استعادة الهوية الممحوة

على امتداد أكثر من 40 عاماً يلاحق جاسم عاصي سيرة بطله

استعادة الهوية الممحوة
TT
20

استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً حقيقياً. وعلى امتداد أكثر من أربعين عاماً يلاحق الروائي سيرة بطله المؤلمة، كاشفاً عن الكثير من دخائل الشخصية الإنسانية، حتى لتكاد الرواية أن تتحول رواية سيكولوجية، ربما أساساً لأنها تدور حول شخصية مصابة بداء فقدان الذاكرة والشيزوفرينيا، نلتقيها مصادفة في مستشفى الرشاد للأمراض العقلية، حيث يضطلع أحد الأطباء، وهو الدكتور صفاء بمهمة علاجه الشاقة، ومساعدته تدريجياً على استعادة ذاكرته وشخصيته. والرواية بقدر ما هي ملاحقة لاستعادة الوعي المغيّب قسراً بسبب التعذيب السياسي، فهي أيضاً وبالقدر ذاته، رواية عن استعادة الهوية الممحوة.

والرواية تعتمد على بنية حداثية، وسرد بوليفوني تعددي تنهض به عدد من الشخصيات، في مقدمتها السارد الرئيسي الدكتور صفاء، الذي تكفل علاج هذا المريض، وكان يفكر بوصفه أديباً أيضاً في أن يصنع من قصة مريضه رواية يكتبها في المستقبل.

السرد يبدأ عبر ضمير المتكلم (أنا) والراوي هو الدكتور صفاء الذي يلاحق بشغف تجربة خروج مريضه التدريجي من غيبوبته التي استمرت أكثر من أربعين عاماً، عندما تعرَّض إلى التعذيب عام 1961، وأودع بعدها مستشفى الرشاد للأمراض النفسية، ولم يخرج منه إلا بمساعدة معالجة الدكتور صفاء بعد عام 2003، حيث نسمع هدير همرات الاحتلال الأميركي في الشوارع. ونتيجة للجهود الكبيرة التي بذلها الطبيب المعالج، بدأ المريض يستعيد جزءاً من ذاكرته ووعيه ويعود من غفوته، في إشارة واضحة إلى عنوان الرواية «العائد من غفوته»، والذي يحمل بدوره إشارة إلى أفق توقع محدد هو عودة المريض من غفوته واستعادة ذاكرته. لكن الروائي لم يشأ أن يختتم روايته بهذه العودة فقط، بل عمد إلى خلق انتكاسة جديدة لاحقة في مسار حالة المريض النفسية في نهاية الرواية، جعلت منه بطلاً تراجيدياً، أو ضحية من ضحايا الاضطهاد السياسي في العراق.

يستهل الروائي روايته ببداية مثيرة ومشوقة بوصول إشعار للدكتور صفاء سارد الرواية الرئيسي، من دائرة البريد، لاستلام طرد بريدي:

«استلمت إشعاراً من دائرة البريد يدعوني من خلاله الحضور إلى الدائرة المركزية لاستلام طرد وصلني من شخص بدا مجهولاً لديّ لحظتها». (ص 5)

والروائي بهذا الاستهلال، إنما يقفز إلى نهاية الرواية تقريباً عندما ودع مريضه الذي قرر العودة إلى مدينته (ن) لمعرفة مصير والدته وأصدقائه ومعارفه في المدينة، وهي عملية قد تساعده على استكمال علاجه وعودة ذاكرته. ولم يستلم الطبيب المعالج الدكتور صفاء الطرد إلا في نهاية القسم الأول من الرواية (ص 125) لنكتشف أن هذا الطرد هو المتن الذي كتبه سعيد الناصري عن تفاصيل رحلته إلى مدينته (ن)، حيث يشغل هذا المتن القسم الثاني من الرواية، ويتحول هذا المتن إلى مخطوطة مرويّة من قِبل سعيد الناصري نفسه؛ ما يؤكد الجوهر الميتاسردي للرواية. وبذا يمكن أن نقول إن الرواية هي ثمرة صوتين سرديين أساسيين، هما صوت الدكتور صفاء الاستهلالي، وصوت سعيد الناصري في مخطوطته التي أرسلها إلى الدكتور صفاء. والرواية بهذا ذات بنية سردية مبأرة؛ لأن السرد فيها يتم من خلال وعي مبأر لساردين مشاركين في الحدث الروائي.

وتتصاعد الأحداث الروائية في نهاية الرواية بطريقة دراماتيكية مثيرة وفاجعة، حيث يفجع سعيد الناصري بوفاة أمه بين يديه، فيصاب بحالة جديدة من الهستيريا، حيث يحمل جسد والدته ويركض به في العراء، متجهاً إلى مقبرة (سيد خضير أبو حياية)، ويعمد بشكل شخصي إلى حفر قبر لوالدته ودفنها بيديه، رافضاً أي مساعدة مدت له في حينها. ويبلغ سعيد الناصري الدكتور صفاء بأن ضريح (السيد خضير) سيكون آخر المحطات له، ويرجوه أن يكتب بدلاً عنه. (ص 250)

وعندما تصل الدكتور صفاء رسالة سعيد الناصري هذه يصاب بالهلع، ويقرر أن يفعل شيئاً والسفر إلى مدينة (ن) لإنقاذه مما هو فيه:

«سوف يضيع سعيد لأعجّل في إنقاذه». (ص 251)، لكنه اكتشف ملاحظة على الظرف الذي وصله من شخص اطلق على نفسه كنية (فاعل خير) يخبره بأنهم قد وجدوا قرب ضريح (السيد خضير أبو الحياية) رجلاً يتكئ على جدار الضريح، وحين حاولوا إيقاظه سقط مثل خشبة، حيث قاموا بدفنه قرب ضريح أمه. كان لهذا الحدث وقع الصاعقة على الدكتور صفاء، فكتب لصديقه الدكتور عبد السلام هذه الرسالة التي يختتم بها الروائي سرده الروائي:

«خذها، فقد كتب سعيد الناصري نهاية حياته بيده، بل كتب روايته، ولا حاجة إلى إعادة صياغة ما كتب، فقد كان كاتباً حاذقاً». (ص 253)

وهذه الإشارة تنطوي على أن الراوي الحقيقي للسرد هو سعيد الناصري الذي كتب روايته بنفسه كما يشير النص، وبشكل خاص من خلال المخطوطة التي كتبها، ودوّن فيها وقائع زيارته إلى مدينته، والتي وصلت لاحقاً إلى الدكتور صفاء بشكل طرد بريدي.

ويمكن أن نلاحظ تفاوتاً بارزاً بين القسم الأول الذي يرويه الدكتور صفاء، والقسم الثاني الذي يمثل المتن الذي يرويه المريض عن زيارته إلى مدينته.

فالقسم الأول، الذي يسرده الدكتور صفاء، يتصف بالانضباط وسيادة العقلية التحليلية ذات الطابع السيكولوجي لشخصية المريض، من خلال متابعة ملفه الشخصي في المستشفى وملاحقة سلوكه وعلاقاته بالآخرين وبالأطباء. ولذا فقد احتشد هذا القسم بتحليلات وبيانات نفسية وطبية قلما نجد مثيلاً لها، ربما الا فيما كتبه القاص الراحل خضير ميري عن تجربته الشخصية، بوصفه مريضاً في المصح النفسي، وما دوَّنه القاص إسماعيل سكران في روايته «جثث بلا أسماء» عما كان يدور في مستشفى الأمراض العقلية في الشماعية من جرائم يرتكبها نظام صدام حسين الدكتاتوري بحق المعارضين السياسيين الذين كان يدفع بهم إلى المصح عمداً؛ لتدمير قواهم العقلية، وقتلهم تدريجياً في ردهة مخصصة لذلك سميت بــ«القاووش الأحمر». ونجد الدكتور صفاء، في مستهل الرواية، وهو في طريقه إلى جناح الكندي في المستشفى، منشغلاً بمرأى أحد المرضى النفسيين، الذي سيتابع حالته المرضية لاحقاً:

«كان أهم ما لفت نظري قامة الرجل الساكنة تحت شجرة اليوكالبتوز التي تبعد قليلاً عن نافذة الغرفة في الجناح الذي أعمل فيه». (ص 12) وقد استهوت الدكتور صفاء شخصية هذا المريض، وقرر مع نفسه أن يكتب، بوصف أدبي أيضاً، رواية عن حالته الصحية وتاريخه وسبب أزمته النفسية.

وكان أول اكتشاف مهم للدكتور صفاء عن مريضه معرفة اسمه ومدينته عندما سلمته الممرضة ملف هذا النزيل:

«جلست وراء المنضدة، حدّقت بالغلاف الخارجي للملف، حيث كتب عليه المريض سعيد الناصري... فتح الملف بتاريخ 18/10/1970» (ص 52)

وازداد اهتمام الدكتور صفاء بالمريض سعيد الناصري الذي سيساعده في مشروعه الروائي المرتقب. (ص 36)، وكان يشعر بأن سعيد الناصري سيكشف له عن أمور مثيرة:

«إنه جزء من تاريخ مضمر ومسكوت عنه». (ص45)

ويكتشف الدكتور صفاء أن هذا المريض مناضل سياسي، وأنه تعرَّض إلى التعذيب وفقدان الذاكرة، وبالتالي دخوله في هذه الغيبوبة الطويلة التي استمرت لمدة أربعين عاماً. وانتبه الدكتور صفاء إلى أن تاريخ اعتقاله يعود إلى عام 1961، وهو تاريخ مثير، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.

أما القسم الثاني من الرواية الذي يحمل عنوان «القادم من غفوته». (ص 129)

فيشكل المتن الذي كتبه المريض سعيد الناصري عن زيارته لمدينته (ن)، والذي أرسله لاحقاً بشكل طرد بريدي. ويتسم هذا القسم بأسلوب وصفي يقدمه مشاهد لمدينة يراها لأول مرة في حياته. فالراوي سعيد الناصري؛ بسبب فقدانه للذاكرة ينظر إلى تفاصيل زيارته ومعالم مدينته وكأنه غريب يراها لأول مرة.

ومن الواضح أن مثل هذا التكنيك في السرد ينتمي إلى ما أسماه الناقد الشكلاني الروسي شكلوفسكي بنزع المألوفية Defamiliarization، وذلك في دراسته الموسومة «الفن بوصفه تكنيكاً» المنشورة عام 1917. ويذهب شكلوفسكي إلى أن وظيفة الفن هي جعل الأشياء تبدو «غير مألوفة» Unfamiliar؛ لأن عملية التلقي هذه تمنح الأشياء جدةً وحضوراً وبراءة، ويرتبط هذا المفهوم بمفهوم التغريب estrangement، وقد وفّق بعض الروائيين في استثمار منظور الطفل البريء، وهو يصطدم بمجموعة من المرئيات والوقائع التي يبدأ بوصفها بحيادية تامة، مؤكداً على طابعها الحسي والمرئي. كما عمد روائيون آخرون، ومنهم الروائي جاسم عاصي في روايته هذه «العائد من غفوته» لاستثمار خاصية فقدان الذاكرة أو عطبها، لوصف الأشياء والأماكن وكأنها تكتشف للمرة الأولى. ويمكن أن نعدّ أدب الرحلات مثالاً جيداً لمثل هذا السرد؛ لأن السائح يصف أماكن ومشاهد وأحداثاً يراها لأول مرة.

لقد كان الروائي جاسم عاصي موفقاً إلى حدٍ كبير في استثمار خاصية «نزع المألوفية» هذه، التي شخَّصها شكلوفسكي في طريقة تلقي بطله سعيد الناصري للمرئيات والأماكن والأشخاص والوقائع التي اصطدم بها أثناء زيارته لمدينته (ن). فقد كان يبدو مشدوهاً وهو يتساءل مع نفسه فيما إذا كان ما يراه جزءاً من مدينته التي عرفها جيداً؛ لأنها كانت قد نزعت مألوفيتها التي تعوّد عليها سابقاً، وبدت له مغايرة تماماً، وكأنها تخلق لأول مرة، لتدخل شاشة وعيه المتشظية.

فالمرئيات تبدو له وكأنها تولد لأول مرة. وزاوية الرؤية هذه تساعد في تقديم وصفٍ بريء محايد إلى حدٍ كبير:

«واصلت السير، غير أني شعرت بالتعب جراء العودة من بدء استقامة الجسر حتى منتصفه؛ بحثاً عن دالة أو شاهد أعرفه... وتولدت لدي قناعة على شكل سؤال مفاده هل أنا فعلاً في مدينتي». (ص 132)

لقد كان سعيد الناصري يسير في مدينته التي عاش فيها، لكنه كان يشعر بأن كل شيء كان ضبابياً، وبلا ملامح يعرفها من قبل. وبهذه الطريقة يقوم سعيد الناصري برحلة مضنية لإعادة اكتشاف وتشكيل مدينة ضائعة.

وهذا الفصل بالذات يركز بشكل خاص على إعادة اكتشاف المكان الأليف، مكان الطفولة، حسب باشلار، في رحلة بحث مضنية مليئة بالمكابدات والإحباطات المريرة.

وفنياً، يمكن أن تعدّ هذه الرواية بوليفونية، متعددة الأصوات؛ بسبب تعدد الأصوات السردية فيها، كما أنها أيضاً يمكن النظر إليها بوصفها رواية ميتاسردية، حيث ينمو هاجس كتابة الرواية لدى الدكتور صفاء، ويساعده في ذلك مريضه سعيد الناصري، الذي اختتم مدوّنته التي أرسلها له، بدعوته لمباشرة الكتابة؛ لأنه شخصياً غير مؤهل لذلك؛ لذا ترك للدكتور صفاء مهمة كتابة الرواية:

«ربما نفدت قدرتي على الكتابة.. هذا ما سوف يربكه أثناء تحرير أحداث روايته، مستعيناً بما يقع بين يديه من وثيقة حياتي الحالية». (ص 246)

كما نجد الدكتور صفاء مصدوماً هو الآخر بالنهاية التراجيدية الموجعة لمريضه سعيد الناصري فيدفع بالأوراق لصديقه الدكتور عبد السلام:

«خذها، فقد كتب سعيد الناصري نهاية حياته بيده، بل كتب رواية ولا حاجة إلى إعادة صياغتها». ص 253)

كما تتخذ الرواية مبنى سردياً دائرياً، من خلال محورية السرد الروائي للدكتور صفاء الذي استهل السرد الروائي، كما اختتم به هذا السرد أيضاً.

رواية «العائد من غفوته» عمل روائي متميز ومُتقَن فنياً، وكل الأحداث والوقائع مبأرة من خلال وعي شخصياتها، حتى يبدو المؤلف غائباً، والأحداث الروائية هي التي تقدم نفسها للقارئ دونما وسيط.

يبقى السؤال الإشكالي يتعلق بتأطير التأريخ السياسي لحالة المريض التي بدأت عام 1961 وليس بعد عام 1963 والتي شهدت أبشع صنوف التعذيب والقتل للمعارضين، على أيدي جلادي «البعث» آنذاك، والتي لم نجد لها أية إدانة مباشرة على امتداد الرواية، بينما خصص مقاطع مهمة لإدانة ما تعرض له الشعب العراقي من اضطهاد وقتل في مختلف المراحل ومنها فترة الاحتلال الأميركي.

ومن الغريب أن الروائي قدم توصيفاً لما تعرَّض له بطله عام 1961 من تعذيب، في الوقت الذي كان فيه شعار الحكم آنذاك مقولة «عفا الله عما سلف».

إن تأطير أي تجربة روائية زمنياً ليس بالأمر الاعتباطي ويخضع لحسابات خاصة يدركها المؤلف ويرغب في أن ينقلها إلى المتلقي بشكل رسائل خاصة، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن سر هذا الاختيار، ويجعلنا نتحفظ عليه.


مقالات ذات صلة

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

كتب مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تطوف الكاتبة الصحافية الزميلة منى أبو النصر في كتابها «الحالة السردية للوردة المسحورة» بين فنون شتى، فهي لا تتوقف عند حدود الأنواع الأدبية المعروفة من شعر

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الا

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

تحضر الأفعى بأشكال متعدّدة في مجموعة هائلة من القطع الفخارية التي خرجت من مناطق أثرية متفرّقة في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)

رحيل يوسا يسدل الستار عن الجيل الذهبي الأدبي

توفي الكاتب البيروفي العالمي ماريو فارغاس يوسا، الحائز جائزة نوبل للآداب، في العاصمة البيروفية ليما.

«الشرق الأوسط» ( ليما ــ مدريد)

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
TT
20

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي
مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي

تحضر الأفعى بأشكال متعدّدة في مجموعة هائلة من القطع الفخارية التي خرجت من مناطق أثرية متفرّقة في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية. ويشهد هذا الحضور الطاغي لنسق فني محلّي يتبع لغة تصويرية خاصة في النقش والحفر، كما تظهر دراسات تناولت هذا الميراث الجامع الذي يربط بين هذه المواقع المتوزعة اليوم على دولة الإمارات المتحدة وسلطنة عُمان. تظهر الأفعى وحدها في هذا الميدان، وتتنوّع تقاسيمها التصويرية في غياب أي عناصر تصويرية أخرى في أغلب الأحيان، غير أنها تندمج استثنائياً في قوالب مميّزة تجمع بينها وبين أشكال حيوانية، كما نرى في عدد محدود من القطع، منها قطعتان مصدرهما موقع «مسافي» في إمارة الفجيرة.

تختلف هاتان القطعتان من حيث الحجم والتكوين، وتتشابهان من حيث الأسلوب بشكل لا لبس فيه. ويصعب تحديد تاريخهما بشكل دقيق، والأكيد أنهما من نتاج الألفية الأولى قبل الميلاد، وتتبعان نسقاً فنياً ظهر في مرحلة متقدّمة من العصر الحديدي. تتمثّل القطعة الأكبر حجماً بمجمّرة تمّ جمع ولحم ما وصل من أجزائها المهشّمة بعد إخضاعها لترميم علمي دقيق ومتأنٍّ. وتتمثّل القطعة الأصغر بمجسّم وصل بشكل كامل، وهو على شكل دابة ذات عنق طويل. يبلغ طول هذه المجمّرة 45.5 سنتيمتر، وقطر إنائها الأعلى 16.5 سنتيمتر. يستقرّ عنق هذا الإناء فوق قاعدة طويلة تأخذ شكل جمَلَين متلاصقين، وصل أحدهما بشكل تام، ووصل الآخر بشكل مجتزأ، وأُعيد تشكيله خلال عملية الترميم التي خضع لها. يعلو هذا الإناء غطاء على شكل قبّة تخرقها شبكة من الثقوب الدائرية، ويظهر فوق قمّة هذه القبّة مجسّم يمثّل دابة فقدت رأسها.

تحمل هذه المجمرة عنصراً تصويرياً آخر يحتل أحد جانبي إنائها، ويتمثّل هذا العنصر بقامة آدمية عُثر عليها بشكل مستقل، وتمّ دمجها بهذه القطعة بعد أن تبيّن أنها تشكّل على الأرجح جزءاً منها في الأصل. وصلت هذه القامة الآدمية بشكل مجتزأ، ويبلغ طولها نحو 14 سنتيمتراً، وتمثّل رجلاً يقف في وضعية المواجهة، فقد ذراعيه وساقيه. يتصل الرأس بالصدر بشكل مباشر، إذ يغيب العنق، ويخلو الوجه من أي ملامح جلية. زُيّنت هذه القامة الآدمية الناتئة بحُلّة لونية بقي منها مسحات باهتة باللونين الأسوَد والأحمَر. وتظهر آثار هذه الحلّة اللونية الممحوة على مكوّنات المجمّرة، وتتوزّع بشبكة من الخطوط تلفّ الإناء، وترتسم على جملَي قاعدته.

يشبه غطاء هذه المجمّرة من حيث التكوين، قطعة أثرية مصدرها موقع «مويلح» في إمارة الشارقة، وهي على شكل قبّة يعلوها تمثال ثور ذي سنام، وتمثّل كذلك غطاء مجمّرة مخصّصة لحرق البخور والطيوب. في المقابل، يتبع الجملان اللذان يشكّلان قاعدة لإناء المجمّرة، نسقاً فنيّاً محليّاً ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية خلال تلك الحقبة من العصر الحديدي، وشواهده كثيرة، وأشهرها جمل يعلو ظهره سرج عريض مربّع، عُثر عليه كذلك في موقع «مويلح». تتميّز مجمّرة «مسافي» بالأفعى التي تتكرّر على أجزاء متعددة، والتي تحضر بشكل ناتئ على ظهر الجمل الذي وصل بشكل كامل، وتبدو كأنها تتحرّك بشكل ملتوٍ في اتجاه رأس الدابة. كما تحضر على شكل حزام يلتف حول خصر الرجل الذي يلعب دور حارس الجمَلَين كما يبدو، وتُزيّن جلدها شبكةٌ من الدوائر المتراصة، وفقاً للنسق التشكيلي السائد.

إلى جانب هذه المجمّرة المميّزة، يحضر مجسّم الدابة الصغير الحجم، ويبلغ طوله نحو 12 سنتيمتراً، ويمثّل على الأرجح جملاً، على الرغم من غياب السنام التقليدي عن صورته. الرأس مسطّح ومرتفع نحو الأعلى بشكل طفيف، والعنق عريض وطويل، وكذلك الصدر والقوائم الأربع المنتصبة بثبات. يقف هذا الجمل فوق قاعدة مستطيلة مسطّحة تشكّل أرضاً له، وتظهر فوق سطح هذه الأرض أفعى ناتئة تتلوى بين قوائمه. كما تظهر أفعى ثانية ناتئة تسعى فوق ظهره، على مثال الأفعى التي تسعى فوق ظهر جمل المجمّرة. وتظهر أفعى ثالثة ناتئة تلتفّ حول عنقه على شكل حلقة. تقابل هذه الأفاعي الناتئة شبكة من الأفاعي خُطّت باللون الأسود فوق أعضاء من بدنه. وتحضر هذه الأفاعي السوداء على أطراف قاعدة هذا المجسّم، وتبدو كأنها تُزيّن إطارها.

يشكّل حضور الأفاعي الأثري الطاغي في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية لغزاً احتار أهل الاختصاص في تفسيره بشكل جليّ. راج الحديث عن «عبادة الأفاعي» في هذا السياق، غير أن هذه الأفاعي تتصل على الأصح بمعبود لم يصل إلينا اسمه بعد، وهي رمز لهذا المعبود المجهول، وتمثّل التجدّد والانبعاث والخصوبة، كما تمثّل الحماية والوقاية والشفاء. تحضر هذه الأفعى في قوالب فنية جامعة تتكرّر وتتماثل في مواقع متعدّدة، وتتجلّى أحياناً في قوالب مبتكرة تبدو غير معهودة، كما تشهد هذه المجمّرة وهذا المجسّم اللذان خرجا من موقع «مسافي».