شاهدان جنائزيان من البحرين

يرافقان رحلة ما بعد الحياة

شاهدان جنائزيان من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين
شاهدان جنائزيان من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين
TT

شاهدان جنائزيان من البحرين

شاهدان جنائزيان من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين
شاهدان جنائزيان من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين

ازدهر فن النحت الجنائزي بشكل كبير في جزيرة البحرين خلال القرون الميلادية الأولى، كما تؤكّد شواهد القبور العديدة التي خرجت في العقود الأخيرة من سلسلة من المدافن الأثرية التي تقع في شمال العاصمة المنامة. يتبع هذا النحت بشكل عام طرازاً جامعاً يتمثّل في ظهور صاحب الشاهد بشكل منفرد في وضعية المواجهة، ولا يخرج عن هذا النسق المفرد إلا في حالات نادرة، كما نرى في شاهدين يجمع كل منهما بين شخصين يحضران جنباً إلى جنب، رافعين أيديهما نحو الصدر في حركة واحدة ثابتة.

عُرض هذا الشاهدان معاً على منصّة واحدة في معرض أُقيم عام 2012 في متحف البحرين الوطني، وضمّ قرابة 400 قطعة مصدرها المقابر البحرينية. جاء هذا المعرض تحت عنوان «تايلوس... رحلة ما بعد الحياة»، وتايلوس هو الاسم الهلنستي الذي عُرفت به جزيرة البحرين في الفترة الممتدة بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثالث للميلاد، وفيها ازدهرت حركة التجارة، ونما اقتصاد هذه الجزيرة بشكل كبير، كما تؤكّد المكتشفات الأثرية المتعدّدة الأنواع التي تعود إلى تلك الحقبة. يتشابه هذان الشاهدان من حيث التأليف الجامع، ويختلفان من حيث التفاصيل الخاصة بتكوين كلّ منهما، ومصدرهما مقبرة تحمل اسم قرية الشاخورة التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

حافظ أحد الشاهدين على معالمه، بخلاف الآخر الذي بدا وكأنه غير مكتمل، نظراً لذوبان الكثير من تفاصيله في الكتلة الحجرية التي شكّلت أساساً له. القطعتان متقابلتان من حيث الحجم، غير أن الشاهد الأول يبدو أكبر بشكل طفيف، وفيه يحضر رجلان تحت قوس يرتفع فوق عمودين، وفقاً لتقليد يوناني كلاسيكي يُعرف في قاموس الفنون باسم «قوس المجد». القوس منجز بشكل متقشّف وبسيط، وكذلك العمودان المجرّدان من أي زينة زخرفية. يشكّل هذان العمودان أساساً لإطار بيضاوي بسيط يضمّ رجلين ملتحيين يقفان في صورة نصفيّة تمثل الجزء الأعلى من قامة الجسد. تحضر هذه الصورة النصفية في وضعية واحدة، وفقاً لطراز يتكرّر في عدد كبير من الشواهد المفردة التي خرجت من مدافن البحرين الأثرية.

الوجه واحد، وهو أشبه بكتلة بيضاوية تتوسّطها عينان لوزيتان ضخمتان، يعلوهما حاجبان عريضان. الأنف قصير وناتئ، وهو على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة من التفاصيل. الأذنان كبيرتان ومقوّستان. العنق صغير وشبه غائب، والصدر كتلة مسطّحة تحدها في الأعلى كتفان تمتدان أفقياً. مفاصل الجسد غائبة تماماً تحت لباس بسيط قوامه ثوب من قطعة واحدة، يعلوه حزام عريض معقود حول الوسط، وقطعة قماش تتدلّى أفقياً على الكتف اليسرى. الذراعان متلاصقتان بالصدر. اليد اليمنى مرفوعة عمودياً في اتجاه الصدر، وراحتها منبسطة، وتحدّها خمس أصابع متلاصقة متساوية في الحجم. اليد اليسرى مرفوعة أفقياً، وهي مجسّمة في أسلوب مماثل، وتحدّها أربع أصابع تمسك بالقماشة المتدلية على الكتف. يتبنّى هذا الشاهد نموذجاً تقليدياً معروفاً، ويتميّز بظهور شخصين متجاورين في شاهد جنائزي واحد يجمع بينهما. يُعرف هذا النموذج بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وهو من النماذج التي انتشرت انتشاراً واسعاً في بقاع متفرّقة خلال القرون الميلادية الأولى، ومنها البحرين، كما تؤكّد القطع الأثرية العديدة التي تتبناه.

الشاهد الثاني مشابه، وملامحه ممحوة بشكل كبير للأسف، ويتمثّل في كتلة فقدت إطارها. تجمع هذه الكتلة بين رجلين متجاورين، يحضر كل منهما تحت قوس مجد صغير خاص به. الطراز الغالب فرثي كما يبدو، بالرغم من غياب القماشة المتدلية تقليدياً على الكتف اليسرى. اليد اليمنى مبسوطة عند أعلى الصدر، وملامحها ذائبة في الكتلة الحجرية. اليد اليسرى ممتدة أفقياً، وتمسك بكتلة دائرية تظهر جلياً في صورة القامة المنتصبة في الجهة اليسرى. هذه الكتلة معروفة في الفن الجنائزي الكلاسيكي، وهي أشبه بكرة صغيرة يحملها عادة أشخاص صغار في السن، وهي من الرموز الفردوسية المعتمدة في هذا التقليد الجنائزي، مثل الطير وعنقود العنب. والغريب أن هذه الكرة تظهر في البحرين استثنائياً وسط أصابع يد رجل ملتحٍ، وهويّة هذا الرجل مجهولة، نظراً إلى غياب أي كتابة تعرّف به.

في تدمر، كما في نواحٍ متعدّدة من الشرق الهلنستي، تحضر الشواهد الجنائزية المفردة إلى جانب شواهد جماعية متعدّدة. ويبرز في هذا الميدان نموذج يُعرف باسم السرير الجنائزي، وهو على شكل منحوتة جماعية تمثل صاحب المدفن وأفراد أسرته، في وليمة رمزية تحضر في قلب المدفن، وهو بحسب التعبير المعتمد في تدمر، «بيت الأبدية». في هذا التقليد، عُرف شاهد القبر المنحوت باسم «نفشا»، أي «نَفَس»، وحمل اسم الميت وتاريخ وفاته، إضافة إلى عبارة «هبل» أي «وا أسفاه».

في البحرين، يغيب السرير الجنائزي، وتتكرّر الشواهد المنحوتة الفردية بشكل طاغٍ كما يبدو. يحضر في هذا النتاج المحلي المميّز شاهدان يجمع كلّ منهما رجلين، هما على الأرجح شقيقان أو قريبان، كما جرت العادة في العالم الهلنستي. يتبع هذان الشاهدان النسق الذي شاع في البحرين، ويتميّزان بحضور شخصين على كلّ منهما، بخلاف التقليد المفرد الشائع كما يبدو.


مقالات ذات صلة

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

كتب أغلفة بعض روايات فريدا ماكفادن

ما سر الإقبال على روايات الطبيبة المتخفية وراء اسم مستعار؟

هل يعني تصدر قوائم «البيست سيلر» بالضرورة أننا أمام عمل أدبي يزخر بالعمق الفني، والجمال اللغوي، والأصالة الفكرية؟

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

«ليس عزاءً بل ضوءاً»... استعادة فلسفة سيمون فاي

يطرح الكاتب المصري مينا ناجي سؤالاً مركزياً هو: «كيف نحب في حياة صعبة كهذه؟»، ليتأمل في ظواهر الحب والروحانيات والتاريخ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب رحلة البحث عن أمل ضائع

رحلة البحث عن أمل ضائع

في وقت مضى، ليس بعيداً، كتبتُ مقالة بعنوان «زمن الرواية الليبية» نشرت في موقع صحيفة «بوابة الوسط».

جمعة بوكليب
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «الختم السابع»

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

يناقش كتاب «الحبكة المقدسة»، الصادر عن دار «إيبيدي» بالقاهرة، للباحث أسعد سليم، تناول الشاشة الفضية للموضوعات ذات البعد الديني الأخلاقي

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون حلل أنثوية مصدرها قبرين من مدفن جبل البُحَيْص في إمارة الشارقة

حُلي نسائية جنائزية من جبل البُحَيْص

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في دولة الإمارات المتّحدة خلال العقود الأخيرة عن سلسلة من المدافن الأثرية

محمود الزيباوي

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

مشهد من فيلم «الختم السابع»
مشهد من فيلم «الختم السابع»
TT

«الحبكة المقدسة»... السينما والثقافة الأخلاقية

مشهد من فيلم «الختم السابع»
مشهد من فيلم «الختم السابع»

يناقش كتاب «الحبكة المقدسة»، الصادر عن دار «إيبيدي» بالقاهرة، للباحث أسعد سليم، تناول الشاشة الفضية للموضوعات ذات البعد الديني الأخلاقي، وما أثارته عبر تاريخها وما تخلل ذلك من توافق وتناغم، أو خلاف وتباعد بين صناع هذا الفن وبعض المؤسسات أو الجهات ذات الخلفية الروحانية.

في ثلاثينات القرن الماضي، تأسست في الولايات المتحدة جماعة تحمل اسم «فيلق الحشمة» كان هدفها كما هو معلَن «مكافحة الفجور في السينما» وفق معايير أخلاقية متشددة ترى أن «هوليوود هي أقرب شيء للجحيم على الأرض، بل هي ما تمكَّن الشيطانُ حتى الآن من إقامته في هذا العالَم، كما أن نفوذها يقوِّض الثقافة الأخلاقية».

جاء الصدام الأكبر عبر ويل هاريسون هايز (1879 - 1954) رئيس الرقابة في هوليوود وقتئذٍ، حيث تبنى قانوناً يتضمن مجموعة من التعليمات الصارمة للرقابة الأخلاقية تلغي أي حرية لدى صناع الفن في تناول أي عمل له طابع ديني، رغم أن تلك النوعية من الأفلام التي سبق تقديمها بالفعل كانت تتوافق مع الرؤية الدينية للمؤسسات الرسمية، كما في فيلم «حياة موسى» للمخرج ستيوارت بلاكتون، إنتاج 1909، والمكون من 5 أجزاء.

ورغم أن فيلم «من المهد إلى الصليب» تم تصويره في فلسطين وظهر للنور عام 1912، فإنه واجه اعتراضات بسبب الاعتراض على تجسيد الشخصيات الدينية على الشاشة. وتركت الأزمة الاقتصادية الشهيرة المعروفة باسم «الكساد الكبير» (1929 - 1939) الملايين حوْلَ العالَم في حالة من اليأس والإحباط، وهو ما جعَل القصص الروحانية التي تدعو للأمل والخلاص تبدو فكرة جذَّابة وملهِمة، ينتظرها الناس بشغف.

يوضح الكتاب أن السينما لمْ تتوَانَ عن اقتناص الفرصة؛ حيث قامت بإنتاج ملاحِمَ دينيةٍ ضخمة، بمؤثِّرات بصرية مقبولة، كما برَز اسم المخرِج سيسيل ب. ديميل واحداً من زعماء تلك الفترة، من خلال فيلمه الصامت «الوصايا العَشْر» (1923) الذي كان بمثابة الشرارة الأولى نحو إنتاج أعمال ملحمية مبهِرة، حيث استخدم ديميل تقنيات مبتكَرةً، مثل اللقطات الملوَّنة يدويّاً لتصوير شَقِّ البحر الأحمر، مما جعَل الجماهير تنظُر للفيلم كأعجوبة بصرية.

وتقدَّمت هوليوود خطوة للأمام، بمحاولة تقديمها أفلاماً دينية ذات طابع إنساني جماهيري، مثل فيلم «المراعي الخضراء»، 1936، الذي كان جميع أفراد طاقم التمثيل فيه من أصحاب البشرة السمراء. أما أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) فكان لزاماً على السينما أن تكون أداة لرفْع الروح المعنوية، وبالفعل حاولت ذلك في فيلم «أغنية برناديت»، الذي يحكي قصة فتاة تُدعَى «برناديت»، تنتابها رؤى غامضة ذات بعد روحاني وهو ما مثَّل رسالة أمَلٍ، في وقتٍ كانت فيه أوروبا تعاني من الدمار.

ووصَلَت الملاحِم الدينية لذروتها مع فيلم «بن هور» (1959) الذي حصَد إحدى عشرة جائزة أوسكار، وتناوَل اضطهاد المسيحيين في روما القديمة، مستخدِماً مَشاهدَ هائلة لسباق العربات؛ لجذْب الجماهير، في خطوة جديدة تجمع بين الإبهار البصري والرسائل الروحية.

وتحت ضغط التغييرات الجذرية التي شهدتها حقبة الستينيات من ثورات ثقافية اجتماعية وحركات التحرر، طرحت السينما الغربية رؤى مختلفة وجديدة في معالجة الموضوعات ذات البعد الديني التاريخي. مهّد المخرِج السويدى إنغمار برغمان لهذا التحوُّلَ بأفلام من نوعية «الختم السابع» الذي يصوِّر رحلة فارس عائد من الحروب الصليبية في العصور الوسطَى، يواجِه ملاكَ الموت في لعبة الشطرنج، وسط وباء الطاعون القاتل. وقدَّم المخرِج رومان بولانسكي فيلمَه الشهيرَ «طفل روزماري» 1968، الذي اتَّخذ الشيطانَ تهديداً قوياً في قلب مدينة نيويورك، معتمِداً على إثارة أجواء من الرعب والقلَق عن طريق استخدام الطقوس المخيفة.

طرحت السينما الغربيةرؤى مختلفة وجديدة في معالجة الموضوعات ذات البعد الديني التاريخي

يذكر المؤلف أنه من العلامات المهمة في هذا السياق، ما قدمه المخرِج وليام فريدكين في فيلمه الشهير «طارد الأرواح» (1973)، الذي يحكي عن معركة مثيرة بين عدد من رجال الدين وروح شريرة تسيطر على فتاة صغيرة، مستخدِماً تقنيات بصرية حديثة، ومؤثِّرات صوتية، بالغة الدِّقة؛ لِبَثِّ الرعب في نفوس المُشاهدين. كما اقتبس المخرِج كين راسل أحداث فيلمه «الشياطين» (1971) من أحداث تاريخية دارت في فرنسا في القرن السابع عشر، الذي صوَّر اضطهاد رجل دين بتُهمة السِّحر وسط صراعات سياسية، مقدِّماً مَشاهد صادمة، وهو ما جعله محظوراً من العرض في بعض الدول، لكنه أظهَر صلابة السينما، وإمكانية تَحَدِّيها للمؤسسات الرسمية. وقدم المخرِج ستانلي كوبريك في عام 1986 مفهومَ التطور والذكاء الاصطناعى في فيلمه الشهير «أوديسا الفضاء 2001» باعتباره صاحب قدرات تفوق البشر على نحو خارق حتى أن البعض فكر في عبادته، مما جعل هذا العمل يعد نقطة تطوُّر جوهرية في مسار سينما الخيال العِلمي، وطريقة محاكاتها للرموز المقدسة.

ومع دخول التسعينيات، أصبح العالَم يمُوج على سطْح هائل من المعرفة والتكنولوجيا، امتازت تلك الفترة بسهولة الحصول على المعلومات وسيولتها، وهو ما حاوَلَت السينما عكسه في أفلامها، ومنها الفيلم الشهير «ماتريكس» (1999) الذي جمَع بين العديد من المفاهيم ذات الطابع المقدس في حبكة تجمع بين الإيقاع البوليسي والرؤية الوجودية القاتمة.

وبدا فيلم «آلام المسيح» (2004) لميل غيبسون مغرقاً في الأجواء الواقعية المثيرة للحزن والتعاطف نظراً للبراعة في تجسيد عذاباتِ السيد المسيح، بحسب ما يعتقد المسيحيون، بينما أشار المخرِج أنغ لي في فيلمه «حياة باي» (2012) إلى مفاهيم إيمانية روحانية مؤثرة عبر مَشاهد بصرية مذهِلة.