«مجاز البيانو»...أنسنة الأشياء الجامدة

دارين زكريا تستنطق عذابات السوري في غربته

«مجاز البيانو»...أنسنة الأشياء الجامدة
TT

«مجاز البيانو»...أنسنة الأشياء الجامدة

«مجاز البيانو»...أنسنة الأشياء الجامدة

تستنطق دارين زكريا، في سردها القصصي - الشعري للحكايات، الأشياءَ والأشخاص، وتمنح الجمادات ألسنةً تنطق وتتحدث بإسهاب عن علاقتها بالبشر والحيوانات وبقية الكائنات وعناصرِ البيئة والحياة.

تتساءل المؤلفةُ في قصة «مجاز البيانو»، التي وسمت مجموعتَها القصصية باسمها: ماذا لو كانت للجمادات ألسنة... كيف كانت ستصبح حياتنا بوجودها يا ترى؟ لكنها لا تكتفي بالسؤال، وإنما تمنح «البيانو» العريق المهمل في الحديقة لساناً يتكلم. تسمع الـ«آه» من البيانو المهمل بشكل نوتة موسيقية. يتفجع على خشبه الزان وهو يتعرض لعوامل التعرية الطبيعية بعيداً عن أنامل صاحبه الراحل المرهفة.

تتلمس «الأم»، في القصة، «البيانو» كما تتلمس ابنَها في حضنها، تعبيراً عن تماثلهما في الوحدة والإهمال في مجتمع قد لا يرحم طفلاً. عملية تماهٍ بين الآلة الموسيقية والطفل، الذي ترضعه الزجاجة، وهي تعزف على البيانو، وتمنح الاثنين ما فقدته من حب.

حَمَامات الحي تبدأ أحاديثها وتنهيها على ظهره... الفراشات والعصافير تحط برفق على مفاتيحه وتعزف أنشودة الحياة. وآثرت أزهار كثيرة أن تغفو على خشبه البُنّي كأنها عاشقة. يبث البيانو المهمل البهجة في الحديقة، ويتحول نفسُه إلى موسيقى تجمع كيمياء العشاق، معبراً عن وحدة الإنسان والطبيعة.

نعم الجمادات أيضاً لها ذبذبات تصلها بنا. لذلك حينما نرى شيئاً ما، كآلة موسيقية أو تحفة أو ربما قطعة ملابس، نشعر بأننا أحببناها! لماذا؟ لأن ذبذباتها تنسجم مع ذبذباتنا.

معظم أبطال القصص القصيرة عند دارين زكريا، وتلك الخاصة بعذابات المواطن السوري في غربته الداخلية والخارجية؛ هجرته على وجه الخصوص، هم من أبطال فرنتز فانون المعذبين على الأرض. هم: فتاة صغيرة تبيع المناديل الورقية (كلينيكس) في الشارع، أو صبي يشم الممنوعات في أزقة باب توما، أو رجل متسكع يباغته الحب في شكل عابرة سبيل لم تفعل أكثر من الحديث معه بلطف. ضحايا، ومزيد من الضحايا، عندما تسرد دارين عن غرقى البحر الأبيض المتوسط من المهاجرين، وعن ضحايا عنصرية الأبيض والأسود. تعساء... منسيون... ابتلعت القنابل أجزاء من أجسادهم، أو ابتلع الفقر شيئاً من كرامتهم... أو أطفال ابتلعهم البحر الأبيض أو النيل الأسود.

يفقد معذبو دارين زكريا السيطرة على أجزاء أجسادهم، كما يبدو؛ لأن الأجزاء تخاطب الجسد، والعقل في غربة فلسفية ظاهرة في النصوص... «تكلم المجنون حتى تعب صوته منه...»، و«القدمان لا تخجلان من الألوان التي تعلوانهما»، و«اليدان تلوحان بعصبية واضحة محاولتَين تبيان الموضوع الذي يتحدث به صاحبهما»، و«استوحش البيانو وحدته»، و«قدماها لا تطاوعانها، وبقيتا مسمّرتين».

والأشياء في قصص الكاتبة، ولنقل من جديد، الجمادات، تخاطب الشخصيات وليس العكس، في زخرفة لفظية تزيد القصص أناقة... «الستارة تنادي الفتاة كي تزيح عنها وجه الصباح»، و«المعدة ترسل أوامرها إلى العقل»، و«السرير ذو الملاءات البيضاء يحفظ طباع (شاهين)» و«سواد شعرها الطويل حريص على إثبات نفسه تحت الملاءة البيضاء» و«قطرات العرق تقول أنا متعبة للصغيرة الجالسة على الرصيف في سوق باب توما»، و«فرعون يمد لها قلبه بشكل شظية من زجاج اللوحة المكسورة التي تصوره»...

والرسام «شاهين» يقلقه ويسرق من عينيه النوم هم أن يرسم لوحة للإلهة عشتار. يتحول في ولعه هذا إلى «بغماليون» يقع في حب «غالاتيا» كما هي الحال في مسرحية توفيق الحكيم. يناجيها ويطارحها الغرام بعد أن قارب أن ينفخ فيها الروح، تكاد تنطلق من فمه الولهان عبارة «انطق!» المنقولة عن مايكل أنغلو وهو يضرب تمثال موسى بمطرقته.

تحاور المؤلفة نفسها في إحدى القصص، وتشعر بالغربة حتى من اسمها. وبحس فلسفي ظاهر تتصارع الـ«أنا» فيها، وتتناقض مع ذاتها، وتنفصل رغباتها عنها، وتجهد كي تليق باسمها، وأن تكون أفضل من أَنَاهَا.

المجاز في اللغة هو التجاوز والتعدّي. وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح، بقرينة... أي إن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي، بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي. المجاز العقلي هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له؛ لعلاقة بينهما. ومجاز دارين يحقق التجاوز والتعدي في اللغة والعقل، ويتجاوز «البيانو»، ليتسلل إلى مختلف الأحداث والشخوص والجمادات في القصص الأخرى الممتدة بين العتمة الزرقاء والأبيض والأسود.

تبدو لنا دارين زكريا خلال مجموعتها ناقدة اجتماعية فنية مرهفة الحسّ، يقظة المشاعر، تصرخ بسخرية بارعة كسخرية الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه في وجه كل قبيح، لكي تنشد الجمال كما تراه هي وتعرضه أمام القارئ. نظرة دارين تختلف عن نظرة الـ«ميدوزا» في الأساطير اليونانية القديمة؛ لأن نظرتها تستقرئ الحياة في الجمادات، بدلاً من أن تحول الحياة إلى حجر. ويمكن أن نقول إنها في سردها القصصي «تؤنسن الأشياء الجامدة».

صدرت مجموعة «مجاز البيانو» عن «دار صفحات للدراسات والنشر» في دمشق، وجاءت في 174 صفحة من الحجم المتوسط. ولوحة الغلاف للفنان جهاد حنون.


مقالات ذات صلة

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

كتب أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

يطرح الكاتب المصري مينا ناجي سؤالاً مركزياً هو: «كيف نحب في حياة صعبة كهذه؟»، ليتأمل في ظواهر الحب والروحانيات والتاريخ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب رحلة البحث عن أمل ضائع

رحلة البحث عن أمل ضائع

في وقت مضى، ليس بعيداً، كتبتُ مقالة بعنوان «زمن الرواية الليبية» نشرت في موقع صحيفة «بوابة الوسط».

جمعة بوكليب
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «الختم السابع»

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

يناقش كتاب «الحبكة المقدسة»، الصادر عن دار «إيبيدي» بالقاهرة، للباحث أسعد سليم، تناول الشاشة الفضية للموضوعات ذات البعد الديني الأخلاقي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة

حُلي نسائية جنائزية من جبل البُحَيْص

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في دولة الإمارات المتّحدة خلال العقود الأخيرة عن سلسلة من المدافن الأثرية

محمود الزيباوي

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

مشهد من فيلم «الختم السابع»
مشهد من فيلم «الختم السابع»
TT

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

مشهد من فيلم «الختم السابع»
مشهد من فيلم «الختم السابع»

يناقش كتاب «الحبكة المقدسة»، الصادر عن دار «إيبيدي» بالقاهرة، للباحث أسعد سليم، تناول الشاشة الفضية للموضوعات ذات البعد الديني الأخلاقي، وما أثارته عبر تاريخها وما تخلل ذلك من توافق وتناغم، أو خلاف وتباعد بين صناع هذا الفن وبعض المؤسسات أو الجهات ذات الخلفية الروحانية.

في ثلاثينات القرن الماضي، تأسست في الولايات المتحدة جماعة تحمل اسم «فيلق الحشمة» كان هدفها كما هو معلَن «مكافحة الفجور في السينما» وفق معايير أخلاقية متشددة ترى أن «هوليوود هي أقرب شيء للجحيم على الأرض، بل هي ما تمكَّن الشيطانُ حتى الآن من إقامته في هذا العالَم، كما أن نفوذها يقوِّض الثقافة الأخلاقية».

جاء الصدام الأكبر عبر ويل هاريسون هايز (1879 - 1954) رئيس الرقابة في هوليوود وقتئذٍ، حيث تبنى قانوناً يتضمن مجموعة من التعليمات الصارمة للرقابة الأخلاقية تلغي أي حرية لدى صناع الفن في تناول أي عمل له طابع ديني، رغم أن تلك النوعية من الأفلام التي سبق تقديمها بالفعل كانت تتوافق مع الرؤية الدينية للمؤسسات الرسمية، كما في فيلم «حياة موسى» للمخرج ستيوارت بلاكتون، إنتاج 1909، والمكون من 5 أجزاء.

ورغم أن فيلم «من المهد إلى الصليب» تم تصويره في فلسطين وظهر للنور عام 1912، فإنه واجه اعتراضات بسبب الاعتراض على تجسيد الشخصيات الدينية على الشاشة. وتركت الأزمة الاقتصادية الشهيرة المعروفة باسم «الكساد الكبير» (1929 - 1939) الملايين حوْلَ العالَم في حالة من اليأس والإحباط، وهو ما جعَل القصص الروحانية التي تدعو للأمل والخلاص تبدو فكرة جذَّابة وملهِمة، ينتظرها الناس بشغف.

يوضح الكتاب أن السينما لمْ تتوَانَ عن اقتناص الفرصة؛ حيث قامت بإنتاج ملاحِمَ دينيةٍ ضخمة، بمؤثِّرات بصرية مقبولة، كما برَز اسم المخرِج سيسيل ب. ديميل واحداً من زعماء تلك الفترة، من خلال فيلمه الصامت «الوصايا العَشْر» (1923) الذي كان بمثابة الشرارة الأولى نحو إنتاج أعمال ملحمية مبهِرة، حيث استخدم ديميل تقنيات مبتكَرةً، مثل اللقطات الملوَّنة يدويّاً لتصوير شَقِّ البحر الأحمر، مما جعَل الجماهير تنظُر للفيلم كأعجوبة بصرية.

وتقدَّمت هوليوود خطوة للأمام، بمحاولة تقديمها أفلاماً دينية ذات طابع إنساني جماهيري، مثل فيلم «المراعي الخضراء»، 1936، الذي كان جميع أفراد طاقم التمثيل فيه من أصحاب البشرة السمراء. أما أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) فكان لزاماً على السينما أن تكون أداة لرفْع الروح المعنوية، وبالفعل حاولت ذلك في فيلم «أغنية برناديت»، الذي يحكي قصة فتاة تُدعَى «برناديت»، تنتابها رؤى غامضة ذات بعد روحاني وهو ما مثَّل رسالة أمَلٍ، في وقتٍ كانت فيه أوروبا تعاني من الدمار.

ووصَلَت الملاحِم الدينية لذروتها مع فيلم «بن هور» (1959) الذي حصَد إحدى عشرة جائزة أوسكار، وتناوَل اضطهاد المسيحيين في روما القديمة، مستخدِماً مَشاهدَ هائلة لسباق العربات؛ لجذْب الجماهير، في خطوة جديدة تجمع بين الإبهار البصري والرسائل الروحية.

وتحت ضغط التغييرات الجذرية التي شهدتها حقبة الستينيات من ثورات ثقافية اجتماعية وحركات التحرر، طرحت السينما الغربية رؤى مختلفة وجديدة في معالجة الموضوعات ذات البعد الديني التاريخي. مهّد المخرِج السويدى إنغمار برغمان لهذا التحوُّلَ بأفلام من نوعية «الختم السابع» الذي يصوِّر رحلة فارس عائد من الحروب الصليبية في العصور الوسطَى، يواجِه ملاكَ الموت في لعبة الشطرنج، وسط وباء الطاعون القاتل. وقدَّم المخرِج رومان بولانسكي فيلمَه الشهيرَ «طفل روزماري» 1968، الذي اتَّخذ الشيطانَ تهديداً قوياً في قلب مدينة نيويورك، معتمِداً على إثارة أجواء من الرعب والقلَق عن طريق استخدام الطقوس المخيفة.

طرحت السينما الغربيةرؤى مختلفة وجديدة في معالجة الموضوعات ذات البعد الديني التاريخي

يذكر المؤلف أنه من العلامات المهمة في هذا السياق، ما قدمه المخرِج وليام فريدكين في فيلمه الشهير «طارد الأرواح» (1973)، الذي يحكي عن معركة مثيرة بين عدد من رجال الدين وروح شريرة تسيطر على فتاة صغيرة، مستخدِماً تقنيات بصرية حديثة، ومؤثِّرات صوتية، بالغة الدِّقة؛ لِبَثِّ الرعب في نفوس المُشاهدين. كما اقتبس المخرِج كين راسل أحداث فيلمه «الشياطين» (1971) من أحداث تاريخية دارت في فرنسا في القرن السابع عشر، الذي صوَّر اضطهاد رجل دين بتُهمة السِّحر وسط صراعات سياسية، مقدِّماً مَشاهد صادمة، وهو ما جعله محظوراً من العرض في بعض الدول، لكنه أظهَر صلابة السينما، وإمكانية تَحَدِّيها للمؤسسات الرسمية. وقدم المخرِج ستانلي كوبريك في عام 1986 مفهومَ التطور والذكاء الاصطناعى في فيلمه الشهير «أوديسا الفضاء 2001» باعتباره صاحب قدرات تفوق البشر على نحو خارق حتى أن البعض فكر في عبادته، مما جعل هذا العمل يعد نقطة تطوُّر جوهرية في مسار سينما الخيال العِلمي، وطريقة محاكاتها للرموز المقدسة.

ومع دخول التسعينيات، أصبح العالَم يمُوج على سطْح هائل من المعرفة والتكنولوجيا، امتازت تلك الفترة بسهولة الحصول على المعلومات وسيولتها، وهو ما حاوَلَت السينما عكسه في أفلامها، ومنها الفيلم الشهير «ماتريكس» (1999) الذي جمَع بين العديد من المفاهيم ذات الطابع المقدس في حبكة تجمع بين الإيقاع البوليسي والرؤية الوجودية القاتمة.

وبدا فيلم «آلام المسيح» (2004) لميل غيبسون مغرقاً في الأجواء الواقعية المثيرة للحزن والتعاطف نظراً للبراعة في تجسيد عذاباتِ السيد المسيح، بحسب ما يعتقد المسيحيون، بينما أشار المخرِج أنغ لي في فيلمه «حياة باي» (2012) إلى مفاهيم إيمانية روحانية مؤثرة عبر مَشاهد بصرية مذهِلة.