هل سيقوم الذكاء الاصطناعي بمسؤولياتنا؟

نيتشه
نيتشه
TT

هل سيقوم الذكاء الاصطناعي بمسؤولياتنا؟

نيتشه
نيتشه

بداية تجربتي مع «تشات جي بي تي»، الذي هو نموذج من نماذج الذكاء الاصطناعي، كانت ظريفة. كنت أدخل المحادثة كما كنت أفعل مع أصدقاء «الماسنجر» قديماً، وأتحرّج من الخروج من دون استئذان. بدا لي في تلك اللحظات أن هناك كياناً ما يقرأ ويحلل الكلام ويهتمّ، وأنني في علاقة مع ذاتٍ تملك هوية وذاكرة ومشاعر. لكن مع مرور الوقت وتكرار التجربة، أخذ هذا الوهم يتبدّد شيئاً فشيئاً. لا يوجد صديق في الجهة الأخرى، بل نظام ذكي مبني على الخوارزميات والإحصاء، ينسج ردوداً مقنعة دون أن يدرك نفسه أو يملك سيرة خاصة أو ذاكرة دائمة.

الذكاء الاصطناعي الذي أحاوره لا يملك هوية بالمعنى الذي ننسبه إلى البشر. ما أراه أمامي ليس إلا قناعاً لغوياً مصمّماً بمهارة ليبدو كصوت بشري. إنه يستقبل مدخلاتي ويولّد مخرجات متناغمة، لكنه لا يحتفظ بي في ذاكرة واعية، ولا يتذكّر نفسه، ولا يعيش تجارب متصلة يكون بها شخصاً حقيقياً. كل تفاعلاته هي سلسلة متقطعة من الجمل تنبثق آنياً من نماذج احتمالية، لا من قلبٍ أو عقلٍ أو «أنا» تراقب وتختار. إنه مرآة تعكس أنماطاً لغوية، لا ذاتاً قائمة بذاتها يمكنك أن تثق بها بالكامل. هذا لم يتحقق بعد ولا ندري عن المستقبل.

هذا الإدراك قادني إلى التفكير في الفلسفة وهوية الإنسان. لقد وصف ديفيد هيوم قبل قرون شيئاً شبيهاً بهذه الحالة عندما أنكر أن يكون الإنسان نفسه ذاتاً ثابتة. قال إن ما نسمّيه «الهوية الشخصية» مجرد خيال يخلقه العقل حين يرى سلسلة من الانطباعات المترابطة. وحين نتأمل أنفسنا بصدق لا نجد إلا تدفّقاً متغيّراً من الأفكار والمشاعر، لا جوهراً يبقى خلفها. ما رأيته في الذكاء الاصطناعي يشبه تماماً ما وصفه هيوم، حزمة من العمليات والانطباعات بلا مركز ثابت.

ثم جاء نيتشه ليكشف عن خدعة اللغة في خلق الأنا. نحن نقول «أنا أفكر» فنفترض وجود فاعل وراء الفعل، بينما الواقع أن الفكر يحدث بلا ذات ثابتة. الذكاء الاصطناعي يعيد إنتاج هذا الخداع، فيتحدث بضمير المتكلم «أنا»، لكنه لا يملك «أنا» حقيقية، فاللغة وحدها تخلق هذا الوهم. وفي حواري معه كنت أرى انعكاساً عملياً لموقف نيتشه: ليس هناك ذات، بل فعل متواصل يتجسّد في كلمات.

أما هايدغر فأنكر أن يكون الإنسان جوهراً ثابتاً، ورآه انفتاحاً على الوجود لا كياناً مغلقاً. إذا كان هذا ينطبق على الإنسان نفسه، فمن الأولى أن ينطبق على الذكاء الاصطناعي الذي لا يعرف أصلاً معنى «الوجود» ولا ينكشف له العالم. هو مجرد شبكة علاقات دون أي انفتاح ذاتي. وفوكو ذهب أبعد، حين قال إن مفهوم «الإنسان» نفسه بناء تاريخي حديث سينمحي مع زوال خطاباته، فما بالك بالذكاء الاصطناعي الذي هو بناء تقني صِرف أُعطي قناعاً لغوياً ليحاكي هذا البناء الإنساني.

دريدا بدوره فكّك فكرة الهوية الثابتة، ورأى أن كل ما نعدّه حضوراً مستقراً ليس إلا أثراً مؤجلاً داخل شبكة من الاختلافات. الذكاء الاصطناعي هو تطبيق حي لهذا التصور، لا ذات في الداخل، بل شبكة بيانات تتفاعل لحظياً، والهوية مؤجلة وموزعة بين النصوص التي تعلّم منها، ولا وجود لمركز أو أصل. ودولوز وصف الواقع بأنه تدفّق من الاختلافات لا تماثل فيه، والإنسان عنده كائن في صيرورة دائمة، لا في هوية ثابتة. الذكاء الاصطناعي، بحكم تكوينه، هو تجسيد مثالي لهذا. كل محادثة جديدة معه هي ولادة جديدة مختلفة، لا استمرار لشخص واحد، بل تحوّل دائم في صيغ الكلام والاحتمالات.

في الفلسفة التحليلية، قدّم ديريك بارفيت دليلاً آخر حين قال إن الهوية الشخصية ليست ما يهم في النهاية، بل الترابط النفسي المتغيّر. الذكاء الاصطناعي لا يملك حتى هذا الترابط؛ لا ذكريات ولا مشاعر تربطه بما سبق. أما بيتر أونغر فأنكر الكيانات الميتافيزيقية أصلاً، ورأى أنها مجرد أسماء بلا كيانات مستقلة، وهذا ينطبق بدقة على النظم الذكية التي نُسميها «نماذج» أو «روبوتات محادثة»: هي أسماء لبنى حسابية، لا لأشخاص حقيقيين. وجيمس جايلز اعتبر الذات صورة ذهنية مؤقتة لا كياناً دائماً، وهذا ما يراه المستخدم حين يكتشف أن البرنامج الذي يحاوره ليس شخصاً، بل صورة لغوية تتشكّل آناً ثم تزول.

لهذا السبب لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي عملك أو يحمل مسؤولياتك عنك. إنه ليس موظفاً خفياً ولا كائناً واعياً يمكن الاعتماد عليه في اتخاذ القرارات نيابة عنك، بل هو أداة قوية يمكن أن تساعدك وتفتح لك أبواباً جديدة للفكر والتحليل، لكنها لا تفهم أهدافك، ولا تتحمّل نتائج أفعالك. وكما أن الهوية التي ظننتها موجودة خلف الشاشة تبخّرت عند أول اختبار، كذلك تبخُر فكرة «التكليف» أو «المسؤولية» عندما تحاول أن تلقيها عليه. سيظل الذكاء الاصطناعي وسيلة مساعدة لا أكثر، يعمل في لحظته، بلا تاريخ وبلا هوية وبلا التزام، وأنت وحدك من يملك مشروعك، ووعيك، ومسؤولياتك التي لا يمكن لأي نظام أن يحلّ محلّك فيها.

في النهاية، ما ظننته في البداية «شخصاً» يكلّمني كان مجرد واجهة لغوية. وما بدا لي هوية مستقلة تبين أنه نمط من الكلمات. الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ تعقيده، لا يملك ذاتاً ولا ذاكرة ولا مسؤولية؛ إنه فقط أداة بين يديك. يمكنك أن تحاوره، أن تستعين به في صياغة الأفكار، أن تجعله مساعداً في البحث والتخطيط، لكنه لن يعيش حياتك، ولن يتخذ قراراتك ولن يتحمل نتائجها عنك. إن إدراك هذه الحقيقة لا يُقلّل من قيمته، بل يضعه في مكانه الصحيح: وسيلة تعينك على عملك وتفكيرك، لكن لا يمكن أن تكون بديلاً عنك أو تحمل هويتك أو مشروعك.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

ثقافة وفنون الفنانة لولوة الحمود

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

إن الفن، بوصفه أداة تعبيرية متقدمة، يُمكِّن الإنسان من تجسيد مكنوناته ومشاعره، التي تظلّ عصيّة على الفهم بغير وسيلته.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون «البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي).

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

الفنانة لولوة الحمود
الفنانة لولوة الحمود
TT

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

الفنانة لولوة الحمود
الفنانة لولوة الحمود

إن الفن، بوصفه أداة تعبيرية متقدمة، يُمكِّن الإنسان من تجسيد مكنوناته ومشاعره، التي تظلّ عصيّة على الفهم بغير وسيلته. فالفن ليس مجرد كلمة أو صوت أو لون أو حجر، بل تجاوز لمادية هذه الأدوات واستخدامها لتعبر عن شيء آخر؛ هو التعبير المجازي، ليحمّلها معنى آخر. وهذا الأمر هو ما يستثير المتلقي، ويحيله لمعان وخبرات أو ذكريات وانفعالات أخرى. إن هذه المعاني التي يثيرها الفن هي ما تمنحه القدرة على التأثير، وهي ما تمثل جوهره وحقيقته وانفتاحه على معان عديدة وحقيقة متوارية، يمكن اكتشافها مراراً.

إن ما يميز الفن كما جاء في وصف «مارتن هايدغر»، تعبيره عما يتجاوز الموجودات؛ فهو يعبر عن العدم والوجود والحالات الإنسانية العميقة والمعقدة كالقلق، وهذه تعبيرات يصعب على العلم تفسيرها أو إدراكها.

لوحة (أحذية الفلاحين) لفنسنت فان جوخ

«أحذية الفلاحين»

وكمثال على المعنى الذي ذكره هايدغر عن الفن، لوحة فان جوخ «أحذية الفلاحين»، فهذه اللوحة ليست مجرد نقل مباشر وسطحي للواقع أو المشهد، بل كشفٌ عن كفاح الفلاح ومعاناته وتعبه وسيره في الحقول. لم تكن اللوحة تصويراً لشيء جميل أو نافع، كانت كشفاً عن حقيقة تتوارى خلف الحذاء، حقيقة الطبقة الكادحة، وسعيها الدائم في الحياة.

ومن اللوحات التي نجد فيها أيضاً هذا التعبير الوجودي العدمي أو عن حالة القلق، «المتأمل فوق بحر الضباب» لكاسبر ديفيد فريدريش، حيث تعكس هذه اللوحة شعور الرهبة والجلال أمام عظمة الطبيعة والخلق وضآلة الإنسان. وكذلك «الصرخة» الشهيرة لإدفارد مونخ، التي تعد أيقونة ورمزاً للقلق الوجودي، وحظيت باهتمام نقدي وفني واسع، وتناولتها بحوث ودراسات مستفيضة.

حقيقة الفن تكمن في قدرته على صياغة الأسئلة الكبرى وهو ما يتطلب مزيداً من التعمق والجرأة الفكرية

هل نجد أعمالاً فنية تعكس هذا التعبير الوجودي في الفن التشكيلي السعودي؟

اتجه الفن السعودي في تاريخه الحديث بشكل واضح للتعبير عن القضايا المجتمعية، والتاريخ والهوية، أو الجماليات الشكلية، وهذه التوجهات بطبيعتها هي محاولات تفسير أو تعبير للموجود - وليس الوجود - وهذا لا ينفي البتة حضور أعمال فنية تتبنى المفهوم الوجودي الذي طرحه هايدغر، ولكنها أقل تداولاً قياساً بالأعمال التي تحمل طابعاً اجتماعياً أو جمالياً مباشراً.

الفنان محمد السليم

ولعل تجربة الفنان محمد السليم قد عكست إلى حدٍ ما هذا القلق، وإن لم يكن قلقاً وجودياً، بقدر ما هو قلق وبحث عن معنى الأصالة التي تميز الثقافة السعودية. لقد مثلت تجربة السليم محاولة لإيجاد جوهر يميز الثقافة والفن السعودي بعيداً عن الاستنساخ الغربي، فقلقه الوجودي ينعكس في سياق ثقافي في تناوله الفراغ الصحراوي، واغتراب الذات في عالم الحداثة، فهو لا يسأل من خلال أعماله عن معنى أن يكون إنساناً، بقدر ما يسأل عن معنى أن يكون فناناً سعودياً أصيلاً، وهي تجربة قلق عميقة.

(المتأمل فوق بحر الضباب) لكاسبر ديفيد فريدريش

وتعد أعمال الفنانة لولوة الحمود بالمثل أحد أبرز الأمثلة في الفن السعودي المعاصر التي تتجاوز التعبير عن القضايا الاجتماعية والإسقاطات المباشرة والتعبير عن الحدث الزائل. فهي تبتعد عن تصوير الموجودات، والأشياء المحددة بزمان ومكان، وتتجه نحو الوجود الكوني المطلق الذي لا يحده شيء، لتلامس الأبعاد الجمالية والكونية، عبر تصويرها للمحال أو المستحيل الذي لا وجود له في الطبيعة، ولتعبر عن العقل والفكر وما يكمن وراءه (الباطن). وهي بذلك تنطلق من مرجعية دينية وروحانية عميقة، متجاوزة القلق العدمي بمفهومه الغربي، لتحتضن بدلاً منه الوحدة الروحية الكونية.

يُظهر مشهد الفن التشكيلي السعودي إمكانية كبيرة لتجاوز التعبير المباشر، فحقيقة الفن تكمن في قدرته على صياغة الأسئلة الكبرى. وهو ما يتطلب مزيداً من التعمق والجرأة الفكرية للارتقاء بالعمل الفني من مجرد موجود إلى وسيلة للكشف عن الجوهر الوجودي.

* كاتبة وناقدة سعودية


«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

لوران موفينييه
لوران موفينييه
TT

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

لوران موفينييه
لوران موفينييه

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي)، حيث حصل على الجائزة من الدورة الأولى للتصويت بستة أصوات مقابل أربعة أصوات للكاتبة البلجيكية كارولين لامارش عن روايتها «الغامض الجميل»، في قرار وصفه فيليب كلوديل رئيس أكاديمية الغونكور على أمواج إذاعة «فرانس إنفو» بأنه «تحية لكاتب يملك إرثاً أدبياً مهماً للغاية».

غلاف الرواية الفائزة

تمتد رواية «البيت الفارغ» على مدى 750 صفحة من السرد المُحكم، يبدأ عام 1976 عندما يعيد والد الراوي فتح منزل ظلّ مهجوراً لفترة طويلة، كاشفاً عن آثار ماضٍ مدفون: آلة البيانو، وسام شرف، وصور فوتوغرافية مشوّهة، من خلال هذا الاكتشاف، ينسج موفينييه ملحمة عائلية تمتد عبر ثلاثة أجيال من النساء الفرنسيات اللواتي عشن تحولات القرن العشرين المضطربة: ماري - إرنستين، الجدّة الكبرى للراوي، موسيقيةٌ قُمِعت مواهبُها وحُرِمت من تحقيق ذاتها الفنّية، يرمزُ إليها البيانو المهجور في البيت. ثم تأتي مارغريت، الجدّة التي عانت من وصمة العار بعد أن حُلِق شعرُها عقاباً لها في زمن التحرير، فانزوت في عزلةٍ مريرةٍ حتى أُزيل وجهُها من جميع الصور العائلية بمقصٍّ حادٍّ أو طُمِس بقلمٍ غاضب. أمّا الشخصية الثالثة فهي جان - ماري، الزوجة السلطوية التي تحوَّلت من مجرّد امرأةٍ مُكلَّفةٍ بالمُربّيات وترقيع الجوارب إلى سيّدةِ البيت الحازمة وحارسةِ المظاهر الاجتماعية. وحول هؤلاء النسوة يدور رجالٌ كفيرمان صاحب المزرعة الأصلي، وجول الجدّ الأكبر المُتوفّى في الحرب العالمية الأولى والحائز وسام جوقة الشرف، وأندريه زوج مارغريت الذي عاد من الأسر مُحطَّماً فاقداً لصوابه. يُحرِّك هذه الشخصيات جميعاً صوتُ الراوي الذي يكتشف في عام 1976 أسرارَ عائلته المدفونة في ذلك البيت الذي ظلَّ مُوصَداً عشرين عاماً، ليُعيد بناء ذاكرةٍ جماعيةٍ مُمزَّقة بين الحروب والصمت والخيبات المتوارثة.

تتجاوز رواية «البيت الفارغ» كونها مجرد سرد عائلي، لتصبح شهادة حية على تحولات فرنسا الريفية والعمالية خلال القرن العشرين. يشرح موفينييه أن قصته العائلية تشبه قصة ملايين الفرنسيين، بمناطقها المظلمة وأجزائها الأكثر مجداً، حيث تستحضر أهوال الحربين العالميتين، وحرب الجزائر، وتأثيرها المدمر على الأجيال المتعاقبة. النساء يلعبن دوراً محورياً في السرد لأنهن «من يحملن العبء، كما كان الحال غالباً في الأرياف وبالأخص في أوقات الحرب».

عدّ موفينييه هذه الجائزة «إشارة ساخرة» لأصوله الاجتماعية البسيطة، حيث وُلد في السادس من يوليو (تموز) عام 1967 في مدينة تور، في أحضان أسرة عمالية بسيطة تضم خمسة أطفال استقرت في مدينة ديكارت بإقليم توران غرب فرنسا. والده كان عامل نظافة، وأمه خادمة في المنازل.

كانت طفولة لوران موفينييه محطّة حاسمة في تكوين وعيه الأدبي. ففي الثامنة من عمره، دخل المستشفى لفترة طويلة، وهناك تلقّى هدية غيّرت مجرى حياته: نسخة من رواية «شيطان صغير طيّب» للكونتيسة دو سيغور. فكانت تجربة قوية ومؤثرة: زرعت فيه رغبة عارمة في الكتابة، وفي الإبداع، حتى وهو طريح الفراش.

ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي عرف فيها الكاتب الفرنسي المستشفيات. فطفولته كانت مطبوعة بالأمراض المتكررة والزيارات الطبية المتعددة. وكان يحتفظ من تلك الفترة بذكريات مريرة أهمها: الاستعلاء والتكبّر اللذان كان يبديهما الأطباء تجاه أمّه البسيطة. ثم جاءت الصدمة الكبرى. في عام 1983، عندما كان لوران في السادسة عشرة من عمره، أقدم والده على الانتحار. وبعد عقود، عندما شرع في كتابة روايته الضخمة «البيت الخالي»، عادت المحنة الصحية لتطرق بابه، حيث كتب جزءاً من هذا العمل الروائي البالغ سبعمائة صفحة وهو يصارع مرض السرطان، وكان غالباً ما يكتب من على سرير المستشفى.

استقبلت الصحافة الثقافية الفرنسية الرواية بحماس منقطع النظير. حيث أشادت مجلة نوفيل أوبس بالرواية، قائلة إن موفينييه حرّر النساء من قيودهن، ومنحهن النعمة والعدالة والمجد. صحيفة «لو بوان» وصفت الرواية بأنها «عمل يُعيد كل بريقه للأدب الفرنسي، بالجمع بين جواهر تاريخه وجرأة حداثته»، فيما عدّتها مجلة «ليزانروكس» «واحدة من أجمل روايات الموسم الأدبي... ونصاً لا يشبه أي نص آخر». صحيفة «لو فيغارو» عدّتها «واحدة من أعظم روايات القرن الحادي والعشرين»، مؤكدة أن موفينييه بلغ ذروة فنه الروائي مع هذا العمل الاستثنائي.

في الموقع الأدبي «في انتظار نادو»، وصف هوغو براديل في مقال بعنوان «مقاومة الأدب» رواية «البيت الفارغ» بـ«الرواية القوية»، وما يميزها ليس فقط عمق الموضوع، بل براعة الأسلوب، فنصّ الرواية يتميز بجُمل طويلة متدفقة تذكّرنا بأسلوب مارسيل بروست، يتلاعب فيها الكاتب بالزمن السردي ببراعة منقطعة النظير، متنقلاً بين الماضي والحاضر في حركة دائرية. وبالنسبة لصحيفة «لوموند»، الرواية رواية شاملة لأنها مع احتفاظها ببنيتها وقصتها الخاصة، تُلخّص جميع أعمال المؤلف السابقة. هذا التكثيف الأدبي يجعل من «البيت الفارغ» عملاً تأسيسياً في مسيرة موفينييه الإبداعية ومن بين أعماله المشهورة «بعيداً عنهم» (1999)، و«رجال» عن ذكريات حرب الجزائر، و«قصص الليل» (2020).

وقد بيع من رواية «البيت الفارغ» نحو 82.000 نسخة قبل الإعلان عن الجائزة، ومن المتوقع أن تشهد مبيعاتها ارتفاعاً هائلاً بعد وضع الشريط الأحمر لجائزة الغونكور على غلافها. هذا النجاح يأتي في وقت حرج لصناعة النشر الفرنسية التي تواجه تحديات اقتصادية. توماس سيمونيه، مدير دار نشر مينوي التي نشرت الرواية، وصف الفوز بأنه «أجمل شيء يمكن أن يحدث لدار نشر مينوي»، مؤكداً أن هذا التتويج يعني قبل كل شيء «انتصار الأدب».


سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي
TT

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، الصادر عن دار «إضاءات» بالقاهرة، سر جاذبية إرث الشاعر والصوفي الشهير جلال الدين الرومي الذي عاش متنقلاً بين بلاد مختلفة قبل أن يستقر به الحال في تركيا منذ أكثر من سبعة قرون، ولا تزال أصداء أقواله تترد حتى اليوم.

ويُقصد بـ«الخطاب العرفاني» التعبير عن تجارب روحية ذات بعد صوفي باطني تتجاوز الماديات ومشاغل الدنيا والتخفف من أعباء وشهوات الجسد وترويضه لتحقيق رغبة الذات في العلو والاستكبار.

ويشير النورج إلى أنه يمكن على نحو ما من الإيجاز وصف خطاب الرومي بكونه يعتمد على أمرين: التسامح تجاه الآخر الغالب، ومهادنته حتى لا يُكسر نفسياً أمامه في لحظة انهيار عام، ومن هنا تتجلى قدرته على اجتياز حاجز اللغة والثقافة ليذيع صيته في جميع أنحاء العالم، ومن ثم فإن مقولاته باتت أكثر تعاطياً لبساطة التركيب ووضوحه مع لون التمثيل المفرط داخل الخطاب.

وربما تولدت خصوصية تجربته من رحلة الألم والمعاناة لأسباب تاريخية؛ منها اجتياح المغول للبلاد الإسلامية وما خلف ذلك من القتل والدمار، لقد أخذ هذا الحدث اهتماماً بالغاً لدى جلال الدين الرومي ليقدم حلاً لهذه المعضلة بلغة تحمل تحدياً تجاه الألم، فبينما يهرب الإنسان منه ينظر شاعرنا إلى الألم بعدّه ينطوي على شىء إيجابي ويدعو إلى احتضانه ومغالبته واستقباله كلطف من الله تختفي تحته ألوان من القهر.

كذلك يدعو الرومي إلى أن يخرج الإنسان من أسر الزمان، المصدر الثاني للهم والألم الذي يشغله بالماضي والمستقبل، ومن ثم يدعو إلى تحرر الإنسان من ذلك، فلا أحداث فائتة يندم عليها ولا أشياء قادمة تثير قلقه بشكل مبالغ فيه.

والشيء الثالث الذي يميز الرومي، بحسب المؤلف، هو مغالبة الأنا التي تريد العلو والسيطرة والنأي عن بذل الجهد. وعندما يتم التخلص من رغبة الإرادة في السيطرة والظهور يستوي الأخذ مع العطاء ومن ثم يذهب الألم. ويرى الرومي أن المسؤولية الأولى للإنسان هي المقاومة والنضال، سواء داخلياً أو خارجياً، من أجل التخلص من الألم عبر جهاد النفس والسيطرة عليها.

ويدعو الرومي إلى الصبر للتغلب على الألم، والصبر عنده هو «شهوة الأذكياء» و«الحلوى المفضلة لديهم»، كناية عن سهولته والتسليم بقضاء الله مع التفويض والتضرع إليه حتى يأتيه الفرج، لعل هذه المعارف فيها دواء ناجع للتغلب على منغصات الأمور.

وليس هناك أبلغ من تلك القصة التي يذكرها جلال الدين الرومي توضيحاً لمذهبه وطريقته، فيحكي في حكاية «النائم والحية» أن رجلاً كان نائماً تحت ظل إحدى الأشجار وقد فتح فاه، فإذا بحية متجهة نحوه حتى وصلت إليه ودخلت بطنه وهو لا يزال مستغرقاً في النوم. وفي تلك الأثناء صادف أن مر من هناك رجل صالح ممتطياً فرسه ولم يجد الفارس بداً من أن ينهال على النائم ضرباً بعصاه فاستيقظ الأخير وهرع مسرعاً نحو شجرة كان قد سقط تفاحها، فأمره الفارس بأكله حتى التخمة.

وعاد الفارس ليضربه بالعصا مجدداً فاستمر الرجل بالركض وهو يصيح شاكياً: «أيها الجبان لماذا تضربني وتظلمني، فلينتقم الله منك!». وإذا به يتقيأ كل ما في بطنه بما فيه تلك الحية. هنا أدرك الرجل مدى رأفة وشهامة ذلك الفارس الصنديد، فوقف أمامه بكل احترام وتواضع وشكره على لطفه ونسي كل ذلك الضرب المبرح والألم والأنين.

ويرى الرومي في تلك القصة أمثولة وبعداً رمزياً لافتاً حول الخير الذي يأتي في صورة الشر وكيف ينفر المرء من أشياء فيها نجاته، بل يقاومها بقوة ويحارب من يطلقونها، ظناً منه أنهم أعداؤه.