عباس عبد جاسم: الأدب بلغ درجة الاضمحلال

يرى أن ابن خلدون تجنب الحديث عن المستقبل مخافة مما سيؤول إليه

عباس عبد جاسم
عباس عبد جاسم
TT

عباس عبد جاسم: الأدب بلغ درجة الاضمحلال

عباس عبد جاسم
عباس عبد جاسم

عباس عبد جاسم باحث وناقد إشكالي، تحوّل من النقد النصي إلى الفكر النقدي، ليُعنى بالنظرية النقدية العابرة للتخصصات، وما يسميه «النقد البعدي»، ونقد ما بعد الأكاديمية، و«الإزاحة والإبدال في أنساق الكتابة».

في هذا الحوار؛ نحاول فهم شفرات منجزه ما بعد النقدي، بوصفه مشروعاً يتأسس على فكر مركب تركيبة جديدة مثيرة لجدل الاختلاف، والخلاف كذلك من حيث النظرية والممارسة.

> ثمة تحوّل واضح في مشغلك النقدي من حقل «النقد الأدبي» إلى حقل جديد اصطلحت عليه بـ«الفكر النقدي».. فما جديد هذا الحقل، وما سببية هذا التحوّل النوعي؟

- لم يعد النقد الأدبي يمتلك من عناصر القوة والدينامية ما يجعله أكثر قدرة وإمكانية لاستيعاب تعقيدات اللحظة التاريخية المعاصرة من حيث تحوّلات النوع والكم في فكر ما بعد الحداثة، وخاصة بعد أن تراجعت معايير القيمة والذائقة والانطباع الشخصي أمام تقدم مقولات الوعي المركب لتناقضات الواقع، وحتى جماليات الحياة، وفي هذا الحال كان لا بد من الانتقال إلى حقل جديد، اصطلحت عليه بـ«الفكر النقدي» لفهم إشكاليات الرؤية إلى الذات والعالم في القرن الحادي والعشرين بأفق أوسع.

كما أرى أن الفكر النقدي أكثر تمثلاً للضبط المعرفي في فهم قوانين الكتابة العابرة لحقول الأدب على مستوى التفكير النقدي وأنساق ما بعد المعرفة، وخاصة بعد أن أطاحت الكتابة بالأشكال والأنواع الأدبية، حتى تقوّضّت سلطة الناقد الأدبي وتفكّكت مركزيته النقدية.

> قرأنا لك قضايا جديدة في الفكر النقدي، يتقاطع فيها «عبور التخصصات» مع «تعدد التخصصات»، وكأنك في مرحلة عبور آخر لكتابك النقدي «النظرية النقدية العابرة للتخصصات»، لأنه فتح لنا إشكاليات جديدة في (النقد البعدي)... فهل يعني ذلك أننا إزاء مرحلة جديدة من «نقد ما بعد الأكاديمية»؛ بعد تراجع المناهج الوصفية والمعيارية؟

- قبل الإجابة، لا بد أن أوضح أنه منذ منتصف الثمانينات، حدث تحوّل عميق، فقد انتقل النقد إلى وضع إبستيمولوجي (معرفي) جديد من المجال الأكاديمي إلى ما بعد الأكاديمي، وبذلك دخلت النقدية في طور جديد من الانتقال من المناهج السياقية إلى المناهج النصية، ولكن ثمة مشكلة - إن لم نقل إشكالية جديدة تنطوي على عدة مشكلات؛ واجهت النقد الأكاديمي – لم تنبثق من عزلة الناقد الأكاديمي عن الوسط الاجتماعي، وإنما من عزلة النقد الأكاديمي عن المعرفة الوفيرة التي توصّل إليها البحث النقدي في العالم.

ومن جدل النظرية مع الواقع؛ اتجه الفكر النقدي نحو نظرية متحوِّلة، تتجاوز حدود النظرية النقدية التي توصّل إليها أدورنو وهوكهمير، وتتخطى التفكير المحدود لــ«البعد الواحد» لهربرت ماركوز، وتمثلت أولى إرهاصات التحوّل النقدي في كتاب «ما بعد النظرية » للماركسي تيري إيغلتون، ويمكن الاصطلاح عليها بــ«نظرية اللانظرية »، ولكن ما بعد النظرية أخذت تتشكل بحيوات متجدِّدة، لتتجاوز التفكير السائد، التي تفتقد الضبط المعرفي للأنساق بوعي محكم ومتماسك، باستثناء أطروحة مغمورة لأدورنو لم ينتبه إليها أحد، هي «النقد البعدي لنظرية المعرفة – دراسات عن هوسرل والنقائض الظاهراتية»، وهي أول أطروحة تلقّفت شفرات ما بعد النظرية النقدية برؤية ما بعد حداثية من جهة، وتبنت فكرة العبور التخصصي برؤية ما بعد مناهجية.

> لعلك أول مَن تنبّه إلى «غياب المستقبل» في مقدّمة ابن خلدون في كتابك «في النهضة والتنوير والحداثة البعدية»، وأرى أن فكرة المستقبل بنية مهيمنة في تفكيرك النقدي – كيف يمكن أن نتشوّف المستقبل برؤية جديدة؟

- لم يتبن ابن خلدون الزمن الدائري الذي يتعارض كلياً مع فكرة تقدم الزمن أو الامتداد الأفقي للزمن، فهل أراد مَن توظيف المستقبل للماضي أن ينفي فكرة التقدم؟، وسواء أجاء المستقبل في «بُعد حضاري أم بُعد زماني»، فإن ما يعنينا أكثر: الكيفية التي انكفأ بها ابن خلدون على ذاته في «تشوّف المستقبل»، ليتخذ من «الدورة العصية» المفتاح الرئيسي لتدوير هذه الإشكالية من دون حل لها.

> إذن؛ ما تفسير سكوت ابن خلدون عن المستقبل؟

- إن كان الجابري يرى أن سكوت ابن خلدون عن المستقبل «لم يكن مجرّد سكوت، بل عدم قدرة على الكلام»، فإنه لم يحدّد سبب عدم قدرة ابن خلدون (على الكلام) بوضوح ودقة. لقد افتقد ابن خلدون القدرة على الكلام، بعد أن توجّس خيفة مما سيؤول إليه المستقبل من تفكّك اجتماعي وسقوط سياسي للدولة الإسلامية، ولكن مم كان خائفاً؟ وممن؟

لذا لم يتحرّر المستقبل من سجن الماضي، لأن الماضي كان بنية مهيمنة تحكّمت باتجاهات الصراع حول منازع الملك بعد فساد العصبية التي كانت مصدر قوة الدولة، أما الحاضر، فقد كان يشكل جوهر هذه الإشكالية بينهما، لأنه جزء حيوي من المسكوت عنه، وخاصة ما يتعلق بالكيفية التي اندمج فيها الماضي بالمستقبل في مفهوم زمني هو «مستقبل الماضي»؟

وبذا، أراد ابن خلدون أن يتجنّب المساءلة في تلك اللحظة التاريخية الملتبسة بتفكك الدولة الإسلامية، وأن يمارس أسلوب «المكر الحميد» في تعمية المستقبل، وذلك باستخدام أقصى سياقات الإزاحة في (التورية).

> لا شك أنك تسعى في كتابك «الأدب والكتابة – الإزاحة والإبدال» إلى تأسيس أنساق جديدة عابرة للبنى الأدبية المألوفة كاستبدال الكتابة بالأدب... هل تراجعت الأجناس الأدبية أمام تقدم أنساق الكتابة؟

- عندما أنظر إلى المستقبل، أرى أن الأدب صائر إلى زوال، وخاصة بعد أن تفكّك الأدب بظهور الكتابة، حتى أطاحت به بصيغ متعدّدة من الانفتاح الأجناسي أو الترافد الأجناسي، لهذا فإن ما يعنينا منها: البنيات الإبدالية، وأشكال الحساسية الجديدة في الكتابة العابرة للأجناس.

لقد بلغ الأدب درجة الاضمحلال، ولم يعد يمتلك من عناصر القوة والبقاء ما تجعله يتشكل بحيوات جديدة، وبذا فهو سائر باتجاه نقطة الصفر، ونقطة الصفر تعني غياب الحدود بين الأجناس الأدبية.

> على الرغم من إنجازاتك الدالة في الميتا سرديات التي دخلت الدرس النقدي، فإنك توقفت عن الكتابة فيها تنظيراً وممارسة... فما تعليل ذلك؟

- تنتمي الميتا سرديات إلى مرحلة مبكّرة من مشاغلي النقدية، وكانت تمثل أعلى تمرّد في نطاق الكتابة القصصية والروائية - سرداً ونقداً - في مرحلة اتسمت باتجاهات متعاكسة من صراع المفاهيم والأفكار النقدية، وخاصة مع نقاد وأكاديميين مؤثرين في صياغة البنى النقدية، وكنت أنتمي إلى جيل متمرِّد محايث للستينات، وقد بلغت درجة الاصطدام بيننا مستويات حادة وعنيفة، بين آيديولوجيا لم تنهزم بعد وآيديولوجيا لم تتثبت بعد من حيث الأفكار والتوجهات، وغالباً ما كانت تنتهي المساجلات المتوترة بيننا إلى طريق مسدود، عبر معارك موثقة في الصحافة الثقافية، وغالباً ما كانت تجري المعارك والمساجلات في مؤتمرات وملتقيات وندوات نقدية، وفي الصحافة الثقافية، وقد وثقت بعض هذه المساجلات في كتابي «الكتابة بأفق الاختلاف». إلا أنني أدركت فيما بعد؛ ضرورة التحوّل باتجاه الفكر النقدي على وفق قناعتي بأننا نعيش في عصر البنى المتحوّلة والأنساق المتغيّرة، وأن ثمة قضايا جديدة زحزحت البنى السردية السائدة.

> هناك مَن يرى أنك «ناقد إشكالي على صعيد المعرفة»... كيف نفهم هذه الإشكالية في الفكر النقدي؟

- يعد كتاب «ثقافة الناقد الأدبي» للدكتور محمد النويهي أول كتاب تأثرتُ به، وأنا شاب من حيث قاعدة العمر والتجربة، وقد أغرتني كلمة «ثقافة»، لدرجة هيمنت على وعيي الذاتي، ولم أتحرّر منها حتى الآن، وإلّا فبم يتميّز الناقد عن الكاتب؟ ألم يكن محمود أمين العالم، وغالي شكري، ولويس عوض مثقفين قبل أن يكونوا نقاداً؟ وعلى نحو مختلف، تأثرت بأفكار نيتشه، ولا أستطيع أن أخفي انحيازي إلى هذا المفكر الإشكالي.

وقد تبيّن لي فيما بعد، أن الكاتب غير المثير لجدل الاختلاف، وحتى الخلاف كذلك، كاتب عادي، ويتمثل الاختلاف في الكتابة في كيفية «كسر النمط» بنمط آخر بقوة الدال المغاير له، وقد يكون الاختلاف في كفية تدمير سلطة النموذج بجماليات جديدة في الخروج عليه، ولكل ذلك، فالاختلاف ينبني بوجه عام على كيفية زحزحة قوانين البنيات القائمة بقوانين عمل جديدة.

إذن «الاختلاف، والخلاف كذلك» ناتجان عن «إشكاليات» مركبة تركيبة طباقية، ترتبط بواقع إشكالي بالأساس، وبذا فإن علاقة هذه الإشكالية بالكتابة لا تنتمي عندي إلى ما هو أدبي أو ما هو ثقافي، ولا تقع في المنطقة الوسطى، وإنما تنطلق من بنيات تحتانية باتجاه الوعي بالبنيات الفوقانية، عبر المرور بالمتون المعرفية، لهذا فهي نتاج تصادم سياقي وتقاطع نسقي بين «قراءات متصارعة»، قائمة على مبدأ نفي النفي بحيوات متجدّدة.

ويمكن اختزال تناقضات الفكر النقدي بإشكاليات عدة، منها إشكالية فلسفة الفلسفة في الفكر النقدي، ابتدءاً من كتابي الأول «مشاكل التأويل العربي أواليات - التأويل وأوالاته المعرفية»، لأن الفكر عندي شبيه بــ«المشكال»، فـــ«المشكال»؛ آلة تتألف من أنبوب زجاجي يحتوي على مرايا صقيلة، وأشياء صغيرة ملوّنة، تتحرّك داخل الأنبوب، تتولد منها صور مختلفة الألوان والأشكال لدرجة تحوّل اللون والشكل في اللحظة التي نسعى فيها لتثبيته إلى لون أو شكل آخر مغاير لذاته.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.