أسماء معيكل: انحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية

رواياتها عبّرت عن المأساة السورية والقهر الذي يطال المرأة

أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
TT

أسماء معيكل: انحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية

أسماء المعيكل وروايتها تل الورد
أسماء المعيكل وروايتها تل الورد

تعرف الأكاديمية والناقدة والروائية السورية، الدكتورة أسماء معيكل بدراساتها النقدية، وخاصة اهتمامها بقضايا النسوية والدراسات السردية والثقافية، وهي حائزة على الدكتوراه من جامعة عين شمس، وعملت أستاذة نقد حديث وباحثة في النقد الأدبي والدراسات الثقافية والنسوية.

ومن مؤلفاتها في «النقد»: «الأصالة والتغريب في الرواية العربية - حيدر حيدر نموذجاً»، و«الأفق المفتوح، نظرية التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر»، و«في تلقي الإبداع والنقد»، و«سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة المعاصرة إلى ما بعد مركزية الأنوثة».

وبالإضافة لروايتها الأولى: «خواطر امرأة لا تعرف العشق»، وروايتها الأخيرة «ليالي الخذلان»، قدمّت أسماء معيكل مشروعاً روائياً يتكون من ثلاث روايات عن المأساة السورية: «تلّ الورد»، و«عماتي الثلاث»، و«الجحش السوري».

هنا حوار معها:

> كتبتِ ثلاث روايات عن المأساة السورية: «تلّ الورد»، و«عماتي الثلاث» و«الجحش السوري»، كيف ترين دور الأدب والرواية خصوصاً في مثل هذه القضايا؟

- الأدب عموماً، والرواية على وجه الخصوص، ليسا ترفاً يتسلى به الكاتب، وليس خافياً على أحد مكانة الرواية في تعبيرها عن قضايا مجتمعاتها في مختلف أرجاء العالم، وما قمتُ به في رواياتي يتنزّل بين التمثيل السردي والتخييل السردي، في روايتيّ «تل الورد» و«عماتي الثلاث»، قمت بإعادة تمثيل سردي لما جرى في بلادي (سوريا) على امتداد حقبة زمنية طويلة، فـ«عماتي الثلاث» التي كتبتها ونُشرت بعد «تل الورد»، تسبقها زمنياً بأحداثها ووقائعها، حيث عُدتُ بعجلة الزمن إلى الوراء، إلى زمن «السفر برلك» في ظل الإمبراطورية العثمانية، وامتدت الرواية إلى العصر الحديث والحرب المدمرة في سوريا، وفي «تل الورد» عائلة المعراوي هي امتداد لعائلة الشيخ عبد الهادي في «عماتي الثلاث»، وفيها أعدت تمثيل ما جرى في بلادي منذ لحظة بدء المظاهرات السلمية، مروراً بتسليحها بعد القمع الوحشي الذي تعامل به النظام الديكتاتوري مع المظاهرات السلمية، وانتهاء بتحول سوريا إلى ساحة صراع بين قوى كبرى بعد التدخلات الخارجية فيها.

أمّا روايتي «الجحش السوري» فهي رواية ساخرة تعتمد على السخرية القائمة على المفارقة، على طريقة «دون كيخوته»، ولا تخلو من حس مأساوي يذكر بالملاحم الإغريقية القديمة، وقد اعتمدت فيها على التخييل السردي للتعبير عن حال بلادي في ظل الصراع المأساوي الذي عصف بها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وقد لجأت في تخييل أحداثها إلى لعبة سردية معروفة في روايات المسخ والتحولات، متخذة من تحول بطل الرواية إلى (جحش) ذريعةً سردية؛ للغوص في عمق ما يجري، والكشف عما آل إليه الحال بشفافية وموضوعية، عبر عين الجحش التي تشبه عين الكاميرا التي ترصد ما يجري بعيداً عن الأدلجة.

> هل يمكن للأديب أن يرى الحدث بمعزل عن ضوضاء الآيديولوجيات والاستقطاب السياسي؟ إلى من ينحاز الأديب في مثل هذه المواجهات؟

- من المفترض أن يتسلح الأديب بوعي عميق يجعله في منأى عن الوقوع في فخ الآيديولوجيات، والصراعات السياسية، وحالما يستجيب بطريقة ما إلى تلك المواجهات وينحاز إلى إحداها يصير بوقاً لها، العلاقة بين الثقافي والسياسي شائكة، فالسلطة السياسية من المفترض أن تكون في خدمة السلطة الثقافية، وفي حال حدوث العكس وتحول السلطة الثقافية إلى خادمة للسلطة السياسية، فسمة الثقافية تتلاشى، وتصير ناطقة باسم السلطة السياسية وترويج تطلعاتها وتسويغ أفعالها، وهنا يكون مقتل الأدب والأديب الذي ينبغي أن يتمتع بالحرية التي تمكّنه من الكشف عن الحقيقة، لا تلميع السلطة، وانحياز الأديب للسياسي يفقده شرط الحرية الذي هو شرط الإبداع، وقد وقع أدباء كثر في هذا المقتل فكانت أعمالهم أشبه بخطابات ومنشورات سياسية مؤدلجة، لا تغني ولا تسمن من جوع. إن ذلك لا يعني في حال من الأحوال أن يكون الأديب حيادياً جامداً لا رأي له فيما يجري من أحداث وصراعات في مجتمعه ومحيطه، بل ينبغي أن تكون له رؤية واضحة ينطلق منها في التعبير عن القضايا والظواهر التي يعالجها في أعماله، وهو منحاز بطبيعة الحال إلى تلك الرؤية، لكن انحيازه يكون للإنسان، والقيم الكبرى التي تلتقي حولها الإنسانية جمعاء، قيم الحق والخير والجمال، في مواجهة الظلم والشر والقبح.

> الروايات الثلاث كُتِبَتْ قبيل سقوط النظام، هل جاء التغيير كما حلم به الأدباء؟

- كتبت رواياتي الثلاث، سالفة الذكر، ونشرتها قبل سقوط النظام بمدة تتراوح بين خمس سنوات، حينها وعلى الرغم من انسداد الأفق، كانت هناك فسحة من الأمل بتغيير قد يحدث عاجلاً أو آجلاً، وظهر ذلك بشكل جليّ في روايتي «الجحش السوري». إن التغيير الذي حدث في سوريا وسقوط النظام، جاء في لحظة حلمية ما كان لأحد أن يتوقعها، أو يحلم بها على نحو ما حدث، ولا سيما في ظل إعادة تأهيل النظام البائد في السنتين الأخيرتين قبل سقوطه، وتصدّره المشهد بوصفه المنتصر على الإرهاب، وحينما فرَّ (...) في جنح الظلام على ذلك النحو الذي شهدناه، كان الحدث أكبر من أحلام الأدباء، وتوقعات المحلّلين السياسيين والعسكريين، كانت لحظة أذهلت العالم، لدرجة بقي الناس فيها لأكثر من شهر غير متيقنين مما حدث، ولديهم توجس من عودته، وأن يكون ما جرى مجرد حلم يستفيقون منه على كابوس نظام الأسد الجاثم على صدورهم منذ عقود.

الخوف من الخراب

> في «تل الورد» ختمتِ الرواية بفصلٍ حمل عنوان «حبطراش»، وهو مصطلح معروف في اللهجة الشامية، يرمز لمستوى عال من الخراب الذي لا يمكن إصلاحه... هل فعلاً ترين أن الخراب السوري لا يمكن إصلاحه؟

- لم يكن بإمكاني تقديم تفاؤل زائف في تلك الفترة، فقد شهدت تدمير بلادي بعد أن تحولت إلى ساحة صراع لقوى كبرى، وتصفية حسابات بين جماعات متقاتلة، عادت بعجلة الزمن إلى الوراء، وتكشّفت تلك المرحلة عن عنف لا مثيل له، ولذا فإن الخراب الذي ألحقته الحرب بسوريا كان هائلاً لدرجة يتعذّر فيها إصلاحه، وكما أسلفت في الإجابة السابقة، فإن التحدي ليس في إعادة إعمار البيوت ومدّ شبكات الكهرباء والمياه والطرق وغيرها من الخدمات، بل في إعادة بناء الإنسان الذي صار «حبطراشاً»، ومع ذلك لا أريد أن أكون متشائمة، وسأظل أحلم بإمكانية التغيير، فبعد سقوط النظام البائد لا شيء مستحيل، لكن يحتاج الأمر إلى سعي حثيث، وهمم عالية، وجهود كبيرة، وتكاتف أطياف الشعب كله لإعادة بناء سوريا الحرة، سوريا دولة المواطنة التي تكفل العيش الكريم وتحقّق العدالة الإنسانية لكل مواطنيها بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم الدينية، والمذهبية، والإثنية، والعرقية، والجندرية.

التحرر من الانفعالية

> كيف تجاوزتِ سرد المأساة الشخصية إلى سرد جماعي في «تلّ الورد»؟

- يتنزّل عمل الكاتب هنا تحديداً، أعني في تجاوز ما هو شخصي وتحويله إلى عمل يمسّ الجميع، وواقع الحال أن لكل إنسان حكايته ومأساته التي عاشها ويمكنه أن يحكيها، لكن ذلك لا يخلق منها رواية لها شروطها بوصفها عملاً فنياً، وليست نسخاً لحكايات يعيشها الإنسان.

الثقافة الذكورية أسهمت في خلق إناث حالمات وذكور نرجسيين

شهدتُ بدايات الأحداث في سوريا بنفسي في ربيع 2011، منذ أن بدأت المظاهرات السلمية، كنتُ وسط الأحداث، وأنا أتنقل يومياً بين مدينتي حلب وإدلب لأداء مهامي الأكاديمية والإدارية في جامعة حلب التي لها فرع في إدلب، فأرقب ما يجري، ودرجت على تسجيل بعض اليوميات، وحينما ابتعدت عن بلادي، صارت فكرة كتابة رواية تعيد تمثيل أحوال بلادي أكثر إلحاحاً، غير أنني لم أستطع الشروع في الكتابة، وأنا في حالة انفعال شديد، كنتُ أدرك بوعي الكاتب أنها ستحول دون رؤية واضحة وموضوعية لما يجري، فلذتُ بالصمت، لم أكن أرغب في كتابة رواية تسجيلية أو وثائقية عن الأحداث في بلادي. اللحظة التي شرعت فيها بالكتابة كانت حينما أصبحت قادرة على الفصل بين انفعالاتي بما يجري، وبين ما أريد الحديث عنه في روايتي، وهذا ما حال دون تحولها إلى سرد شخصي، فـ«تل الورد» ملحمة عبّرت عن المأساة السورية بمختلف مستوياتها، بل امتدت إلى خارج سوريا إلى بلدان عاشت تجارب مشابهة، ولعل أي قارئ يقرأ الرواية سيجد جانباً من مأساته فيها.

قهر المرأة

> ظهر اهتمامك بقضايا المرأة عبر شخصياتك النسوية في رواياتك السابقة، وفي روايتك الأخيرة «ليالي الخذلان» خصصتِها بمساحة أكبر، كشفتِ عن القهر الذي يطال المرأة، ونضالها ضد العنف العاطفي والنفسي والجسدي، كيف عالجت هذه الرواية تجربة القهر والاغتصاب والمقاومة عند المرأة؟

- عملت نقدياً في كتابي «سيرة العنقاء... من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة» على تفكيك المركزية الاجتماعية المتمثلة في هيمنة الذكورة، والثقافة الذكورية التي أقصت المرأة وهمّشتها، وحلّلت معظم قضايا النسوية التي أعاد تمثيلها السرد النسوي، ووجدت أن هناك بعض القضايا التي أغفلها ذلك السرد، أو قاربها على نحو سطحي، لذا أردت الوقوف عند بعض تلك القضايا ضمن مشروع روائي، بدأته بروايتي الأولى «خواطر امرأة لا تعرف العشق»، ثم توقفت عنه؛ لانشغالي برواياتي عن سوريا وحال بلادي الذي فرض نفسه بقوة، وبعد تفرّغي من رواياتي عن سوريا، عدت إلى مشروعي برواية «ليالي الخذلان» التي انطلقت فيها من تأثير الثقافة الذكورية على المرأة والرجل، وكيف أسهمت تلك الثقافة في خلق إناث حالمات وذكور نرجسيين، وحينما يلتقي النرجسي بالحالمة، فلا بد من أن تتعرض المرأة لمختلف أنواع القهر؛ لأن النرجسي المتمركز حول ذاته عاجز عن الشعور بمتطلبات شريكه أو التعاطف معه، ما يؤدي إلى الخذلان الذي لم تنج منه امرأة أياً كان شأنها، وتقصّدت في روايتي أن يكون أبطالها من المثقفين.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.