قراءة «الفانتازيا» في جامعة الملك سعود ومنح الدكتوراه بجامعة الملك خالد

جوناثان سويفت
جوناثان سويفت
TT

قراءة «الفانتازيا» في جامعة الملك سعود ومنح الدكتوراه بجامعة الملك خالد

جوناثان سويفت
جوناثان سويفت

قضى الصحافي والروائي الأميركي لِف غروسمان سبع عشرة سنة في كتابة القص الأدبي (literary fiction)، نشر خلالها روايتين، قبل أن يكتشف، على حد قوله، أنه روائي فانتازيا. ذكر هذا مُسْتهلاً به مقالةً نُشرت في «ذا نيويورك تايمز» في 2014/8/16. ويمضي كاتباً أنه حتى لحظة ذلك الاكتشاف الذي غيّر مسار مسيرته الإبداعية كان يعتقد أنه سيكتب، عاجلاً أو آجلاً، روايات كالتي يكتبها جوناثان فرانزن وزادي سميث وجومبا لاهيري. بيد أن اكتشاف «فانتازيته» عرّى خطأ اعتقاده.

وفيما يبدو ردّاً على تساؤلات، وربما انتقادات، أثارها تَحَوُّلُه من كتابة الرواية الأدبية إلى رواية الفانتازيا، يوضح غروسمان أن قراءة أدب الفانتازيا منحته شيئاً كان يحتاج إليه؛ شيئاً لم يجده في أي مكان آخر، ولا حتى في القص الأدبي؛ لذا قرر حين أدرك تلك الحقيقة التوقف عن قراءة الفانتازيا والبدء في كتابتها.

كانت تجربته في كتابة الفانتازيا، حسب قوله، عميقة وكثيفة على نحو فاق توقعاته، وكان من أهم آثارها تحرر كتاباته من «قبضة الواقع الجليدية... فاندفع سيل من السحر». ويصف غروسمان الواقع بأنه جامد، لا يعبأ بحياة الفرد الداخلية وبما يعتمل في داخله من رغبات وعواطف... لكن الأمر يختلف تماماً في عالم الفانتازيا؛ إذ يمكن لمشاعر المرء أن تظهر. فعندما يلقي تعويذة سحرية، فإنه يوظف رغباته وعواطفه في تغيير الواقع، يعيد تشكيل العالم الخارجي ليبدو مشابهاً لعالمه الداخلي. وإذا كان ثمة شياطين تقيم في عقله الباطن، فإنها في عالم الفانتازيا تستطيع الخروج، حيث يستطيع التعامل معها وجهاً لوجه.

ويضيف أنه يشعر أثناء كتابة الفانتازيا بالتواصل مع تقليد أدبي قديم، يعود إلى ما قبل ظهور الرواية، وقبل جيمس جويس وفرجينيا وولف وإرنست هيمنغوي؛ تقليد يعود إلى شكسبير ودانتي وميلتون وهوميروس؛ أولئك الكُتّاب الذين يقول عنهم إنهم «تاجروا بالسحرة والجنيات والأشباح والوحوش»، ثم يتساءل: لماذا لا ينبغي أن يفعل مثلهم؟ كنت أتوقع - أو هل أقول وددت؟ - وأنا أقرأ كلامه أن يضيف الروائي الأنجلوآيرلندي جوناثان سويفت إلى أسمائهم؛ فالأخير إليه أقرب زمنياً وإبداعياً.

قراءة الفانتازيا في الرياض

الزمان: فصل دراسي مبكر في المرحلة الجامعية. المكان قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب في جامعة الرياض/ الملك سعود، حيث كان لي في كورس «نشأة فن الرواية»، أو كورس «الرواية في القرن الثامن عشر»، المواجهة الأولى مع النص المؤسس لنوع «جنرا/ genre» الرواية الفانتازية في الأدب الإنجليزي: «رحلات غَليفر، 1726» لجوناثان سويفت؛ واحدة من بواكير الروايات الإنجليزية، صدرت بعد رواية «روبنسون كروزو» بسبع سنوات. بيد أن استكشاف فانتازيتها، أو بتعبير أدق، قراءتها ومناقشتها كنص فانتازي وأشياء أخرى، لم يكن ذلك في الرياض، بل في فضاء دراسي آخر، اتسع وانفتح فيه النقاش على تعددية انتماءاتها وتعالقاتها الأجناسية، وعلى إمكانية إدخالها في بعض خانات التصنيف الأجناسي لـــ«القص الشعبي/ popular fiction».

لـ«رحلات غليفر» وجوه أجناسية عدة: فهي رواية فانتازيا، وخيال علمي، ومغامرات، وباروديا/ محاكاة تهكمية لأدب الرحلات، وأدب أطفال، بالإضافة إلى كونها سخريةً وهجاءً سياسياً، التصنيف الذي اشتهرت به، ووظّفه البعض في حجب العناصر الفانتازية و«المزيج الأجناسي» فيها لكيلا يغلب «الشعبي» على «الأدبي»، أو يحط من شأنه. وهو ما لم يحدث؛ فهي واحدة من الروايات الرائدة والمهمة التي أسهمت في ظهور الرواية الإنجليزية.

حكاية الرواج والنفاد السريع

حدث لـ«رحلات غليفر» بعد نزولها في الأسواق مباشرةً ما لم يتوقعه مؤلفها ولا ناشرها: نفاد طبعتها الأولى خلال فترة قصيرة جداً بعد صدورها، كما طُبِعت عدة مرات خلال أشهر قليلة. يبدو أن «رحلات غليفر» لم تكن من أكثر الروايات مبيعاً فحسب، بل الأسرع مبيعاً أيضاً. من هذه اللحظة في الألفية الثالثة يمكن القول إنه كان لمزيج/ مركب القص الشعبي فيها إسهام كبير في رواجها ونفاد طبعاتها السريع على نحو غير مسبوق كما يبدو، قياساً على ما تحققه الكثير من الروايات الشعبية المعاصرة من رواج وتصدر لقوائم أكثر الكتب مبيعاً. لكن الشيء الأهم فيها من منظور هذه المقالة هو كونها النموذج الأولي لرواية الفانتازيا (proto fantasy) الذي تطور منه ما صدر بعدها من روايات فانتازية في الأدب الإنجليزي. يقول برايان ستيبلفورد في دليل «The A to Z in Fantasy Literature, 2009» إن رواية سويفت «تشكل سابقة مهمة للفانتازيا الساخرة الإنجليزية». الحقيقة أنها سابقة لكل الروايات الفانتازية الساخرة وغير الساخرة. فإذا كان الكتّاب الروس خرجوا من معطف غوغول، فإنه بالإمكان القول إن كل كتّاب الفانتازيا البريطانيين والأميركان خرجوا ويخرجون من «رحلات غليفر».

نموذج أولي للعالم البديل

باستثناء اليابان، المكان الحقيقي الوحيد في الرواية الذي يزوره لِمويل غليفر في الكتاب الثالث، تقع أحداث الرواية في أربع جزر خرجت بسكانها من خيال سويفت، كما خرجت الإلهة أثينا كاملة النمو من جبهة أبيها زيوس في الأسطورة الإغريقية؛ فلا وجود على خريطة العالم للجزر التي قذفت أمواج البحر غليفر على شواطئها أو زارها: جزيرة «ليليبَتْ» بسكانها الأقزام الذين لا يتجاوز طول الواحد منهم 6 بوصات، و«بروبدينغناغ» أرض العمالقة، و«لابوتا» الجزيرة الطائرة، وجزيرة «الهُوينميين» (Houyhnhnms)؛ الخيول الناطقة الذكية والعقلانية مقارنة بالجنس البشري «الياهويين» (Yahoos).

وكما تشكل «رحلات غليفر» النموذج الأولي للرواية الفانتازية في الأدب الإنجليزي؛ تشكل الجزر الأربع بدورها النموذج الأولي (prototype) لما تسمى العوالم الثانوية أو البديلة في الروايات الفانتازية مثل: «الأرض الوسطى/ Middle-Earth» في ثلاثية «سيد الخواتم» للإنجليزي جون رونالد تولكين، و«نارنيا/ Narnia» في سلسلة روايات «سجلات نارنيا» للإنجليزي سي. إس لويس، و«إيرثسي/ Earthsea» في السلسلة الفانتازية للأميركية أورسولا ك. لي غوين. إن عالم روايات لي غوين الثانوي نسخة كبيرة من عالم رحلات غليفر؛ بحر وأرخبيل من مئات الجزر.

توظيف الفانتازي

لا ينحصر تأثير سويفت في تقديم نموذج أولي لعوالمهم الثانوية الفانتازية، بل كان المثال في توظيف عناصر الفانتازيا في هجاء وانتقاد المجتمع الإنجليزي خاصة، والمجتمعات الأوروبية عامةً عبر تمثيل طيف من المواضيع والقضايا السياسية والاجتماعية مثل: تفشي الفساد وانتشاره في الحكومة الإنجليزية، وتغليب السياسيين للمصالح والمكاسب الذاتية على المصلحة العامة، وغياب المساواة الاجتماعية، ووحشية وعبثية الصراعات والحروب المستمرة بين إنجلترا وفرنسا، واللاعقلانية المتمثلة في الياهويين في جزيرة الهُوينميين.

يعيدني هذا إلى قول غروسمان إن الفانتازيا ليست هروباً من الواقع، إنما إعادة مواجهة لتحديات العالم الحقيقي - العالم الأساسي بلغة تولكين - بتحويلها ونقلها إلى عوالمها الثانوية، فتحيل بشكل غير مباشر على العالم الأساسي المرجعي بمعالجة قضايا مثل: فساد السلطة ونقد الرأسمالية والزينوفوبيا «سيد الخواتم»، ونقد السلطوية والفاشية «هاري بوتر»، ومساءلة الأدوار المحددة جندرياً وثقافياً وتأثير الاستعمار في روايات غوين.

العودة إلى الرياض

وأعود إلى الرياض حيث كانت التجربة الأولى في قراءة رواية الفانتازيا، وحيث أُشْرِعت، حديثاً، بوابةٌ واسعة هي «جائزة القلم الذهبي» تدخل خلالها، وبمباركة وغطاء رسميين، رواية الفانتازيا وأخواتها من روايات القص الشعبي. في الأمس القريب (16 مايو/ أيار 2025) وقعت لينة الشعلان روايتها (أخابيط، 2025)، من نوع الخيال العلمي، في «ديوانية القلم الذهبي»، وسيوقع آخرون بعدها روايات من ذات النوع، وغيره. حدث عادي لا يثير الاستغراب، وستتوالى الفعاليات والجلسات مختلفة ومتعددة المواضيع. المشهد الثقافي يحتاج إلى الانفتاح الفعلي على تعددية الآراء والأفكار والنظريات والاتجاهات النقدية، والخيارات الإبداعية والقرائية، ولا يحتاج إلى الآراء والمواقف الإقصائية والوصايات، والخلافات والمعارك التي لا طائل من ورائها. قبل «اندلاع» الخلاف حول روايات أسامة المسلم، شهدت جامعة الملك خالد (في 20/4/1446 هـــ) مناقشة رسالة الدكتوراه «العجائبي في روايات أسامة المسلم»، للطالبة أماني بنت محسن بن أحمد. ربما ينبئ هذا برسائل أخرى قادمة، وبأبحاث ودراسات لأساتذة أكاديميين عن الفانتازيا وكل أنواع القص الشعبي، مثل كتابَي «سياسة هاري بوتر، 2012» و«السياسة الثقافية في هاري بوتر... الحياة، والموت، وسياسة الخوف، 2019» لأستاذة العلوم السياسية في جامعة روزفلت في شيكاغو بثاني بارات، أو على الأقل كمقالتَي الموسوعي هارولد بلوم عن رواية الخيال العلمي «اليد اليسرى للظلام» لأورسولا ك. لي غوين. لكن الكتاب الذي تمنيت أن يتسع الحيز لكتابة ولو جملٍ قليلةٍ عنه، هو كتاب روزماري جاكسون «الفانتازيا... أدب التقويض، 2002».

وربما ينفتح معتمد (canon) المنهج الأدبي الجامعي في الجامعات المحلية أمام القص الشعبي.

* كاتب وناقد سعودي


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.