هيوم والميتافيزيقا

هيوم والميتافيزيقا
TT

هيوم والميتافيزيقا

هيوم والميتافيزيقا

طالعتنا صفحة ثقافة وفنون بـ«الشرق الأوسط» بتاريخ 11 يناير (كانون الثاني) 2025، بقراءة ممتعة في كتاب أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والمترجم الدكتور محمد فتحي الشنيطي، الذي يحمل عنوان «فلسفة هيوم بين الشك والاعتقاد»، والدكتور الشنيطي من المثقفين الموسوعيين الذين عُرفوا في النصف الثاني من القرن الماضي، فقد كتب في الفلسفة وعلم النفس والمنطق وغيرها من المجالات وترجم عدداً ليس بالقليل من النصوص الفلسفية من الأمهات، لكن بخسته الأيام حقه من الشهرة.

أما ديفيد هيوم فهو أحدُ عشرة كان لهم التأثير الأعظم في كل تاريخ الفلسفة، وقد كتب جايمس ستيرلنغ ذات مرة: «إن هيوم هو سياستنا، وهيوم هو تجارتنا، وهيوم هو فلسفتنا، وهيوم هو ديننا، وليس بعيداً إن قلت إن هيوم هو ذوقنا». هذا التصريح من أحد فلاسفة القرن التاسع عشر يجلّي المكانة الفريدة التي احتلها الفيلسوف الاسكوتلندي هيوم في تاريخ الفكر. ويرجع جزء من شهرته وأهميته إلى نهجه الشكوكي الجريء في التعامل مع عدد من الموضوعات الفلسفية. ففي نظرية المعرفة، شكك في المفاهيم الشائعة عن الهوية الشخصية، وزعم أنه لا توجد «ذات» دائمة تستمر بمرور الوقت؛ إذ لا نجد إلا إحساسات متتابعة لا يلزم منها وجود ذات تقف خلفها.

ورفض هيوم السببية وكان يرى أن مفاهيمنا للعلاقات السببية ترتكز على عادات التفكير، فقد اعتدنا أن نرى الشمس كل يوم وهي تشرق لكن لا يلزم أن تشرق كل يوم في المستقبل. وعادة التفكير هذه لا تقوم على إدراك القوى السببية في العالم الخارجي نفسه.

ودافع هيوم عن موقف أساتذته الشكوكيين القائل بأن العقل البشري متناقض بطبيعته، وأنه من خلال المعتقدات الطبيعية فقط يمكننا أن نتطور ونشق طريقنا في الحياة المشتركة. في فلسفة الدين كان له موقف مخاصم من الديانات والمعجزات. وعلى عكس الاعتقاد الشائع في ذلك الوقت بأن وجود الله يمكن إثباته بالحجة السببية، تقدم هيوم بانتقادات للأدلة التوحيدية. ودرس نظرية حول أصل المعتقدات الدينية الشعبية، وأسّس مثل هذه المفاهيم على علم النفس البشري بدلاً من الحجة العقلانية أو الوحي الإلهي. ويُحال الهدف الأكبر من انتقاده إلى رغبته في فصل الفلسفة عن الدين، وبالتالي السماح للفلسفة بملاحقة غاياتها دون إفراط في العقلانية.

في النظرية الأخلاقية، وقف ضد الرأي الشائع القائل بأن الدين يلعب دوراً مهماً في خلق وتعزيز القيم الأخلاقية، وكانت نظريته واحدة من أوائل النظريات الأخلاقية العلمانية البحتة، وبها رد الأخلاق إلى النتائج السارة والمفيدة التي تنتج عن أفعالنا.

لقد أدخل هيوم مصطلح «المنفعة» إلى القاموس الأخلاقي، وكانت نظريته بمثابة السلف المباشر لمذهب المنفعة العامة الذي تبناه جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل، حيث حوّل هؤلاء الفلاسفة البريطانيون مذهب اللذة الفردية عند أرسطبوس وأبيقور إلى مذهب لمنفعة الجميع. وهو مشهور بموقفه القائل بأن الالتزام الأخلاقي لا يمكن استنتاجه من الواقع، وكان من أوائل المؤيدين لنظرية الأخلاق العاطفية القائلة بأن الأحكام الأخلاقية تعبّر في الأساس عن مشاعرنا الشخصية.

وفي مضمار آخر، أبرز مساهمات مهمة في النظرية الجمالية برأيه القائل بأن هناك معياراً موحداً للذوق داخل الطبيعة البشرية.

وفي النظرية السياسية اشتهر بنقده لنظرية العقد الاجتماعي، وفي النظرية الاقتصادية عُرف بآرائه المناهضة للسياسة الاقتصادية القومية التي تهدف إلى تكثير الصادرات وتقليل الواردات في الاقتصاد. وبصفته مؤرخاً فلسفياً، دافع عن الرأي المحافظ القائل بأن الأفضل أن تدير الحكومات البريطانية ملَكية قوية.

لكي نفهم موقفه المخاصم للميتافيزيقا ينبغي أن نعلم أنه كان من أكبر المصدومين بالثورة العلمية كفيلسوف، فالفيزياء والرياضيات حققتا نجاحاً باهراً، بينما بقيت صنعة الفلسفة تقدم رِجلاً وتؤخر أخرى، يأتي فيلسوف فينسف ما قيل قبله محاولاً أن يشيد بناء جديداً فيأتي بعده فيلسوف آخر فينسف كل ما قال سابقه. ذلك أن الفلسفة ليست علماً بالمعنى الذي صرنا نعرفه اليوم، وليست تراكمية، ولا تتطور. هذا ما ينبغي أن يدركه كل مهتم بالفلسفة. هذه الصدمة جعلت هيوم يكتب: «إذا رأيت كتاباً في الميتافيزيقا فألقه في النار».

علينا أن ننتبه حين نقرأ لمن لا يعيش في زماننا إلى أنه قد يقصد بالمصطلحات ما لا نفهمه منها اليوم. فالميتافيزيقا لا تعني اليوم «عالم الغيب» كما كان اللاهوت يفسرها في زمانه. الميتافيزيقا هي حوض تسبح فيه كل المفاهيم المجردة المجاوزة للحس. والفيزيقا هي عالم الحس أو عالم الطبيعة وبالتالي لم تعد اليوم فلسفة، بل انخرطت كلية فيما نسميه اليوم بالعلم التجريبي الطبيعي المادي. لقد انتزع العلماء هذه المساحة من أيدي الفلاسفة.

أما الميتافيزيقا فهي كل ما سوى ذلك، هي كل ما وراء الطبيعة، وهي أيضاً ليست منعزلة عن العلم، بل العلم بدوره لا يستطيع أن يستغني عنها فقد خرج من ذات الحوض. وقد كان آينشتاين غارقاً في الميتافيزيقا ولا يتحرك من دونها في صناعة نظرياته العلمية، يتقدم بفرضية عقلية ميتافيزيقية ثم يسعى لإثباتها أو نفيها فيما بعد. تماماً مثلما فعل بنظرية الأثير الحامل للضوء وكيف تبناها ثم نسفها في عام 1905.

لم يكن هيوم عدواً للميتافيزيقا بإطلاق، بل كان عدواً للميتافيزيقا التقليدية السائدة في زمانه. وبالنسبة لأمر الدين هو قطعاً ليس بمسيحي؛ فهو ينكر المعجزات، لكنه ليس بملحد أيضاً، والأقرب أنه كان ربوبياً يؤمن بوجود الله، فقد ذكر الإله في ثلاثة مواضع من نصه الفلسفي، وفي موضع ذكر أنه لم يلقَ أحداً من الملحدين وأنه لم يكن يستسيغ ثقتهم بعقيدتهم. وهذا هو موقف الشكوكي، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي
TT

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفاً على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.

وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة منزلجي* لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.

لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً، لكنها عاشت فيه.

كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.

من «الإغواء الأخير»، أول منجز نشره مع «المدى»، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤية صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعيش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعاً من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائناً يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحاً إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقاً إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي «المدى» هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً لافتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف «المترهبن» رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول «أسلوب حياة محسوب بدقة» كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبد الله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار عملي هنري ميللر «ثلاثية الصلب الوردي» و«مدار السرطان» التي حاولت صديقته الوفية أناييس نن نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام 1934، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرض الرواية سوى القول: «هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!»، ولم يجاهر ت. إس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.

لم يكن اختياره عملي هنري ميللر «مدار السرطان» و«ثلاثية الصلب الوردي» اعتباطياً، بل كان انعكاساً لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالاً تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، التمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءاً منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.

لم يكن أسامة بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً

لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعاً من «الحياة البديلة» التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجماً لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.

لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجماً يعيش في الظل، تماماً كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.

رحل أسامة في غمضة عين، مستريحاً وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثاً من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخاً لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءاً منها. لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.

* المترجم السوري الذي رحل في السابع من هذا الشهر، مخلفاً وراءه أكثر من ستين كتاباً مترجماً من أمهات الأدب العالمي.