من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف
TT

من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً، أم منظّراً من طراز غنوصي عريق. ولقي هذا الطرح تفاعلاً كبيراً، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات تستحق التأمل والمراجعة. هل يُنصف هيغل، بوصفه أحد أعظم أنظمة الفلسفة العقلية في التاريخ، أن نردّه إلى مجرد نزعة صوفية درويشية؟ الصورة أكثر تعقيداً. فهيغل، في بداياته، كان بالفعل أقرب إلى التصوف. كان يعيش في بيئة صوفية ألمانية، وتأثر بأفكار يعقوب بوهمه، كما اطلع على تراث المتصوفة المسيحيين في عصرهم الذهبي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. أولئك الذين مزجوا بين الحدس والفكر، وبين الكليّ والجزئيّ، وبين حضور الروح وحركة العقل. في كتاباته المبكرة، مثل «روح المسيحية ومصيرها»، كان مشغولاً بمفاهيم الاتحاد بالكل، والتجاوز الحدسي للحدود، والانخطاف الذي يتجاوز الثنائية بين الذات والموضوع. هذه البدايات لا يمكن إنكارها، ولا ينبغي التهوين منها. فهي تمثّل حجر الزاوية الذي انطلقت منه رحلته العقلية، رحلة الروح الثلاثية.

لكن هذه المرحلة لم تكن النهاية. شيئاً فشيئاً، بدأ هيغل يُخضع تلك الرؤى الحدسية لمنهجية عقلية متينة، ويعيد تأويل التجربة الصوفية في ضوء مسار جدلي متكامل. مثل معظم عظماء الفلاسفة الألمان، لم يرفض التصوف، بل احتواه داخلياً، وأعاد بناءه من الأساس. وكما لاحظ فريدريك كوبلستون في دراسته «هيغل وعقلنة التصوف»، فإن هيغل لم يكن صوفيّاً بالمعنى الساذج، بل فيلسوف عقلاني استخدم التصوف منجماً للمعنى، وأخضعه لبنية جدلية دقيقة.

التصوف، عند هيغل، لا يعني الانفصال عن الفكر أو الطيران في عوالم اللاعقل، بل يشكّل لحظة من لحظات تطور الوعي في سعيه نحو المطلق، وكيف بنى البشر حضاراتهم في أثناء الرحلة.

وقد استلهم من المتصوفة، لا سيما بوهمه ومايستر إيكهارت، فكرة الاتحاد بالكل، لكنّه أصرّ على إعادة تنظيم تلك الرؤى الحدسية ضمن منطق جدلي عقلاني يُفكّر بها دون أن يُفرّغها من قوتها الشعورية. لقد استبقى من التصوف عمقه، وحرّره من غموضه.

وتأكيداً لوجود الاتجاه المبكر، وجدنا هيغل في شبابه يكتب قصيدة رمزية بعنوان «إليوزيس»، مستوحاة من الطقوس الغامضة لمعبد إليوسيس اليوناني، وملأها بالإشارات إلى «الكهنة» و«الحكمة الخفية» و«الرموز المضنون بها». ورغم أن القصيدة لا تُعدُّ عملاً شعرياً عظيماً، فإنها تُظهر تلهف هيغل الشاب لاختراق الحجب، وكشف المستور، وتوقه إلى معرفة تتجاوز المألوف، وتساؤله حول قدرة اللغة على حمل المعنى الباطني. لقد كانت تلك القصيدة بمثابة اعتراف شعري بأزمة الحدس، كأعمى يتحسس طريقه في الظلام، وسعيه إلى بناء فهم أمتن. إنها لمحة نادرة عن عقل يتأرجح بين الخشوع الغامض والرغبة في الفهم، عقل سينتقل لاحقاً من القصيدة إلى النسق، ومن الرمز إلى المفهوم.

أما غلين ماغي، فقد أصاب حين أشار إلى أثر الهرمسية والرمزية في فكر هيغل، لكنه أخطأ حين تعامل مع هذا البُعد بوصفه قطيعة مع العقل، أو خيانة للفكر الفلسفي. فالحقيقة أن التصوف، كما ظهر عند هيغل، لم يكن نقضاً للعقل، بل أحد تجلياته. تجربة الصوفي، في صورتها الهيغلية، ليست رفضاً للتفكير، بل إدراك حدوده، والسعي لتجاوزها من داخله، لا عن طريق النفي، بل عن طريق التصعيد الجدلي. لم يكن العقل عنده سجناً، بل الجسر الذي يفضي إلى الحرية.

لقد بيّنتُ أن غلين ماغي فصل التصوف عن العقل، لكن التصوف، بعمقه وحدسه، هو فعل عقلاني أيضاً. حجة ذلك أننا في تقاليد الهند، نجد آلاف الكتب التي تعلن الحرب الفكرية على العقل، لكن هل كان ممكناً أن يفعلوا هذا بدون العقل؟ لا أحد يهرب من العقل. والخلاص منه وهم، أما الكمال فليس في إسقاطه، بل في إدماجه.

ومن هنا تكتسب عبارة برتراند راسل قيمتها الكبيرة، حين قال «إن الاتحاد الحقيقي بين الصوفي ورجل العلم هو أسمى ما يمكن أن يبلغه الإنسان في عالم الفكر». لقد رأى راسل أن المثالي ليس الانقسام بين الإيمان والعقل، ولا بين الحدس والتجريب، بل لحظة الجمع والانسجام. وهذه اللحظة النادرة هي عرش الفكر الذي سعى هيغل للجلوس عليه.

الكمال لا يتحقق في العقل وحده، ولا في التصوف وحده، بل في لحظة اتحادهما. اللحظة التي لا يُلغى فيها أحدهما لصالح الآخر، بل يُركّبان في هيئة جديدة. هيغل، في هذا المعنى، لم يكن مجرد صوفي عقلاني، ولا عقلانيّاً متصوفاً، بل كان المفكر الذي حاول أن يضمّ في فلسفته تلك الثنائية التي طالما شطرت الروح الإنسانية، فلا تبقى ثنائية.

وإذا شئنا الدقة، فإن مشروع هيغل يعلّمنا فقط كيف نفهم التصوف، ويعلمنا كيف نحفظ له كرامته الفكرية. لقد كان يعي أن لكل حدس روحي مكمناً عقلياً، وأن كل لحظة إشراق لها جذر في التجربة والتأمل. التصوف، حين يُنظر إليه بوصفه اجتهاداً داخلياً لفهم المطلق، لا يقل صرامة عن أي نشاط فلسفي آخر، بل قد يكون أكثر توتراً، لأنه يركض على الحافة القصوى للعقل. وهيغل، حين أعاد تأطير هذه الحركة، لم يكن يروّضها أو يدجّنها، بل منحها ما لم تمنحه لنفسها: وضوح البناء وصرامة المبدأ.

من هنا نفهم كيف يمكن للفلسفة أن تكون روحانية من غير أن تهجر الفكر، وكيف يمكن للحدس أن يستقيم في طريق العقل دون أن يُبتَر. إن فهم هيغل للتصوف لا يكشف عن ميول باطنية ضبابية، بل عن تصميم وجودي على جعل التجربة الداخلية قابلة للفهم، دون أن تُنتَزع منها شرارتها الأولى.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

كتب الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

كتب بعشرات الآلاف، باتت في متناول القراء، هي كلياً من إنتاج الذكاء الاصطناعي. عدد كبير آخر هجين، كتب بتعاون بشري وآلي، وما تبقى لا يزال بشرياً.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب عمر خالد... وكتابه

عمر العقاد: ما جدوى فن لا يدين الإبادة الجماعية؟

فيما يشيح العالم بوجهه عن المذبحة الرهيبة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وتجاهد حكومات الغرب لقمع الأصوات المؤيدة لفلسطين

ندى حطيط
ثقافة وفنون شاكر الناصري

«مجرد وقت وسيمضي»... سردية السرطان و«سرد الذاكرة»

كيف لنا أن نكتب عن أمراضنا؟ المتنبي المتفرد، دائماً، ترك لنا ما لم يتركه غيره في هذا المقام؛ فكانت قصيدته في وصف الحمى درساً مختلفاً

حمزة عليوي
ثقافة وفنون الإريتري أبو بكر كهال يسرد وجع الهجرة والشتات

الإريتري أبو بكر كهال يسرد وجع الهجرة والشتات

تسرد رواية «مراكب الكريستال» للكاتب الإرتيري أبو بكر حامد كهال، الصادرة حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن في 66 صفحة من القطع المتوسط

«الشرق الأوسط» (عمَّان)
ثقافة وفنون ست قطع زخرفية من محفوظات المتحف الوطني السعودي مصدرها موقع الصناعية في تيماء

خزف من موقع «الصناعية» في واحة تيماء بالسعودية

تمتدّ واحة تيماء بين جبال الحجاز وصحراء النفود الكبيرة، وتُعرف بمعالمها الأثرية العديدة، وأشهرها موقع سُمّي «قصر الحمراء»، يطلّ على بحيرة منطقة «الصبخة»

محمود الزيباوي

«مجرد وقت وسيمضي»... سردية السرطان و«سرد الذاكرة»

شاكر الناصري
شاكر الناصري
TT

«مجرد وقت وسيمضي»... سردية السرطان و«سرد الذاكرة»

شاكر الناصري
شاكر الناصري

كيف لنا أن نكتب عن أمراضنا؟ المتنبي المتفرد، دائماً، ترك لنا ما لم يتركه غيره في هذا المقام؛ فكانت قصيدته في وصف الحمى درساً مختلفاً، يصحُّ معه أن نسمِّي قصيدته باليتيمة؛ فلا أحد بعده قد «قال» شعراً من داخل لحظة «الحمى»، محولاً إيّاها إلى معاناة ومواجهة إنسانية كبرى مع المرض. وقد يكون السياب الشاعر العربي الثاني في الكتابة الشعرية المتفردة عن محنة المرض المفضية إلى الموت المحتم. صور السياب المريض في «سفر أيوب» ربما تتفوق، في سرديتها الفائقة على منطق المريض وصوره المتفردة، ولا شك، كما تظهر في شعر المتنبي؛ فالحمى تظل حالة «مؤقتة» أو «عرضاً» خاصاً بالمرض، لكنها ليست المرض ذاتها. وهذا أمر مختلف، جذرياً، عن سردية المرض في قصيدة «سفر أيوب»؛ المرض، هنا، ينفتح على محنة الموت وأسئلة الوجود كله. ولنا أن نقول إن سردية المرض في شعر السياب هي صيغة مبكرة، كما نفترض، من التعامل مع «السرطان»، أو «إمبراطور المآسي»، كما سماه الطبيب سيد هارتا موكرجي في كتابه الشهير بالعنوان ذاته. وهذا ذاته شأن كتاب شاكر الناصري «مجرد وقت وسيمضي، يوميات السرطان/ الرافدين – 2025».

السرطان سيرة مقترحة

يستعيد الناصري لحظة الرعب الأولى، وهي ذاتها لحظة المعرفة بالمرض وإدراكه، بوصفه الحد الفاصل بين ما مضى وما تبقَّى، فلا يركن إلى تلك اللحظة بالصمت والتواري، إنما يسعى لمواجهتها بالاعتراف بها، أولاً، ومقاومتها بالكتابة ثانياً. خيار المواجهة وضعه أمام «محنة» اختيار سبل المواجهة، وأهمها سبل الكتابة. ولكن أي نوع من الكتابة يمكنه أن يصمد أمام كابوس «السرطان»؟ شأن تجارب عالمية وعربية مشابهة يشير إلى بعضها، يجد الناصري أن فرضية «الاختيار» أو «الانتقاء» ترف لا وجود له في حالته. وربما الأصح أن نقول إنه «ترف» لا قيمة، ولا وزن له أمام «سردية» كبرى اسمها «السرطان»؛ فليس هناك سوى سبيل وحيد وأوحد هو أن «تعيش» السرطان بكل حالاته وأوجاعه واستبداده، فلا «اختيار» سوى ما يفرضه السرطان ذاته عليك وعلى محيطك. باختصار مرير عليك أن تعيش «السرطان» كما تعيش يومك؛ فهو قد صار كل ما تبقَّى من حياتك. هل «أتفلسف» في حضرة السرطان، كما يسخر كثيرون في حالات مشابهة؟ وفي الحقيقة لا فلسفة كبرى سوى فلسفة السرطان ذاته؛ فهو الذي يقرر، وهو الذي يفرض علينا طريقة «مقاومتـ»ـه، وهي أن تكتب قصتك، سيرتك في مواجهة رعب السرطان. اليوميات، إذن، ليست خياراً إنما هي السبيل الوحيد المتاح لوهم عذب اسمه «مقاومة» السرطان. وكل الذين «قاوموا» السرطان لم يفعلوا سوى أنهم كتبوا «سيرهـ»ـم، وقصصهم في مواجهته.

فهل هناك مفارقة «أدبية» سردية تكمن خلف اختيار تقنية «اليوميات» في كتابة روايات معينة كان موضوعها هو «السرطان»؟ أزعم أن منطق السرطان الشمولي لا يسمح، حتى في حالة السرد الأدبي، بترف الخيارات المختلفة، إنما هناك «فرض» مقصود من سردية السرطان؛ بأن تعتمد «الرواية» المقصودة تقنية «اليوميات». وهذا ما فعله الكاتب الروسي الشهير ألكسندر سولجنيتسين في روايته الشهيرة «جناح السرطان». وهو شأنُ كتبٍ كثيرة كتبها مؤلفوها بصيغة اليوميات، وكانت تحكي تجاربهم في «مقاومة» المرض. أشهرها على المستوى العالمي كتاب سوزان سونتاج: «المرض كاستعارة». وفي الثقافة العربية تكرر الأمر في كتب كثيرة، منها كتاب «يوميات سرير الموت» للكاتب الروائي المغربي محمد خيرالدين وقد دوَّن فيه يومياته مع السرطان. والقسم الأخير من كتاب «عن الذاكرة والموت: سعد الله ونوس» بعنوانه الدالِّ «رحلة في مجاهل موت عابر». وقد نتحدث عن سيرة الكاتبة المصرية المعروفة رضوى عاشور «أثقل من رضوى». وكتاب «الجنوبي» لعبلة الرويني عن سيرة زوجها الشاعر المصري المعروف أمل دنقل. وربما يكون آخرها كتاب «أنا قادم أيها الضوء/ محمد أبو الغيط». ولا يشذّ كتاب الناصري عمَّا سلف؛ فهذا حكم السرطان على ضحاياه؛ أن يشهدوا ويلاته ويعيشوا أوجاعه لحظةً فلحظة، يوماً فيوماً. وفي هذا بعض ما نجده في كتب السرطان، مما نتج عن «يوميات» تؤلف، في نهايتها، سيرة منتقاة بعناية فائقة عن المريض، وعن المرض ذاته.

يستعيد الناصري في يومياته لحظة الرعب الأولى وهي ذاتها لحظة المعرفة بالمرض وإدراكه بوصفه الحد الفاصل بين ما مضى وما تبقَّى

ذاكرة السرطان

في «مجرد وقت وسيمضي» تصطرع حكايات وأسئلة متعددة، تؤلِّف، بمجملها، ما يمكن تسميتها بذاكرة النص نفسه، أو مصادره. في الأصل ثمة ذاكرة الناصري نفسه بحكاياته المضطربة المتولِّدة، ولا شك، عن سردية السرطان نفسه. أفكر، هنا، أن سرد الذاكرة، فحسب، هو ما سمحت به سردية هذا المرض. لكن «يوميات السرطان» تعيد نسج المشهد بمواد وصياغات مختلفة إلى حد ما؛ فالسرطان هنا تقنية أكثر مما هو سردية كلية. لماذا لا أقول إن هناك تخادماً مطرداً في الكتاب بين يوميات السرطان وكونه تقنية؟ وفي الواقع أن اليوميات توظِّف السرطان وهو بدرجة مماثلة، يفرض عليها سلطانه. هذا التواصل المثير بينهما نلمسه، ابتداءً، من العنوان «مجرد وقت وسيمضي... يوميات السرطان». يقترح العنوان اندفاعة مبكرة ضد «السرطان»؛ فهو محض «وقت» و«سيمضي» حتماً. هذا التأويل الأولي يتوافق مع تأخير «لماذا لا أقول (تحقير)؟» السرطان وسرديته بجعله عنواناً فرعياً، فيما العنوان الأساسي هو الانتصار للحياة برمتها؛ فهو «وقت» أو مقطع زمني وسيذهب لحاله، فيما ستبقى الحياة كلها للمريض. أفترض أن دلالات العنوان المفترضة هي إحدى استراتيجيات المقاومة الممكنة. لكنها صياغة مبكرة لقصة المريض مع رعب المرض. كأن العنوان يريد أن يدفع بنا نحن قصة أو رواية سيرية. وأنا أدفع، هنا، بأن العنوان يريد إيهامنا بخيالية السيرة السردية المتخيلة؛ طمعاً في الافتراض أنها محض خيال و«سيمضي»، شأن أي قصة أو «رواية» متخيَّلة نجدها في كتاب ما ونقرأها ثم نتركها في زاوية ما من البيت أو المكتبة أو حتى على قارعة طريق. فهي رواية خيالية تعجبنا لكنها لا تخص حياتنا، ولا تحدد مصيرنا.نظل عن حدود الرغبة في إيهام الذات، أولاً، وربما أخيراً، بجدارة القصة المقترحة لأن تكون موضوع القص الأدبي المفترض في «مجرد وقت وسيمضي»، فنحن نجد إصراراً كتابياً وسردياً على الالتزام بحدود التخيل في سرد وقائع النص. عندنا، هنا، نص يريد أن يلتزم بأصول الأدبية المتخيلة فيفترض، مثلاً، أن من واجبه أن يعلن «يعترف» بـ«السرطان»؛ فالناصري لا يتحرَّج، أبداً، من إعلان الإصابة بالمرض الخطير، هذا الاعتراف هو جزء أصيل من «تخييل» قصة المرض؛ بدفعه من خانة «الواقع» إلى خانة لا تمس الذات وما يتصل بها من جسد ومصيره المحتوم، خانة متوهمة تخترعها اليوميات. ثم إن «اليوميات» ذاتها لا تلتزم بسياق زمني متتالي ذي مسار تصاعدي. نعم، ثمة التزام لا ينكره النص بمواعيد جرعات العلاج الثماني، لكن هذا الالتزام يشهد تلاعباً خلَّاقاً بالزمن. فهل ينجح النص بلعبته؟ نزعم أن الظفر حاصل ولا شكَّ، لكنه «نجاح» متوهَّم، وربما لا قيمة له في سياق سردية السرطان؛ فذاكرة النص هي ذاتها ذاكرة هذا المرض. لنأخذ الكتب التي عرض لها النص، فقد كتبها أشخاص مصابون بالسرطان، أو ممن اختصوا بعلاجه. وهذا أمر طبيعي، بل هو أحد فروض السرطان التي لا تُرد، فلا وقت يخصص خارج سطوة المرض وآلامه المميتة. وبعض قدراته أنه يعيد تصريف الزمن وتوجيهه، لا سيَّما في الأوقات التي يستعيد الجسد فيها بعض توازنه، حتى هذا الوقت الشحيح فإن السرطان يفرض عليه سلطانه؛ فيدفع مريضه لقراءة تجارب ضحايا آخرين وسابقين. ولنأخذ موضوع تاريخ عملية رفع المعدة المصابة بالسرطان، فإنه ذو دلالة تاريخية فائقة للناصري وبلاده، وهو يوم الثامن من فبراير (شباط). فأي مفارقة، وأي عذاب؟! ففي تلك الليلة نُحر اليسار العراقي على يد القوميين والبعثيين والعسكر بعد قتل مؤسس الجمهورية العراقية الزعيم عبد الكريم قاسم. لكنَّ للسرطان عظته الأخيرة، فهو بحكم شموليته يدفع ضحاياه لنوع خاص من التسامح مع البشر والحجر على السواء. تسامح يتولَّد عن مراجعة جذرية وشاملة للماضي وذنوبه، ويدفع المبتلين به إلى التسامي عن أي بغض وكراهية. وهذه، ربما، إحدى فضائل مقاومة السرطان نفسه.