الموت حبّاً... والصفع عشقاً!

هل سرق ماكرون وزوجته قصة حبهما من رواية بيار دوشين؟

الموت حبّاً... والصفع عشقاً!
TT

الموت حبّاً... والصفع عشقاً!

الموت حبّاً... والصفع عشقاً!

ما أثير مؤخراً حول صفعة بريجيت ماكرون، التي قيل إنها وجّهتها إلى زوجها الرئيس إيمانويل، جعلني أتذكّر ما قرأته بداية الثمانينات الميلادية في رواية «الموت حبّاً» لبيار دوشين، التي صدرت ترجمتها إلى العربية من دار الآداب اللبنانية، حيث تماثل بطلاها وقصة حب بريجيت وماكرون بعد ذلك بسنوات. فبريجيت من عائلة ثرية تخصّصت في صناعة الشوكولاته، وقد تزوجت من رجل أعمال يدعى أندريه لويس أوزيير، وأنجبت منه ابناً وبنتين؛ إذ عملت بإجازتها في البكالوريوس مدرسةً للغة الفرنسية وأدبها في مدرسة «راهبات القلب المقدس»، وكان من طلابها إيمانويل ماكرون، الذي درس في هذه المدرسة مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وكانت إحدى بنات بريجيت زميلة له. إلا أن أمها رَقّ قلبها لطالبها الوسيم في المرحلة الثانوية، واصفةً إياه بالعبقري الصغير، وهو يؤدي تحت إشرافها دوراً في مسرحية من رواية لميلان كونديرا الفرنسي من أصل تشيكي. ورغم ممانعة عائلة ماكرون الزواج من مدرّسته، فإنه - وقد تعشّقها - تعهّد لها بالزواج، وهذا ما حدث بعد تطليقها من زوجها سنة 2010.

يا ترى، هل كان العاشقان قد قرآ رواية «الموت حبّاً» التي تحولت إلى فيلم سينمائي في أعقاب الحركة الطلابية الشهيرة في باريس سنة 1968؟

فرواية بيار دوشين تحكي قصة دانيال، المدرسة ذات العمر الثلاثيني في الليسيه، التي دقّ نبض قلبها صوب تلميذها جيرار ذي السابعة عشرة سنة، حبّاً حاول جرف المواضعات الاجتماعية السائدة. إلا أن والد الشاب، رغم أنه من المنضوين تحت حركة الطلاب تلك، فإنه رفض، ومعه نخبة المجتمع الباريسي، هذه العلاقة غير المتكافئة بين المدرسة والتلميذ، محاولاً درءها مستعيناً بسياسيين وقضاة ورجال أمن وعلماء نفس، لإعادة العاشقين إلى رُشدِهما، متهمين دانيال باستغلال عواطف تلميذها اليافع، وقد اعتُبر طفلاً من وجهة نظر قانونية، وأنّ ما ارتكبته فضيحة اجتماعية مدوّية، فكان الانفصال رغم تشبث المدرّسة بحبّ صغيرها.

كانت الحركة الطلابية بمفاعيلها قد «قطعت» مع زمن الحرب العالمية الثانية بمواريثها الاجتماعية التي اعتُبرت فاسدة، والثقافية التي وُصمت بالبالية، لكونها متأتية من القرن التاسع عشر، مؤذنةً بعصر جديد مبشّر بحرية اجتماعية ثائرة على كل ما هو نمطي، لا في التعليم الجامعي والعلاقات الإنسانية وحدهما، وإنما طالت هذه الحركة وقتذاك - حيث حرب فيتنام - عوالم المفكرين والأدباء والروائيين. وقد مالوا نحو اليسار الماركسي، حيث رفع فلاسفة فرنسا - وفي طليعتهم جان بول سارتر - لواء القطيعة مع ماضي فرنسا ومستقبلها، وكان ميشيل فوكو من الذين نزلوا إلى الشارع، وغيره من أساتذة الفلسفة في جامعة السوربون، مساندين طلبتهم.

أما ناتالي ساروت فغدت ملهمةً لهم، بكتاباتها السياسية والثقافية والأدبية، وقد تطارحتها بوعي جديد لمتغيرات المجتمع الفرنسي، مرتادةً أسلوباً جديداً في الكتابة الروائية، اتّسم بمضادته للتقاليد الفنية، ومُتَشَكِّكاً عبر كتابها «عصر الشك» في القيم الدينية والأخلاقية، متسائلةً: هل الرواية فن؟ وإذا كانت كذلك، أفليس هدفها إحداث هزّة تؤدي إلى تغيير في شعور القارئ، ليكون قادراً على تلقي كل جديد؟ مصممةً على التجديد باستمرار، بصرف النظر عن الاهتمام بالمغزى والحكمة أو أي شيء آخر، فإن ما يميز الرواية الجديدة ليس طموح التقليديين ومقدرتهم على الخيال، وإنما رفض ما نواجه به الواقع في عصرنا الحاضر.

وقد افتتحت جوليا كريستيفا، الناقدة الأدبية الفرنسية من أصل تشيكي، بأطروحاتها اللسانية والتناصية مداولات جديدة في الخطاب النسوي، فهي الأخرى شاركت في مفاعيل الحركة الطلابية الثقافية، ثائرةً على النظام التعليمي. وكذلك تزفيتان تودوروف، الذي تأثّر بمعطيات الحركة في دراساته اللغوية اللسانية، فهو من أطلق أن «الأدب في خطر»، وهذا عنوان أحد كتيباته، مسانداً رولان بارت في دعوته إلى «موت المؤلف»، داعياً إلى وضع إنسانيّ أفضل بعد هيمنة ثالوث (الشكليّة، والعدمية، والأنانية) المستند في فرنسا حينها إلى الرفض، ملمّحاً إلى الحركة الطلابية، التي جعلت الصلة بين الأعمال الفنية والعالم ما هي إلا وهم.

هذا كله أحدث هزّة عنيفة في المجتمع الفرنسي، بل الأوروبي، ترددت آثارها في قضايا التعليم وفلسفة الأخلاق، وتجاوزته إلى هيبة الحكم وشخصية الحاكم... وهذا ما جرى للرئيس (العاشق) فاليري جيسكار ديستان. فرغم محاولات جاك شيراك الديغولي مواصلة أداء تقاليد الجمهورية الخامسة، محاولاً القضاء على معطيات الثورة الطلابية، التي شكّلت تهديداً للمعايير الأخلاقية البرجوازية، فإن ذلك لم يردع زعيماً يمينيّاً من إصدار رواية بعنوان «الأميرة والرئيس»، وما كان الرئيس المتخيّل روائيّاً سوى ديستان نفسه! وهو يسرد في روايته قصة حب متبادلة بين رئيس شبيه بديستان وأميرة بريطانية أسماها باتريسيا، حيث فسّر نقّاد الرواية أنها لم تكن سوى إسقاط لرئيسهم الأسبق على حبه لأميرة متخيلة، اتضح فيما بعد - وهو في أرذل العمر - افتتانه المنبهر بجمال الأميرة الحقيقية ديانا سبنسر!

رواية بيار دوشين تحكي قصة دانيال، المدرسة ذات العمر الثلاثيني في الليسيه، التي دقّ نبض قلبها صوب تلميذها جيرار ذي السابعة عشرة سنة



الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.