كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في دولة الإمارات المتّحدة خلال العقود الأخيرة عن سلسلة من المدافن الأثرية، من أقدمها مدفن تعود أسسه إلى الألف الخامس قبل الميلاد، يقع في نتوء صخري واسع يُعرف باسم جبل البُحَيْص، يرتفع في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، بين الخليج العربي وخليج عمان، ويمتد من مدينة المدام إلى مدينة مليحة التي تضم موقعاً أثرياً يعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد.
وُصف جبل البُحَيْص بـ«مدينة الموتى»، وتشير هذه التسمية إلى مقبرة تضم رفات ما يقارب ألفاً من الهياكل العظمية البشرية، دُفن بعضها في قبور مشيدة تحت الأرض، ودُفن البعض الآخر في قبور فوقها.
ظهرت أول معالم هذه المدينة في مطلع سبعينات القرن الماضي، حيث كشفت بعثة عراقية عن بقايا بناء حجري في منحدر يقع في شمال شرق منحدر الجبل الصخري. بعدها، شرعت بعثة فرنسية في إجراء مسح شامل للموقع في عام 1990، وحدّدت هذه الأعمال معالم هذه المستوطنة ومراحل تطوّرها. بعد سنوات، بدأت أعمال التنقيب في هذه المستوطنة تحت إشراف بعثة مشتركة من إدارة الآثار في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ومعهد الدراسات الأثرية لما قبل التاريخ والعصور التاريخية والوسطى في جامعة تيوبنغن الألمانية. شرعت هذه البعثة في العمل ابتداءً من عام 1994، واستمرّت في التنقيب إلى عام 2005.
كشفت هذه الحملات التي تواصلت على مدى اثني عشر عاماً عن مدفن واسع يحوي سلسلة من 91 قبراً جرى تصنيفها بشكل علمي متأنّ. من هذه القبور التي تعود إلى حقب تمتدّ من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، خرجت مجموعات متنوعة من اللقى تتبع الأساليب والنسق التي راجت خلال تلك الحقب، منها مجموعة من الأواني الفخارية تقابلها مجموعة من الأواني الحجرية ومجموعة من الأواني المعدنية، ومجموعة من الخناجر المعدنية متعددة الأحجام، ومجموعة صغيرة من الأختام، إضافة إلى مجموعة غنيّة من الحلي التزيينية تحوي عدداً كبيراً من القلائد والأساور والخلاخيل المصنوعة بمواد متعددة.
تشهد هذه الحلي النسائية لأسلوب جامع ساد في نواحٍ عدّة من الخليج العربي، ويتمثّل هذا الأسلوب في استخدام المواد الأوّلية، كما في طرق تصنيعها وصياغتها. صُنعت القلائد من الخرز والأصداف المحلية، إضافة إلى أحجار أخرى توافرت من الخارج عن طريق الاتصال التجاري والتواصل الحضاري، منها القطع المصنوعة من حجر السبج المعروف بـ«الأوبسيدين»، ومصدره جنوب الجزيرة العربية، والقطع المصنوعة من الزجاج البركاني، ومصدرها جنوب بلاد الرافدين. خرجت من قبور جبل البُحَيْص مجموعة من القلائد المشغولة بالخرز، صُنعت لتزين الرقبة والخصر والمعصم والكاحل، وبرز في هذا الميدان استخدام الخرز المصنوع من الحجر الأبيض والعقيق الأحمر.
نماذج هذه القلائد متعدّدة، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من قبر حمل رقم 39 في أعمال التوثيق الخاصة بهذا الموقع، وتلك التي خرجت من قبر حمل رقم 78.
من القبر 66، خرجت مجموعة مميزة من هذه الحلى، منها قطع تحوي خرزاً من حجر العقيق الأحمر، وقطع تحوي خرزاً مذهّباً، إضافة إلى سوارين من الذهب، وقطعة دائرية من الصدف تبدو أشبه بما يُعرف بـ«البروش»، أو دبوس زينة. وفقاً للتقليد الغالب، صيغ السواران بأسلوب مجرّد، وغابت عنهما أي نقوش تزيينية. في المقابل، زُيّنت القطعة الصدفية بسلسلة من سبعة نقوش دائرية، رُصّع كلّ منها بخرزة من حجر العقيق الأحمر. في هذا القبر كذلك، مجموعة من الحلى المعدنية، منها أساور وخواتم ودبابيس من الطراز الشائع الذي تتكاثر نماذجه في مقابر الإقليم العُماني.
من القبر 83، خرج عقد بديع من العقيق الأبيض تميّز برهافة صناعته، وسوار من البرونز اتّخذ طابعاً تصويرياً. صُنع هذا العقد من 26 قطعة مثلثة ومسطّحة، تفصل بينها قطع دائرية منمنمة، وزُيّن كلّ من طرفيه بثلاث قطع أسطوانية من اللون الأحمر. حافظت هذه القطعة على مكوّناتها بشكل كامل، واحتلّت منزلة الصدارة في مجموعة القلائد التي خرجت من جبل البُحَيْص. في المقابل، صيغ طرفا السوار البرونزي على شكل رأسين مجسّمين متواجهَين، وظهرت ملامح هذين الرأسين المجسّمين بشكل واضح وجلي، وهي كما يبدو لفهد، أو لحيوان من فصيلة السنوريات.
يبرز هذا السوار قطعةً فريدةً من نوعها في ميراث هذه المقبرة، كما في ميراث محيطها الجغرافي في ساحل الخليج، حيث نقع على مجموعة كبيرة من الأسوار البرونزية، وكلّها مجرّدة، وتخلو من أي زينة تصويرية. خارج هذا المحيط، يشابه سوار القبر 83 في تكوينه سواراً مزدوجاً شهيراً يعود إلى مجموعة من القطع الذهبية تُعرف بـ«ذهب نمرود»، مصدرها قصر الملك آشور ناصربال الثاني الذي حكم من عام 883 إلى عام 859 قبل الميلاد.
يبدو سوار جبل البُحَيْص البرونزي نسخة متقشّفة عن السوار الآشوري الذهبي، ويوحي هذا التشابه بأنه من القطع التي وصلت من بلاد الرافدين إلى هذه الناحية من جزيرة العرب.
