كازانوفا الساحر مقيماً على التخوم الموحشة للملذات

لم تولد أسطورته من مخيلات الآخرين بل اجترحها من وقائع حياته

مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005
مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005
TT

كازانوفا الساحر مقيماً على التخوم الموحشة للملذات

مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005
مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005

«لقد كُتبت شهرة كازانوفا بجميع اللغات، حتى أنه يفوق في عالميته معاصريه غوته وفريدريك الأكبر، فمن أقصى شمال العالم إلى جنوبه يبتسم الملايين لذكر اسمه في حين أنهم لا يعرفون عن الآخرين من العظماء سوى معلومات جافة. لقد غطى تألقه على بريق الملوك والشعراء في عصره، حتى ليُعتبر أشهر رجال القرن بعد نابليون، الذي قُورن به في معرض الفكاهة».

لم أجد ما أستهل به هذه المقالة عن جياكومو كازانوفا أفضل من هذا النص الذي كتبه الناقد الألماني إميل لودفيغ عن المكانة التي احتلها كازانوفا في نفوس القراء والمهتمين من شرق العالم وغربه. على أن ما كتبه لودفيغ، لم يكن ليختلف بشيء عما كتبه نقاد آخرون فائقو الأهمية من طراز ستيفان زفايغ وهافيلوك أليس وجيمس ستيوارت، الذي رأى في حياة العاشق الإيطالي المغامر، نوعاً من «أوديسة صغيرة كتبها رجل قُدّر له أن يتخذ مكاناً له بجوار الخالدين في الأرض».

مشهد من فيلم" كازانوفا"، المنتج عام 2005

وإذا كانت الكتابة عن كازانوفا (1725 - 1798م) تأتي في سياق الكتابة عن رموز العشق الغربي، فإن ما يميزه عن الآخرين هو كونه لم يولد من رحم المخيلات والتصورات الصرف، كما كان شأن تريستان وروميو ودون جوان، بل ولد من الأحشاء الحقيقية للقرن الثامن عشر، حيث كانت التقاليد القديمة تتصارع مع الجديدة، والشعوذة مع العقل، والديني مع الدنيوي.

ويكفي أن نتتبع سيرة كازانوفا الشخصية، لكي نشعر أننا إزاء شخص متعدد الهويات والطبائع، بحيث يظهر أحياناً في صورة شيطان، وأحياناً أخرى في صورة ملاك، وأحياناً ثالثة يتحول إلى مزيج غريب من هذا وذاك. ولأن له سمات الأعاصير، فقد كان كازانوفا لا يميز بين بيضاء أو سمراء، متزوجة أو عزباء، فقيرة أو موسرة، بل يرى في كل امرأة يصادفها بصمة مختلفة من بصمات الأنوثة الكونية، وتسوقه رغباته إلى القيام بمجازفات لا تخطر على بال.

وإذ يطلعنا كازانوفا في مذكراته على أن الهوس بالنساء، بخاصة الممثلات والمغنيات والراهبات، هو جزء من تراث عائلته القديم، يشير إلى رحيل أبيه المبكر، وإلى قرار أمه الفتية العزوف عن الزواج، موثرة التفرغ لتربية أطفالها. ومع أنه يشير بعد ذلك إلى انحراف صحته ونحوله المرضي وفقر عائلته اللاحق، فإنه يشير أيضاً إلى أنه استهل مغامراته العاطفية وهو بعد في العاشرة، مع زميلة له في الدراسة تكبره بسنوات ثلاث. ولعل من أكثر المفارقات غرابة هو انخراطه في السلك الكهنوتي، نزولاً عند رغبة بطريرك البندقية. على أنه لم يكتف بالدور الجديد الذي أنيط به، بل أضاف إليه دور الواعظ، ليلقي على الملأ خطباً دينيةً تحث على الفضيلة والتقوى.

الأرجح أن قبول كازانوفا القيام بمهمة رجل الدين لم يكن انصياعاً محضاً لرغبة البطريرك، بقدر ما كان استجابة لنوازعه النفسية الدفينة التي تجعل منه ساحة للعراك الضاري بين المقدس والمدنس، وبين الجسدي والروحي. والأدل على ذلك هو مسارعته إلى إقامة علاقة غرامية مع ابنة أخ القسيس المشرف على تدريبه، وإلى إقامة علاقة متزامنة بين شقيقتين، إضافة إلى علاقته بامرأة متزوجة سببت له مرضاً تناسلياً، كما تسببت بصرفه من السلك الكهنوتي. وفي معرض عدم تمييزه بين امرأة وأخرى، إلا من حيث الجاذبية، يكتب كازانوفا في مذكراته أنه التقى بمغنية مشهورة وبرفقتها خادمة سمراء، ليضيف قائلاً «ومع أن المغنية كانت فتية وجميلة، فهي لم تثر في نفسي أي رغبة، حيث كانت حسناء أكثر مما يجب وبدينة أكثر مما يجب. ولأن خادمتها كانت على العكس من ذلك، سمراء وساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فقد وقعت في حبها على الأثر».

أما قصة الحب التي جمعت بين كازانوفا ومجدالا، إحدى راهبات البندقية الجميلات، فقد تكون واحدة من أكثر القصص التي عاشها غرابة وإثارة للدهشة، الأمر الذي دفع الكاتب الفرنسي برتران دي نورفان إلى جعلها محوراً لروايته «كازانوفا»، التي تدور وقائعها في عام 1757، والتي تجمع بين السرد المشوق والحبكة الغنية بالمفاجآت. وفيها يعرض المؤلف لانغماس كازانوفا في عوالم البندقية الباذخة، بخاصة عالمها الليلي، بما يضمه من أوكار الجنس وأندية اللهو والقمار، التي يؤمها القناصل والسفراء وفاحشو الثراء، وصولاً إلى زجه بتهمة القتل في سجن «الرصاص»، وهروبه اللاحق بحيلة ماكرة.

كما يظهر كازانوفا مزاوجة ناجحة بين نظرته الأبيقورية إلى الحياة، ورشاقة اللغة ومهارة الأسلوب السردي، فيكتب في مذكراته «إن الحب هو أكثر الأشياء مكراً ودهاء، وأكثر ما تتجلى عبقريته وسط الصعاب. ولما كان مجرد وجوده يتوقف على إمتاع الذين يتفانون في عبادته، فإنه ينتزع النجاح من أعماق الحالات المحفوفة باليأس. لا بل إنه يخلق بنفسه المناسبات والملابسات التي تحقق هذا النجاح».

ولأن كازانوفا كان يضيق ذرعاً بكل أرض يقف فوقها أو ثروة ينولها أو امرأة تطولها يداه، فقد آثر مغادرة البندقية بحثاً عن مغامرات مثيرة ونساء جديدات وملذات غير مألوفة، فيمّم وجهه شطر لندن، ثم غادرها قاصداً برلين، وصولاً إلى روسيا، حيث تمكن بمساعدة الأمير العابث كارل فون كورلاند من الانغماس في مجتمعها المخملي. وحيث راح يتنقل بعد ذلك بين بولونيا والنمسا وباريس وإسبانيا، كان صيته كفاتن للنساء، يسبقه إلى كل مدينة يزورها، ويقوده إلى الكثير من المزالق.

على أن ثمة انشطاراً في شخصية كازانوفا تتسع دائرته لتطول كل جوانب حياته التي توزعت بين قمم العيش وسفوحه. فهو من جهة جوّاب الأمصار الذي يمتطي أثمن الخيول وينزل في أفخم الفنادق، ويجالس ملوك عصره وفلاسفته الكبار، من أمثال لويس الخامس عشر وفردريك الكبير وبابا روما وكاترين الثانية وفولتير، وهو من جهة ثانية المتشرد البائس ونزيل السجون والمقامر بكل شيء حتى بحياته نفسها. ومع وقوفنا ذاهلين إزاء تهالك كازانوفا المفرط على المتع الحسية، تستوقفنا الإشارات الدالة على وهنه المبكر، التي بدأ بإطلاقها قبل بلوغه الأربعين. فهو يعلن إثر قدومه إلى لندن بأن المؤثرات الساحرة لشخصيته، التي أوقعت في حبائله مئات النساء، قد أوشكت على البطلان، فيكتب حرفيته «لقد سجلت تاريخ سبتمبر 1763، باعتباره لعنة من لعنات حياتي، ولقد شعرت أن تيار الكهولة يحملني، مع أنني كنت في الثامنة والثلاثين من عمري».

وإذا كان البعض يرد هذا الشعور المبكر بوطأة الزمن إلى تجربة كازانوفا الفاشلة في لندن، حيث المجتمع الإنجليزي الرصين لا يُغزى بسهولة، وحيث الطباع الباردة لهذا المجتمع لا تتلاءم مع الدم الحار للعاشق الايطالي، فإنه لا يلبث أن يكتب في الخمسين «لقد فكرت في أيامي الخالية، ورثيت مسلكي ولعنت الخمسين التي شارفتُ بلوغها، والتي قضت على جميع أحلامي. ولقد حز في نفسي ألا أرى أمامي سوى بؤس الشيخوخة والبطالة والفاقة، وألا تغذيني سوى شهرة مريبة وحسرات عقيمة». وقد يكون الإنفاق السريع لرصيده من الشهوة واندفاعة الدم، هو السبب الأبرز لشعوره المبكر بأعراض الكهولة والسأم والإشباع.

وإثر عودة كازانوفا موهناً ومهيضاً إلى مدينته الأم، عينته محكمة التحقيق مخبراً سرياً يعمل لحسابها. ولعل أكثر ما آلمه في تلك الفترة، لم يكن راتبه الزهيد فحسب، بل تكليفه بكتابة تقارير مفصلة عن الفساق والخلعاء والملحدين، في واحدة من أكثر سخريات القدر مدعاة للدهشة والضحك المر. وبعد أن قطعت السلطة مرتبه نظراً لسوء أدائه الوظيفي، راودته رغبته القديمة في المغامرة فغادر البندقية باتجاه فيينا، ومن ثم أمستردام وباريس وصولاً إلى بوهيميا، حيث استطاع بمساعدة الكونت فون فالدشتاين أن يسترد بعض ما فاته من مباهج العيش وملذاته. كما اعتراه حينها شغف بالغ بالقراءة والتحصيل المعرفي، وانصرف إلى الكتابة والتأليف، لينجز أعمالاً عدة وبحوثاً في الفلسفة والأخلاق والدين، وصولاً إلى مذكراته الشهيرة التي اعتبرها النقاد أفضل أعماله، وأكثرها دلالة على لغته المتوهجة وسرده المشوق.

ورغم أن حياة كازانوفا كانت غنية بالمفارقات والألغاز التي أثارت حيرة نقاده وقرائه على امتداد العصور، فإن موته لم يكن أقل مثاراً للحيرة من حياته. لأن المؤرخين لم يجمعوا على المكان الحقيقي الذي تم دفنه فيه، بحيث تحول موته كحياته إلى متاهة، فكان شريداً لسطح الأرض وباطنها في الآن ذاته.


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.