الموسيقى والغناء في السينما العالمية

إسحاق بندري يكتب عن أبرز تجلياتهما

الموسيقى والغناء في السينما العالمية
TT
20

الموسيقى والغناء في السينما العالمية

الموسيقى والغناء في السينما العالمية

في كتابه «فالس إيدا» الصادر عن دار «إشراقة» بالقاهرة، يبعث الناقد والباحث إسحاق بندري برسائل إلى حبيبة متخيلة تدعى «إيدا»، لكنها لا تتعلق بلوعة الغرام أو الهوى المشبوب، وإنما بسحر الموسيقى وأسرار الغناء كما ظهرت في روائع السينما العالمية.

وتتناول الرسائل تحليلاً دقيقاً لمقطوعات موسيقية مثل السيمفونية والكونشيرتو والرباعيات الوترية ورقصات الفالس، فضلاً عن عدد من الأغنيات الشهيرة وشرح لموسيقاها التصويرية.

ويركز المؤلف في هذا السياق على أغنية «via en rose» أو «الحياة من منظور وردي» كما جاءت في نهاية فيلم «القبلة الفرنسية» بصوت مطرب الجاز الأشهر لويس أرمسترونغ. إنها الأغنية التي شدت بها في الأصل باللغة الفرنسية إديث بياف وذاع صيتها في أربعينيات القرن الماضي، ثم تلا ذلك تقديم نسختها الإنجليزية وإن اختلفت الكلمات بعض الشيء بين النسختين.

في نسختها الفرنسية تقول كلماتها:

«عن عينيه اللتين تجعلانني أخفض عيني/ عن الضحكة الضائعة على شفتيه/ عن البورتريه الذي لم يمسه التعديل/ عن هذا الرجل الذي أنتمي إليه/ عندما يأخذني بين ذراعيه/ يحدثني في رقة/ فأرى الحياة من منظور وردي»

أما النسخة الإنجليزية فتقول كلماتها:

«ضميني بقربك ضميني بقوة/ سحرك الذي يخلب اللب/ هذه هي الحياة من منظور وردي/ حينما تقبلينني/ تتنهد السماء».

هذه الموسيقى الباريسية الحالمة والتي كثيراً ما صاحبت مشاهد وحوارات الكثير من الأفلام مثل فيلم «سابرينا» في نسختيه الأولى التي تعود لعام 1954 من بطولة أودري هيبيورن وهمفري بوجارت، إخراج بلي وايلدر. والثانية في عام 1995 من بطولة جوليا أرمند وهاريسن فورد، إخراج سيدني بولك. كما وردت نفس الأغنية في «القبلة الفرنسية»، 1995، بطولة ميج ريان، كيفن كلاين، إخراج لورانس كيسدن.

ويعود نجاح الأفلام التي وظفت تلك الأغنية بصوت بياف إلى تلك المطربة الفرنسية ذات الصوت العاصف كبركان دائم الثورة والانفجار، صاحبة الجسد النحيل حتى أن لقب «بياف» يعني في العامية الفرنسية «العصفور الصغير». صوت يبعث إحساساً غامضاً بعجز الإنسانية في عالم مجرد من الشفقة والرحمة، كما أن مسيرة حياتها لم تكن «وردية» إطلاقاً، على عكس عنوان الأغنية.

فقدت إديث بياف ابنتها «سيسيل» التي أنجبتها وهي في سن السابعة عشرة وبعدها بعامين لقيت الطفلة نحبها لإصابتها بحمى الالتهاب السحائي، ثم فقدت بعدها حبها الأعظم «مارسيل سيردا»، بطل الملاكمة الذي لقي مصرعه في حادث تحطم طائرة في عام 1949.ألهت المطربة الشهيرة نفسها بالإدمان على الكحول والمخدرات وجربت محاولات فاشلة للهروب من الألم بالاستغراق في متع مدمرة، كمحاولة يائسة لصرف الذهن عن التفكير في المصائب، لدرجة أنها قالت فيما بعد عبارتها الشهيرة: «لا بد وأن ندفع ثمن كل فعل أحمق نرتكبه في الحياة».

ويرتبط فيلم «دكتور جيفاغو»، 1965، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب بوريس باسترناك، في ذهن المؤلف بموسيقى «مقطوعة لارا»، التي يعتبرها نوعاً من السحر العجيب المنبعث من أوتار آلة «البالالايكا» على نحو يجمع بين ثلوج الشتاء الروسي القارص وجذوة الإلهام التي لا تخبو في نفوس الشعراء والعشاق معاً.

طلب مخرج الفيلم السير ديفيد لين من الموسيقار الفرنسي موريس جار، بعد نجاح تعاونهما في فيلم «لورانس العرب»، أن يؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم «دكتور جيفاغو. حاول الموسيقار المبدع مراراً دون جدوى وتسرب اليأس إلى نفسه، فاقترح عليه ديفيد لين اقتراحاً، أثبت صحته، بأن يمضي بعض الوقت مع حبيبته في ربوع الجبال والثلوج ويعتبر أنه يؤلف الألحان لها خصيصاً». داعب الإلهام مخيلة «جار» وانسابت ألحانه في أكثر من مقطوعة، ولكن بسبب تأثر ديفيد لين، ومعه كارلو بونتي منتج الفيلم، بمقطوعة «لارا» ركزا عليها فقط، وكانت النتيجة أن سحرت كل من استمع إليها كتعويذة خلابة تنساب عبر أوتار «البالالايكا».

ولم يتوقف النجاح عند هذا الحد، فها هو الشاعر الغنائي الأشهر في تاريخ هوليوود فرانسيس بول ويبستر يصوغ كلمات أغنية على موسيقى «ثيمة لارا»، التي حملت عنوان «في مكان ما يا حبيبتي» وشدا بها مطربون كبار مثل فرانك سيناترا، وآندي ويليامز، وكيتي روجرز.

تقول كلمات ويبستر:

«في مكان ما يا حبيبتي ستغدو هناك أغنيات لنشدو بها/ رغم أن الثلج يغطي أمل الربيع/ في مكان ما يزهر تل بألوان الخضرة والذهب/ وثمة أحلام/ كل ما يمكن لقلبك أن يحويه/ في يوم ما سنلتقي مجدداً يا حبيبتي/ في يوم حينما يشق الربيع طريقه/ ستأتين إليّ من البعيد/ دافئة كالرياح، ناعمة كقبلة الثلج/ لارا يا حبيبتي، فكري بي من حين لآخر».

ترى هل طاف بخيال الأديب الروسي بوريس باسترناك أن شخصية «لارا» الجميلة الرقيقة ذات الحظ العاثر والحياة القاسية، من تجرعت الألم وشظف العيش وظلت روحها نقية تقاوم الأحقاد والضغائن، سوف تُكتب لها الشهرة عبر الأجيال على هذا النحو الفريد؟


مقالات ذات صلة

أنوار البابا الطيب

ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي
ثقافة وفنون متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

يهدي محمد فرج مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» - دار «المرايا» بالقاهرة - «الكازّين على أسنانهم أثناء النوم»، في تهيئة مُبكرة لما يواكب عالم المجموعة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون هدى بركات

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين

وجه أنثوي من قلعة البحرين

تُعد قلعة البحرين من أشهر الحصون التاريخية في الخليج العربي، وتشكّل جزءاً من موقع أثري شُيّد منذ أكثر من 4000 سنة، أُدرج على قائمة التراث العالمي

محمود الزيباوي

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم
TT
20

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه. الشعر هو خطوة في المستقبل، والقراءة أياً كانت، هي ملاحقة له، بدواعي الاكتشاف. توصيف كهذا هو ألصق بشعر محمود البريكان أكثر من شعر أي شاعر آخر، بسبب طبيعة موضوعاته، بالدرجة الأساس، المتجهة إلى الإنسان وإلى ما هو كوني، وكذلك بسبب عمق رؤية الشاعر، وطبيعة التقنية الخاصة المجتهدة التي أملتها تلك الموضوعات أو تفتّقت عنها، فهُما عند البريكان لا ينفصلان. ويخيّل لي أن أكثر الشعر العربي، إذا ما قورن بشعر البريكان، المصمَّم بفكر، يتبدّى احتفالاً رومانسياً بالأشياء. لكن «فكرية» البريكان لا تعني الذهنية المجرّدة؛ فهو كما وصف نفسه، بحق، في إحدى قصائده المبكّرة «قلبٌ مفكّر». وشعر البريكان - وقلما يحدث ذلك مع شاعر آخر - يُقرأ في ضوء متغيّرات العالم، في جوهره وليس في أعراضه، كما في قصيدة «التصحّر»، مثلاً، وفي ضوء المتغيّرات الثقافية. فهذا الشعر يبدو ناشباً جذوره في المستقبل انتماءً وقراءةً (للمستقبل) حتى ليغدو شيئاً منه. ولم يجانب الشاعر الحقيقة حين قال إن قصائدي لن تُفهم إلا بعد عشرين سنة، كما يُنقَل عنه ذلك. إنه يتحدث عن المستقبل بغضّ النظر عن الرقم الذي ارتأى. وهو شيء جدير بكل فن حقيقي، ليس بالضرورة باستعصاء فهمه في لحظته، بل بمعنى سرَيانه في الزمن ومعه. من هنا، فإن في استعادة شعر البريكان استعادة للدهشة البكر المزامنة لكل قراءة. وهو شأن كل شعر وفن عظيم يحمل صفة خلوده معه. ولا تكتمل أي قراءة للشاعر البريكان بمعزل عن رياديته؛ فدور البريكان الريادي أساسيّ لا يقلّل من أثره وخطورته أن سطحية النقد السائد لم تعره اهتماماً يُذكر، على حد تعبير الشاعر رشيد ياسين، أو أن مجمل الموقف من الشاعر وشعره مناوَأةً أو - في أحسن الأحوال - صمتاً، قد يُترجم إلى ما يجافي ما هو شعري وثقافي، وإلّا فإن شعر البريكان على ما عُرف منه - حتى الآن - وهو ليس بالقليل، جدير بأن يضعه في مصاف كبار الشعراء الذين عرفتهم الإنسانية في مختلف العصور. ولمعدّ هذا الكتاب الفخر بأن جعل صورة الشاعر البريكان الشعرية أقرب إلى الصفاء بعد سُحب الضباب التي حجبتها طويلاً. فكم من الأصداء المهمة حققتها مجموعات/ مختارات «متاهة الفراشة»، في طبعتَيها السابقتين، بل يمكن القول إن «متاهة الفراشة» هي التي قدمت البريكان عربياً، ورسّخت صورته، وحققت لشعره انتشاراً حتى على صعيد اللغات الأُخرى، كما في ترجمة سركون بولص لعدد من قصائده إلى الإنجليزية، أو ترجمة جاسم محمد الذي عمل منذ سنوات على ترجمة كامل «الديوان» إلى السويدية، على أمل أن يرى مشروعه النور، يوماً. فضلاً عن ترجمات متفرقة هنا وهناك، ودراسات ومراجعات رصينة كثيرة لشعر وشعرية البريكان، على النطاقين العربي الواسع والعراقي المحلي، لا يمكن حصرها، ما كان لها أن تحدث لولا صدور المجموعات/ المختارات التي بين يدَي القارئ، دون نسيان البحوث والرسائل الجامعية التي اعتمدتها مصدراً لشعر البريكان.

عند كتابة هذه السطور يكون قد مضى ما يقارب اثنين وعشرين عاماً على الطبعتين الأولى والثانية من «متاهة الفراشة» التي لاقت رواجاً واستقبالاً متعطشاً لشعر البريكان وجهده، أحسب أنهما يتجددان تجدّد شعر البريكان؛ ما يعني ضرورة صدور طبعة جديدة، ولا سيما أنّ هذه اجتهدت لأن تخلو من الأخطاء الطباعية، كما - وهذا هو الأهم - قد ضمّت عدداً من القصائد لم تقف عليها الطبعتان الأولى والثانية، والقصائد المُضافة هي: «العربي التائه»، و«سمفونية الأحجار»، و«دراسات في عمى الألوان»، و«الوصية». وهي في صميم تجربة البريكان المتنامية، ومشروعه التحديثي في القصيدة العربية. وعلى الرغم من إيماني الشخصي بأنّ ما تمّ تقديمه من قبل من شعره يكفي لأن يرسم صورة واضحة المعالم ووافية عن طبيعة الاشتغال والهمّ الشعري الذي انطوى عليه الشاعر، والمديات التي بلغتها قصيدته وشاعريته؛ من هنا فإنّ القصائد المُضافة المذكورة تأتي تعزيزاً للانطباع القوي الذي يتركه مجمل شعر البريكان لدى قارئه، وإلّا فإن أية إضافة جديدة هي من باب النوافل، حتى مع أهميتها النوعية، دون التقليل من أي جهد استكشافي يحاول الوصول إلى كامل نتاج الشاعر - لو أُتيح ذلك - وتقديمه إلى القراء المتطلعين إلى الإلمام بالمزيد من هذا النتاج، حتى لو من باب الفضول.

* مقدمة الطبعة الجديدة من «متاهة الفراشة»: قصائد - حوارات - شهادات... التي ستصدر هذه الأيام عن دار «جبرا للنشر والتوزيع» في الأردن