في ديوان «ذلك هو البعد»، الصادر عن دار ديوان في القاهرة، تبحث الشاعرة المصرية إسراء النمر عن بئر شعرية جديدة، بعيداً عن آبار الحزن والفقد والتشرد والاحتياج، فقد اعتادت ذائقة التلقي على أن الأسى هو مخزن الشعر ومستودع القصائد، وأن الحياة العادية لا تنتج شعراً، فإذا كان الإنسان سعيداً ينضب معين إنتاجه، وهو ما تعلنه بشكل جلي في قصيدة بعنوان «أهكذا يموت الشعر؟!»، هذا التساؤل نفسه الذي تختتم به القصيدة، وتوجهه إلى الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، وتفتتحها بمقطع تقرر فيه بشكل قاطع:
«لن أستطيع أن أكتب شعراً حزيناً
بعد اليوم
فحبيبي صار لي
كما أنني لم أفقد أحداً»
هكذا، تصبح محاورة الشعر، والبحث فيما وراء النص جزءاً مهماً من بنية الديوان، إذ تصبح الذات الشاعرة «كطفل لم يكتشف بعد لسانه»، ويبحث عن لسان جديد، وصوت مختلف، ونبرة تخصه، نبرة مفعمة بالسعادة والحب. لكن يبدو أن الشعر قدره أن يقترن بالفقد والحزن، إذ تعيد الذات الشاعرة الاشتغال على سردية الحزن والفقد في معظم قصائد الديوان، فتسرد الذات مشاهد متباعدة ودالة من سيرتها، تقدم فيها صورة الذات عبر كل ما مروا في حياتها، أو بالأحرى عبر كل من فقدتهم على مدار هذه السيرة، وما تركه فيها رحيلهم من أثر، سواء كان رحيلاً حقيقياً أو مجازياً، فترى نفسها في مراياهم، خاصة أفراد العائلة، من الجدة والأم والأب والأشقاء والحبيب وغيرهم، وعبر هذه المرايا متباينة الأشكال والأحجام تجمع نثار صورتها وتشظياتها، إنها شبكة من العلاقات المتوترة، شبكة مفعمة «بالموت والفقد»، وكأن الفقد جزء من إرث العائلة، أورثته الجدة للحفيدة، الجدة التي كانت لها القصيدة الأطول في الديوان، وتحتل ربع مساحته تقريباً، تأكيداً على دورها كمرآة ضخمة ترى فيها الذات نفسها منذ الطفولة، فالحفيدة وريثة الجدة، ووارثة سرها، وحاملة راية الاحتفاء بالموت والموتى، تقول:
«كانت جدتي تعتقد
أن عروقها البارزة مقابر،
وكانت كلما اشتاقت إلى أحدهم
تنظر إلى يديها وتكلمه...
حين ماتت
رأينا موتى كثيرين
ينسلون من يديها»
هكذا، يبدو الموت ليس فقط مركزياً في الديوان، بل مركزياً في رؤية الجدة، ومن ثم حفيدتها، للعالم، فثمة تعايش معه بوصفه وجوداً موازياً، والموتى لا يرحلون، بل رابضون تحت الجلد، إنهم هنا والآن، داخل العقل، بل داخل الجسد أيضاً، وإذا كانت الجدة قادرة على محادثتهم، فإن الحفيدة قادرة على استخراج الشعر من عظامهم وجماجمهم، تذهب إلى عالمهم وتجلبهم إلى عالمها، كما تفعل حين تتمنى في إحدى القصائد أن تدفن بمقبرة بها موتى كثر، لتحدق فيما تبقى من عظامهم وجماجمهم، ولا تدفن في مقبرة بمفردها. إن ما فعلته الذات الشاعرة مع الموتى يبدو وكأنها دفنتهم في أوردتها الشعرية، وتظل تخاطبهم في أغلب قصائد الديوان، فينسلون من قصائده، كما انسلوا من يديّ الجدة. حتى في قصائد الحب القليلة، يطل الموت برأسه، كفعل ملاصق للحب ومصاحب له، كما في قصيدة «صوتك»، فصوت الحبيب يفتح باباً لاسترجاع الزمن القديم/ الميت، «أحب صوتك، لأنه يذكرني بباب بيتنا القديم»، فالموت ليس للأشخاص فقط، بل للزمن والذكريات وتفاصيلها، ومن ثم تكرر الذات معهم معاملتها للموتى، فتتخيلهم أحياء تحت الجلد وفي الأوردة، تقول:
«صوتك يجعلني أطمئن
أن هذا الباب لن يموت أبداً
وأنه حتما سيعرف طريقي
ويأتي إليّ»
الخوف والقسوة والوحدة، ينابيع أخرى، تحاول الذات الشاعرة أن تفجر منها الشعر. الخوف من العالم، ومن الذات، والجسد، وحتى من القصائد، «خائفة من ملامحي؛ لأنها تصير أحياناً وحشية، ومن جسدي؛ لأنه حر أكثر مني»، فالملامح في حالة صيرورة، وتغدو وحشية، برية، والجسد يبدو حراً، حياً، أكثر من صاحبته، التي تخشى حتى من قصائدها وقصائد غيرها، خائفة من كل هذه العلامات الحية والحيوية، لأنها عالقة في الموت، ومقيمة مع الموتى، تستدعيهم حتى في أكثر لحظاتها حباً وحياة، تنظر للحياة من بعيد، وهي تمر، كشيء لا يخصها، وتكتفى من الغنيمة بالمشاهدة، تقول:
«القطارات تمر
وأنا على الرصيف
أنظر إلى كل رجل يقبّل حبيبته»
هنا، ثمة مفارقات بين المرور والوقوف على الرصيف، وبين الفعل والمشاهدة. هذا الخوف من الحب تتولد عنه قسوة عميقة تسيطر على الذات وتحكم نظرتها للعالم، تتبدى هذه القسوة في طرائقها للحفاظ على الحب، الذي اعتادت أن يموت مبكراً، «لن أحلم بطفل منك، أو من غيرك، حين تموت لن أشيعك، ولن أزور قبرك، لأنني أريد لحبي أن يدوم هذه المرة»، فالحب يبدو مرتبطاً بالقسوة، ملازماً لها، كأنها شرط له، وهذا يتبدى أيضاً في قصيدة «ما يشغل البواب عن نومه»، فالحب، والارتباط بآخر، يبدو قتلاً للذات، وامتصاصاً واستلاباً لها، حتى أن الذات قد تقع في الحب من باب ممارسة هذه القسوة على نفسها، ورغبتها في التدمير الذاتي، لكن بيد آخر «كنت بحاجة لأحد كي يدمرني، كي يسحقني، كما تسحق أمي حبيبات الفل الأسمر».
في هذا الديوان، ترسم الذات الشاعرة ملامحها الوجودية عبر تجميع تفاصيلها في مرايا الآخرين، في التقاطع معهم، مع العائلة، وحتى مع الشعر بوصفه جزءاً من هذه العائلة، فنرى مع كل قصيدة قطعة جديدة من قطع البازل، توضع إلى جوار سابقتها، لتتكون في النهاية لوحة تجمع هذه الشظايا والنتف، مكونة صورة وجه سبق تكسره، لكن يعاد جمعه ولضمه عبر الشعر، وفي فضائه، ومن خلال استدعاء نظرات الآخرين، والعلاقات الجدلية معهم، وعبر سيل جارف من الذكريات، التي تعيد إنتاج القسوة، ليتوالد الشعر من رحم الأسى والتدمير الذاتي مرة أخرى، وليس من السعادة.
