النقد الأدبي بين الانطباعية والعلمية

ما الذي يقوله النص... وما الذي نقوله نحن؟

نورثروب فراي
نورثروب فراي
TT

النقد الأدبي بين الانطباعية والعلمية

نورثروب فراي
نورثروب فراي

الانطباعية. النقد الانطباعي. إسقاط أفكارك وانطباعاتك وتجاربك الشخصية وفلسفتك الحياتية وعواطفك الخاصة على العمل الأدبي الذي تضطلع بتحليله وتفسيره كناقد أدبي – تلك هي آفة النقد الأدبي، حتى إن تي إس إليوت، الشاعر والناقد الأنجلو أميركي (1888 - 1965)، شبّه الناقد الانطباعي الذي يُسقط أفكاره على النص الأدبي بطبيب التشريح الذي يُخرِج من معطفه أعضاءً يضيفها إلى الجثة التي يقوم بتشريحها. ليس هناك من إهانة تُوجّه إلى ناقد أشد مِن وصف نقده بالانطباعية؛ فكل ناقد يحب أن يُظَن أنه موضوعي محايد متجرِّد، يتعامل مع النص كما هو في ذاته بمعزل عن أي عناصر خارجة عليه.

مع ذلك فقلما يخلو نقد من قدر من الانطباعية، وقلما يجتمع ناقدان على فهم مشترك وتقدير متماثل لنص أدبي، وإن اشتركا في طول الباع وسعة المعرفة وعلو المكانة. فإن لم نُعْزِ هذا إلى العنصر «الانطباعي» الناتج من تباينهما كفردين متمايزين في الطبع وتجربة الحياة، فإلامَ نعزوه؟ فكأن المقال النقدي الذي نطالعه يتراوح بين أن ينير لنا العمل الأدبي في ذاته وأن يعرفنا بشخصية الناقد وميوله الخاصة، أو منطقةٍ وسط بين هذين الضدين. إلا أن ثمة طموحاً أن يطرح النقد عنه ذات يوم أي شبهة للانطباعية، وأن ينضم لقافلة العلوم الاجتماعية وتصبح له أصول وقواعد صارمة يتفق الرأي عليها ويلتزمها الجميع في ممارسته.

هذا الطموح النقدي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم النفس وبالدراسات الأنثروبولوجية الحديثة. فقد تأثر النقاد المحدثون بالكشوف الأنثروبولوجية التي أظهرت أن الأسطورة والطقوس والشعر كلها كانت كامنة في بداية الحضارات وبمقولة علم النفس إن الإنسان البدائي كامن داخل كل منا، كما يتضح في أحلامنا الليلية التي تعيد خلق الرموز الأسطورية القديمة. من هنا كان التفات النقاد الذين يطلبون في الأسطورة مفتاحاً لعملية الخلق الفني إلى السمات المشتركة بين الحلم من ناحية والإبداع الشعري من ناحية أخرى، ومن ذلك «تكثيف الصور» بمعنى تضمين أخيلة عدة في صورة واحدة، و«الإزاحة»، أي تجسيد المعنى الشامل في عنصر يبدو قليل الأهمية، و«التحميل»، بمعنى تركيز مستويات متعددة للمعنى في جزئية واحدة. ولا يغيب عن الذهن في هذا السياق أن الشعر والحلم كلاهما يفتقر إلى العلاقات المنطقية ويحفل بالأخيلة والمواقف السريالية.

في طليعة نقاد الأسطورة هؤلاء يبرز الناقد الكندي المشهور نورثروب فراي Northrop Frye (1912-1991) الذي اتخذ من الأسطورة منطلقاً يعتقد البعض أنه يمكن معه أن يترقى النقد إلى مرتبة العلم. يرى فراي أن العلم الحقيقي لا يمكن أن يقنع بتحليل بناء العمل الأدبي، وأن الشاعر لا يعدو أن يكون «العلَّة الصانعة» للقصيدة، التي تتمتع بدورها بـ«علّة شكلية» مستقلة عنه، وهي ما ينبغي أن يكون طُلبة الناقد «العلمي». هذه العلة الشكلية هي ما يسميه فراي بـ«النموذج الأولي» (Archetype)، وهو اصطلاح مستعار من علم النفس يشير إلى «الصورة الأولية»، التي هي جزء من العقل الباطن الجماعي تترسب فيه نتيجة خبرات من نوع واحد لا حصر لها، وهي بذلك تشكل جزءاً من نظام الاستجابة الموروث عند الجنس البشري قاطبةً. على هذا النسق مثلاً تصبح الأسطورة التوراتية التي تحكي قصة قتل قابيل لهابيل هي النموذج الأولي لكل قصة تلتها يقتل فيها الأخ أخاه أو الصديق صديقه، بدافع الغيرة والحسد... إلخ. وتصبح قصة برومثيوس سارق النار من الآلهة لصالح البشر في الأساطير الإغريقية هي النموذج الأولي لكل قصة تقوم على الفداء والتضحية بالذات للصالح العام أو الثورة على القوى العليا من أجل المبدأ، دون احتفال بالعواقب، وهلُم جرّا.

تي إس إليوت

من هنا، يرى فراي أن مهمة النقد هي البحث عن هذه «النماذج الأولية»، مما يحوّل دراسة الأدب إلى نوع من علم الأنثروبولوجيا الأدبية يختص بدراسة الأدب من حيث تشبُّعه بالمقولات السابقة عليه، مثل الطقس الديني والأسطورة والحكاية الشعبية. لكن الأنثروبولوجيا الأدبية ليست إلا فرعاً من فروع النقد كما يتصوره فراي. فهو يرى أن العمل الأدبي يجب أن يمر بـ«خط إنتاج» نقدي يبدأ بالمحقق الأدبي الذي يطهّر النص الأدبي القديم من الشوائب العالقة به، ثم ينتقل النص إلى عالم البلاغة وتاريخ اللغة والأدب، ومنه إلى المؤرخ الاجتماعي للأدب، ثم إلى الفيلسوف واختصاصي تاريخ الفكر، وأخيراً يؤول الأثر الأدبي إلى عالم الأنثروبولوجيا الأدبية.

إلا أن ثمة نقطة مهمة ينبغي التنويه بها عند هذا الحد، وهي أن هذا المنهج النقدي يخلو تماماً من أحكام القيمة. هو منهج وصفي تصنيفي يصلح للتطبيق على الأعمال الأدبية العظيمة، وتلك القليلة الشأن في آن. وفي هذا السياق نلاحظ أن فراي كثيراً ما يشير إلى العمل الأدبي بوصفه نوعاً من المنتجات (a product) أو سلعة عضوية يمكن رصد نوعها وتصنيفها وتحديد رتبتها. وهي فكرة تتضح إذا ما تأملنا وصفه لكيفية خروج القصيدة إلى الوجود. يقول في مقالة له بعنوان «عقيدتي في النقد»:

«إن عملية مراجعة القصيدة وتنقيحها، وحقيقة أن الشاعر يغيّر فيها، ليس لأنه شخصياً يفضّل ذلك، وإنما لأن ذلك أفضل في حد ذاته، هذا يعني أن القصائد – مثلها مثل الشعراء – تُولد ولا تُصنع. وينحصر عمل الشاعر في أن يخرج بالقصيدة إلى الوجود في حال سليمة بقدر الإمكان. وإذا وُلدت القصيدة حيّة فإنها تكون في شوق للتخلص من الشاعر وتصرخ لكي يقطع الحبل الذي يربطها بذكرياته وعلاقاته الخاصة وبرغبته في التعبير عن ذاته، وكذلك كل حبال المشيمة الأخرى وأنابيب التغذية المتصلة بالذات. بعد ذلك يأتي الناقد ليستأنف من حيث توقف الشاعر».

في هذه المقارنة الحيّة تلعب القصيدة دور الوليد، والشاعر دور الأم. أما الناقد فيؤدي دور القابلة التي تفصم حبل المشيمة عن الأم/ الشاعر. على أن هذه المقارنة لا تقدم الإجابة عن سؤال بالغ الأهمية: هل القصيدة الوليدة تنبض بالحياة أم هي جثة هامدة لا تجري في عروقها الدماء؟ لا يجيب فراي عن هذا السؤال الحيوي الذي هو في العادة شغل النقد الشاغل. فلا نراه يعهد لناقده/ القابلة في أي من أدواره العديدة كمحقق للنصوص أو مؤرخ للأفكار أو حتى عالم في الأنثروبولوجيا الأدبية بمهمة الإجابة على هذا السؤال. فالقصيدة الخاملة لا تعدو أن تكون وثيقة لا قيمة لها تخضع للعملية التصنيفية ذاتها التي تخضع لها القصيدة الحية العظيمة.

وإذا تذكرنا أن الغرض من هذه العملية هو أن يصبح النقد علماً يحتل مكانه بين سائر العلوم الاجتماعية، فإن السؤال يصبح أكثر إلحاحاً، لأنه إذا أصبح النقد علماً اجتماعياً، فإنه من الأهمية بمكان أن نعرف موقفه من أحكام القيمة. هل يصير علماً وصفياً راصداً، فحسب مثل العلوم الاجتماعية الأخرى؟ أم ينتحي طريقاً يميزه منها فيصير دراسة معيارية تتجاوز الرصد والوصف إلى اتخاذ الموقف الجمالي وإصدار أحكام القيمة. وفي الحالة الأخيرة ألن يجد النقد نفسه ينزلق من جديد في طريق الانطباعية والأحكام الخاضعة لشخصية الناقد وتجربته؟ معضلة قد يحلها المستقبل. وقد لا يحلها.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.