دمية جنائزية من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين

تختزل الطراز الشرقي الخاص باللعبة المتحرّكة

تمثال أنثوي من محفوظات متحف البحرين الوطني في المنامة
تمثال أنثوي من محفوظات متحف البحرين الوطني في المنامة
TT
20

دمية جنائزية من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين

تمثال أنثوي من محفوظات متحف البحرين الوطني في المنامة
تمثال أنثوي من محفوظات متحف البحرين الوطني في المنامة

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، من أبرزها مقبرة تُعرف باسم الشاخورة، نسبةً إلى القرية التي تجاورها. كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في هذه المقبرة عن مجموعة كبيرة من القطع الفنية المتنوعة دخل قسمٌ منها متحف البحرين الوطني في المنامة، ومنها تمثال أنثوي منمنم من العظم لا نجد ما يماثله في ميراث البحرين الأثري إلى يومنا هذا. يعود هذا المجسّم إلى المرحلة الممتدّة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، ويبدو فريداً من نوعه على الصعيد المحلّي، غير أنه يتبع في الواقع تقليداً فنياً جامعاً شاع في الشرق كما في الغرب، ويشابه بوجه خاص قطعاً فنية صُنعت في بلاد الرافدين خلال تلك الحقبة.

تقع مقبرة الشاخورة شمال غربي القرية التي تحمل اسمها في المحافظة الشمالية، وتبعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع في شمال العاصمة المنامة. ظهرت المعالم الأولى لهذا الموقع في مطلع ستينات القرن الماضي، وتواصلت أعمال المسح والتنقيب فيه خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن سلسلة من القبور تعود إلى مراحل تاريخية متعاقبة، خرجت منها مجموعات متعددة من اللقى الأثرية. تكفّلت إدارة الآثار المحلية بأعمال التنقيب في حملة استمرت من عام 1992 إلى عام 1993، تبعتها حملة أخرى دامت من 1996 إلى 1997، أدارها الأستاذ مصطفى إبراهيم سلمان. كشفت هذه الأعمال عن تلٍّ يحوي مجموعة تتألف من 94 قبراً، إضافةً الى 10 جِرار خُصّصت لدفن أطفال، وحمل هذا التل رقم 1 في التقارير التوثيقية الخاصة بهذه الحملة.

تبيّن أن أحد هذه القبور يعود إلى صبيَّة في مقتبل العمر، دُفنت مع مجموعة من الحليّ والأغراض الخاصة بها، وصلت بشكل شبه كامل، إذ لم تتعرض لأي عمل من أعمال النهب كما يحصل عادةً، وحمل هذا القبر رقم 47 في هذه التقارير. ضمّ هذا الأثاث الجنائزي عقداً بديعاً من الذهب يبلغ طوله نحو 24 سنتيمتراً، ويتألف من أربع قطع خرطومية تتآلف مع تسع قطع دائرية وتِسع قطع عنقودية. كما ضمّ تمثالاً أنثوياً صغيراً من العظم، وصل من دون ذراعيه الموصولتين به في الأصل، وفقد جزءاً كبيراً من رأسه. بقيت هاتان القطعتان الفنيتان مجهولتين إعلامياً، إلى أن تمّ الكشف عنهما للمرّة الأولى خلال عام 1999، حيث تمّ عرضهما ضمن معرض خاص بالبحرين أُقيم في معهد العالم العربي. تبعت هذا العرض الأول عروض أخرى ضمن معارض مشابهة، وساهمت هذه العروض في دخول هاتين القطعتين الفنيتين في الدائرة الإعلامية الواسعة.

يبلغ طول هذا التمثال 17.5 سنتيمتراً، ويظهر عند طرف كل من كتفيه ثقب دائري، ويوحي هذان الثقبان بأن هذا المجسّم المصنوع من العظم كانت له أطرافٌ مفصليّةٌ مستقلّة صُنعت من مواد قابلةٍ للتلف، والأرجح أنها كانت من الخشب. يُعرف هذا الطراز من التماثيل الأنثوية المنمنمة بالدمى المتحرّكة، ويتميّز بذراعين تمّ ربطهما بالصدر بواسطة خيوط، ممّا يسمح بتحريكهما. يعود أقدم شواهده الأصلية إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، مصدرها مصر، وتشكّل هذه الشواهد أساساً للتقليد المتّبع حتى يومنا هذا في صناعة اللعب. وصل هذا التقليد كما يبدو إلى البحرين منذ تلك الفترة الموغلة في القدم، كما تشهد قطعة عاجية استثنائية من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. وصل هذا التمثال بشكل مجتزَأ، ويبلغ طوله 21 سنتيمتراً، ومصدره المقبرة الشهيرة بـ«تلال مدافن دلمون»، وهي حقل تلال مدافن عالي الشرقي، نسبةً إلى مدينة عالي في المحافظة الشمالية، وتقع في وسط البحرين، إلى جنوب مدينة عيسى، وإلى شمال مدينة الرفاع.

يختلف تمثال الشاخورة من حيث الأسلوب الفني عن تمثال عالي، ويختزل تطوّر هذا النسق في مطلع القرن الميلادي الأول. الرأس عريض وكبير، حجمه أكبر من حجم القامة من حيث النسبة التشريحية، ويتميّز بشعر كثيف تبدو خُصلُه أشبه بقبعة كبيرة يظهر في وسطها شقّ غائر ومستقيم. يحدّ هذه القبعة في الجزء الأسفل مثلّثان متساويان تكسو كلاً منهما شبكة من الخطوط العمودية المتوازية، حُدّدت بخطوط غائرة. فقد الوجه جزءاً كبيراً من جانبه الأيمن، وحافظ على الجزء الأعلى من جانبه الأيسر، وفيه ظهرت العين بشكل كامل، وبدت لوزية وواسعة وجاحظة. الأنف مستقيم وناتئ. الثغر ضائع ولم يبقَ منه أي أثر. وصل صدر البدن بشكل كامل، وتميّز بعقد مثلّث عند أسفل العنق، وحزام عريض يلتف حول الوسط. يرتفع هذا الصدر فوق ساقين مفصولتين الواحدة عن الأخرى، يعلوهما مثلث يستقر عند الحوض.

يختزل تمثال الشاخورة الطراز الشرقي الخاص بالدمية المتحرّكة في مطلع الحقبة الميلادية، وهو الطراز الذي يبرز في بلاد الرافدين بوجه خاص، وشواهده كثيرة، منها تمثال من محفوظات متحف بغداد مصدره مدينة سلوقية القديمة على ضفة نهر دجلة، ومجموعة من التماثيل محفوظة في متحف بنسلفانيا، مصدرها بابل ونيفور. واللافت أن هذا الطراز الشرقي بلغ الغرب بشكل محدود كما يبدو، كما تشهد بضعة تماثيل منمنمة خرجت من مقابر قديمة في روما تعود إلى الحقبة المسيحية الأولى، ودخلت متحف الفاتيكان.

في شبه الجزيرة العربية، نقع على دمية واحدة من هذا الطراز، لا يتجاوز طولها 8 سنتيمترات، وهي محفوظة في متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض، ومصدرها قرية الفاو الثرية بالآثار. مثل دمية الشاخورة، صُنعت دمية الفاو من العظم، وفقدت ذراعيها، غير أنها حافظت على رأسها بشكل كامل، ولم تفقد أي تفاصيل من مكوّنات ملامحها.


مقالات ذات صلة

أنوار البابا الطيب

ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي
ثقافة وفنون متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

يهدي محمد فرج مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» - دار «المرايا» بالقاهرة - «الكازّين على أسنانهم أثناء النوم»، في تهيئة مُبكرة لما يواكب عالم المجموعة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون هدى بركات

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين

وجه أنثوي من قلعة البحرين

تُعد قلعة البحرين من أشهر الحصون التاريخية في الخليج العربي، وتشكّل جزءاً من موقع أثري شُيّد منذ أكثر من 4000 سنة، أُدرج على قائمة التراث العالمي

محمود الزيباوي

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش
TT
20

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

يهدي محمد فرج مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» - دار «المرايا» بالقاهرة - «الكازّين على أسنانهم أثناء النوم»، في تهيئة مُبكرة لما يواكب عالم المجموعة من قلق مُفرط لا يُفرّق بين صحو ومنام، أو يقظة وحلم. وبرغم أن المجموعة تضم 10 قصص مختلفة، فإن ثمة انطباعاً يتراكم على مدار النصوص بأن بطلها واحد تشظى بين قصص المجموعة، فيهيم بين «راحة» و«نضج» و«تشابه»، و«ضباب»، و«لعب»، و«مجاراة»، و«دوران»، وهي بعض من عناوين القصص التي غلب عليها طابع التجريد، حيث يعيد البطل اكتشاف تلك الأشياء التي أصابها الخلل في حياته.

يولي الكاتب محمد فرج اهتماماً برسم فضاء مكاني يُمهد به للعالم النفسي لأبطاله، ومن اللافت تكرار ظهور الممرات الضيقة في قصص المجموعة، بما يوحي بشيء ما كأنه الحصار، وتلك الزوايا الداكنة لملامح السجن الداخلي لأبطاله. في قصة «طبيعة»، يبدو الراوي حائراً بين المدينة والهلاوس: «أنا في ممر بارد بإحدى البنايات، هكذا هي هذه المدينة، دائماً باردة، وعادة ما أرتعش لسبب ما». وتبدو المفارقة أن تلك البناية التي تقوده إلى دهاليز، تنفتح على فراغ ذهني يسلبه القدرة على تمييز المكان: «على ما يبدو أن أحلامي خرجت وفرشت نفسها على المدينة، أو أني قد دخلت إلى أحلامي القديمة، أو أن تلك هي طبيعة الأمور أصلاً وأنا الذي لم أنتبه من قبل».

ويبدو أن تلك الحالة من «الغبش» تواصل ظهورها عبر قصص المجموعة تباعاً، ولكن بتنويعات مختلفة، يمكن التعبير عنها بوصفها «روحاً ثقيلة تنازع من أجل الخروج أو السقوط» كما يصفها الراوي في قصة «ضباب». ولعل هذا الغبش أيضاً قد فرض طابعه «السوريالي» على المجموعة ككل، ففي قصة «لعب» يسقط البطل بعد مفارقات ومواجهات تبعث الذعر في نفسه، فيهيأ له أن امرأة تخرج من حائط، تطارده بعنف، هو وطفل بلا ذراع، في قصة تبدو كمشهد طويل يحمل بنية الكابوس في غرائبيته ورعبه.

وتظهر «السوريالية» بوجهها الكابوسي من جديد في قصة «نضج»، فالراوي يظل يتراءى له وجه زميلته بأنه يتشكّل كل مرة، بما يجعله يتشكك في قدرته على الرؤية: «أثناء حديثها رأيت أنفها يستطيل قليلاً، لا بل كثيراً. كان الأنف يميل إلى الأمام وتنسحب الفتحات إلى الجانبين، رأيت وجهها يتحوّل ليصبح أقرب إلى وجه ماعز. رحت أغمض عيني أحولها للنظر إلى شيء آخر في الغرفة أو عبر النافذة ثم أعود مرة أخرى إلى وجهها. ربما أُرهقت عيناي من كثرة الدخان. لم يتغيّر شيء، ما زال الأنف على استطالته، ووجه الماعز احتّل كامل الوجه الذي كنت أعرفه».

تتكثف في هذه القصة مشاعر الكاتب بذلك الشيء الذي أصابه الخلل، كما يشير عنوان المجموعة، كما أن الراوي يفقد السيطرة على ضبط مجال رؤيته، ويتدخل الواقعي والمجازي في عدم قدرته على استبصار ما تمثله تلك الأشياء: «لا تتغير الصورة، النظارة لا تخدعني، لكن يبدو أن شيئاً ما أصابه الخلل».

ويبدو أن التفاوت بين ما يحدث في الخارج وبين ما يعتمل في الداخل، هو ما يجعل الكاتب يعود لتلك «الممرات الطويلة سيئة الإضاءة» في قصة أخرى من قصص المجموعة بعنوان «مُجاراة» والتي نجد بطلها في بنية سردية أقرب لبنية المتاهة، حيث يكون تيهه داخل المبنى الذي تغيّر شكله فجأة موازياً لمشاعره الطويلة بالاغتراب داخل مدينته ونفسه: «نظرت إلى الممر الطويل المملوء بالأبواب ولم أعرف ما الذي يمكنني فعله الآن»، ثم يعود ويتساءل: «لماذا ابتعد الباب الذي دخلت منه؟».

هذا الوعي المفرط بسؤال الذات الذي يطرحه صوت المجموعة، يزاحمه قدر عال من الشعور بالتهميش وعدم الاكتراث لهذا الصوت الأقرب لصوت استغاثة مكتومة داخل كابوس، فبطل «مجاراة» يفاجأ وسط التيه الطويل والحصار المقبض داخل المبنى بأن ثمة كاميرات مراقبة مُثبتة فوقه طيلة هذا الوقت. يتساءل إن كان هناك موظفون يجلسون وراءها ويضحكون ساخرين من طريقة سيره في الطرقات طيلة هذا الوقت.

ويعبر الراوي في قصة «دوران» عن أثر تراكم الشعور بالإهانة والعجز عن ردها في نفوس متلقيها، وكيف يتحول إلى أغلال تكبل الروح، قائلاً: «ربما هو الخوف من الإهانة، الإهانة شيء مخجل، تلقيها من الأساس قاس، وعدم الرد عليها يحفر عميقاً في داخل متلقيها، يكسر شيئاً بداخله، وتزداد مساحة الهدم عندما يستمر تلقي الإهانات، يلغي كل إمكانية لظهور إنسان يقف منتصباً على ساقين، يخلق زواحف بشرية، لا تستطيع المواجهة أبداً، تتعود الهروب إلى جحورها سريعاً».