحديد الزمني للحقبة السياسية، لم تنشغل بالتأريخ للحكام وزعماء المعارضة، بل برواية التاريخ من أسفل، من الناس وأحوالهم، فتحكي عن أبناء الشعب المغبونين، وعن ظروفهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من خلال سيرة أبناء إحدى الحارات وسط القاهرة.

لم يمنح الخطاب السردي للشخصيات الوطنية الشهيرة، مثل عرابي وعبد الله النديم، سوى مساحات سردية محدودة، كشخصيات ثانوية، فالبطولة في هذا المتن السردي ليست لهما، بل لمجموعة من المنسحقين والمنسحقات، الذين يطحنهم الجهل والفقر والمرض، فضلاً عن التقسيمات الطبقية إلى سادة وعبيد، وتنعكس على حيواتهم بالضرورة آثار وظلال التحولات السياسية الكبرى في الدولة المصرية آنذاك، وفي الوقت نفسه كانت أحوالهم المتردية هذه تمثل تربة خصبة لهذه التحولات التي انتهت بالاستعمار الإنجليزي. وعلى مستوى الزمن السردي، تبدأ الرواية من عودة «أمين»، ابن سليمان بك، من بعثته للدراسة في فرنسا، ليجد الحارة وقد تبدلت أحوالها، وحتى أبوه وأمه وأخته، وبيتهم كله لم يعد كما تركه، ثم يستعيد السرد الأحداث الماضية في فترة غياب هذا الابن، موضحاً كيف تبدلت الأحوال، في استرجاع زمني واضح، حتى نصل إلى نقطة بدء الرواية، فنعود للزمن المضارع، وسرد الوقائع التي تحدث عقب عودة هذا الابن، ومحاولته تصحيح المسارات.

الرواية، الصادرة عن دار «العين» في القاهرة، تدور أحداثها كلها تقريباً في فضاء حارة صغيرة في أحد أحياء القاهرة القديمة، وتحديداً بالقرب من قصر عابدين، وعلى بُعد مسافة قليلة من مركز الحكم، حيث الحفلات والرفاهية داخل القصر، بينما في الجوار تغرق الحارة وأبناؤها في الفقر والبؤس، فتصير بمن فيها، تمثيلاً لما كان يدور في الوطن كله، ونرى فيها نماذج للمقاومة، مقاومة السراي ومقاومة الاحتلال، مثل: «صابر» و«السايس» و«اليوزباشي إسماعيل» و«معلم القهوة»، وفيها كذلك تمثيل للفساد المستشري في جسد الحارة والوطن؛ فالفتوة وشيخ الحارة ومعاون قسم الشرطة (القراقول)، يسهمون في إفساد الحارة بأفعالهم ورؤاهم، وفيها أيضاً «الشيخ عطا الله» رمز التدين الوسطي الأقرب إلى التصوف، وكذلك «سليمان بيه الخشاب»، ثري الحارة وأشهر رجالاتها، بوصفه نموذجاً للبرجوازية الصاعدة، تربطه علاقات بالسراي ورجال السلطة، ومتزوج من امرأة ذات أصول شركسية، هي «خديجة هانم»، التي تنظر إلى المصريين من أهل الحارة بتعالٍ وتحقير، وتعدّهم فلاحين لا يرتقون إلى مستواها وأصولها النبيلة، وتخشى على ابنها «أمين»، وابنتها «زهزهان» من هؤلاء الفلاحين السوقة.

يتخذ السرد مسارين؛ أحدهما بضمير الراوي العليم، والآخر والأكثر هيمنة هو السرد بضمير الأنا، من منظور «زهزهان»، ابنة «سليمان بك»، والشخصية الرئيسية التي تمسك بزمام الحكي، فنرى الحارة وأحوالها وتحولاتها من منظورها وبعينيها، فهي غير مسموح لها، بوصفها ابنة أكابر، أن تنزل الحارة وتحتكّ بأهلها، وممنوعة من الاختلاط بهم، بأوامر من أمها الشركسية، لكنها رغم ذلك ترى وتتابع كل ما يجري عبر الإطلال من مشربيتها العالية، حيث تراقب وترصد وتحلل كل ما يحدث، وتمسك بكل خيوط الأحداث في يدها من مكانها المتعالي، المحبوسة داخله، ورغم هذا التعالي في الموقع المكاني، فإنها ليست متعالية أخلاقياً أو طبقياً كأمها، بل تربطها علاقات حميمة بكثير من نساء وبنات الحارة المعدمات، بل تقع في حب «صابر» الفلاح الذي انضم إلى المقاومة، مقاومة سلطة الخديو، ثم مقاومة الاحتلال الإنجليزي.

في القلب من هذه الصراعات السياسية والطبقية، تبرز قصة ثلاث فتيات، يمثلن عصب الرواية ومحورها، ولكلٍّ منهن أزماتها ومآسيها، أولهن «زهزهان» ابنة البرجوازية، التي تعاني من قهر طبقتها لها، ومن ضغط القيم الذكورية الأبوية عليها، ممثلةً في وصايا أمها وتحكماتها، ورؤيتها لعلاقة المرأة بالرجل، فضلاً عن تسلط الأب، وكذا التقاليد الاجتماعية التي تشعر بأنها مسجونة داخلها، وتحاول دوماً التمرد عليها والفكاك منها، خصوصاً فيما يتعلق بحبها لـ«صابر» الفقير، لكنَّ سلطة العائلة والتقاليد ترفض هذا الحب، ويزوجها أبوها عنوةً رجلاً في مثل عمره، ليبعدها عن حبيبها غير اللائق اجتماعياً من منظوره، بعد أن يُبرحها ضرباً، ومن ثم تطاردها التعاسة في بيت زوجها، ومع زوجتيه الأوليين، وانتقالها من التبعية لسلطة الأب إلى سلطة الزوج وزوجتيه من الهوانم، وسرعان ما يموت هذا الزوج فتعود مرة أخرى إلى الحارة، حيث عالمها الأثير.

الشخصية الثانية «حليمة»، الخادمة في منزل «سليمان بك»، التي كانت أمها ومن قبلها جدتها مجرد «جواري» له ولأبيه ولأجداده، فهي تحمل ميراث العبودية الذي أثقل أسلافها من نساء عائلتها. ورغم أن «سليمان بك» أعتقها هي وأمها، فإنها ظلت مجرد خادمة، ولم تعرف أبداً -حتى رحيلها المأساوي- أنها شقيقة مخدومها غير المعترف بها، لكنها الصديقة الأقرب للبطلة «زهزهان»، فالعلاقة بينهما علاقة صديقتين في عمر متقارب، وليست سيدة بمخدومتها، وكانت حليمة دائماً رسولها إلى «صابر». أما الشخصية الثالثة فهي «فضل واسع»، سليطة اللسان، التي تعمل في حمام السيدات، وتعاني قهر الأب وقسوته، وتقارع العالم عنفاً بعنف، في محاولة لاتقاء شرور من حولها، الذين يترصدونها، وأولهم والدها المنبوذ من الحارة كلها، ويريد قتلها، لولا إعاقة جسدية في قدمه تمنعه عن التغلب عليها، لكنها في داخلها رقيقة، ومُحبّة للخير.

الشخصيات الثلاث يجمعهن القهر الذكوري بدرجات مختلفة، كما يجمعهن العمل في المقاومة، ويتخذن من «إسطبل» الخيول في منزل البك مركزاً للتخطيط للمقاومة السياسية ضد الخديو، ثم ضد الإنجليز، فرغم التفاوت الطبقي بينهن، فإنهن يعين أن الفساد السياسي والثقافة الذكورية الأبوية لا تفرِّق بينهن، وقادرة على البطش بهن، وتجمعهن كذلك قصص الحب المبتورة، فلا واحدة منهن تتحقق عاطفياً، إذ إن قصة حب «زهزهان» و«صابر» لا تصل إلى مبتغاها بسبب الفروق الطبقية ورفض الأب والأم، أما «حليمة» فتحب «أمين»، شقيق زهزهان، وابن سيدها ومخدومها، ولا تجرؤ حتى على أن تعلن هذا الحب بينها وبين نفسها، لكنّ «زهزهان» تراه في عينيها، وتشفق عليها. أما «فضل واسع»، ألمع شخصيات الرواية، فتحب «صابر» أيضاً، لكنها تكتم هذا الحب، لمعرفتها أنه يعيش قصة حب مع صديقتها «زهزهان»، ولا يعيرها انتباهاً.

تنتهي الرواية نهايةً ذكيةً، مؤكدةً أن الخلاص من سطوة التقاليد البالية والاستعمار والفساد السياسي والاجتماعي، ومن كل السلبيات، لن يتأتى إلا بالوعي والتعليم، فتحوّل «زهزهان» البيت الكبير إلى مدرسة لتعليم الفتيات، ليمتلكن مصائرهن، ويساعدها شقيقها «أمين»، الذي تلقى تعليماً في أوروبا، ويؤمن بأن التحرر لن يتأتى إلا بإعادة تربية العقول، فهي الخطوة الأولى في طريق التحرر والخلاص الفردي والجمعي.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».