الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

عبد الرحمن الشبيلي: كان أحد مصادر التاريخ السعودي وعلى درجة من الدقة في تدوين الأحداث

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
TT

الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)

يعود المفكر والأديب والمؤرخ والرحالة والشاعر والرسام العربي اللبناني أمين الريحاني، إلى الواجهة مجدداً، بعد 85 عاماً على رحيله، من خلال احتفاء دارة الملك عبد العزيز، بمضيّ قرن على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي يعد خلاصة رحلة المؤرخ الراحل إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و 1924.

ويرعى الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، ندوة علمية، تنظمها الدارة، بالتعاون مع مؤسسة أمين الريحاني، الأربعاء 15 يناير (كانون الثاني)، للاحتفاء بمئوية صدور كتابه «ملوك العرب»، وذلك في قاعة الملك عبد العزيز للمحاضرات.

الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز (الشرق الأوسط)

ووفقاً للمؤرخ الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، فإن أمين الريحاني يعد أحد مصادر التاريخ السعودي، وكان على درجة من الدقة فيما يتعلق بالمعلومات والأحداث التاريخية، مشيراً إلى أن ابن أخي الأديب المهجري اللبناني أمين الريحاني أصدر عام 2000 كتابه «الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز والريحاني»، تناول ومضات الإعلام الخارجي في تلك الرسائل، إذ أبانت الحسّ الإعلامي الفطري عند الملك، واهتمامه بالرأي العام الخارجي، وأشارت إلى تنفيذ الريحاني مبادرات وصيَغ إعلاميّة متقدّمة، إذا ما قيست بظروف عشرينات القرن الماضي ومعاييره، كالمقالات السياسيّة في الصحف اللبنانيّة والمصرية، وإلقاء المحاضرات في الجمعيّات الأميركيّة والكنديّة والأوروبيّة وإذاعتها في الإذاعات، مما قام به الريحاني ودّيّاً بوصفه صديقاً للملك، خدمةً للإعلام السياسي للدولة السعودية الناشئة.

وأضاف الشبيلي في مقالة كتبها في «الشرق الأوسط» نهاية أبريل (أيار) 2018: «وقد وقعتُ على كتابين قديمين -نادرين بالنسبة لي- يتّصلان بسيرة أمين الريحاني وتراثه: الأول؛ أصدره عام 1951 ألبرت، وهو الشقيق الأصغر للريحاني، ونشرته دار الريحاني ببيروت في 570 صفحة، متضمّناً رسائل خاصة أمكن العثور عليها حتى عام صدور الكتاب، تبادلها مع عدد من الساسة والمفكّرين، يقع تاريخ كتابتها بين عام 1896 والعام الذي توفي فيه 1940، وهي تضمّ خمائل من أدب الريحاني، وألواناً من إبداعاته في الفكر والشعر والفن والسياسة والعلوم، وتكشف عن أهوائه وهواياته، وهمومه وآلامه وتجلّياته، وتعرض جوانب من شخصيّته، وهي أولاً وأخيراً، لون متميّز معروف في التراث العربي (أدب الرسائل) وقد أضاف إليها ابن أخيه عام 2000 مخاطبات عمّه مع الملك عبد العزيز، كما سبق».

غلاف كتاب «ملوك العرب» الذي سيحتفى بمضي 100 عام على صدوره

وزاد بالقول: «أما الكتاب الثاني؛ فهو بالغ الأهميّة كذلك، صدر عام 1979 بمناسبة الذكرى السنويّة لمولد الريحاني (عام 1879) واعتنى بإصداره أخوه ألبرت أيضاً، ويتضمّن فهارس بيبلوغرافيّة في 550 صفحة، لمجمل ما نُشر عن الريحاني ومنه حتى ذلك العام، في المطبوعات العربيّة والأجنبيّة في الشرق وفي المهجر، نشرته المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت».

وشدد على أنه «رغم قِدَم الكتابين، وأنه مضى على صدورهما حين من الزمن، فإِنهما يُشكّلان ذخيرة نفيسة لمن يسعى للاطّلاع على تراث هذا الأديب العربي الكبير، الذي توفي في حادث سقوطه من دراجة في بلدته (الفريكة) بلبنان عام 1940 عن 63 عاماً، ولا غنى لمن يعمل على سيرته والتنقيب في أعماله عن كتابيه المشار إليهما، ولا يملك من يطّلع عليهما إِلا أن يتمنّى تحديثهما، وإضافة ما جدّ عليهما خلال العقود الماضية».

ومع أن الريحاني لم يُعمّر طويلاً، وأنه أمضى زهرة شبابه في المهجر (أميركا)؛ فإنه مع بداية العشرينات زار الحجاز ونجداً وعدداً من الدول العربيّة والأوروبيّة، واتّصل بكثير من القادة والساسة، وراسلهم وكوّن صداقات معهم، ومن بينهم الملك عبد العزيز، والشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، ويحيى حميد الدين، إمام اليمن، وأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت، وسلمان آل خليفة، أمير البحرين، وفيصل الأول، ملك العراق، ومن المفكّرين العرب جرجي زيدان، وأحمد شوقي، ومحمد كرد علي، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وغيرهم.

وذكر الشبيلي أن من مؤلّفاته النثريّة والأدبيّة الثلاثين، والخمسة والعشرين بالإنجليزيّة، كتابين اثنين، هما؛ ملوك العرب (1924 - جزآن) وتاريخ نجد الحديث (1927)، والثاني يُعدّ قطعة من تاريخ السعودية، وعلى درجة من الدقّة فيما يتعلّق بالمعلومات التاريخيّة، بحكم أنه استقى كثيراً منها برواية الملك عبد العزيز نفسه، وكان الملك يطّلع على تطوّر إصداره، ومرتاحاً لما تضمّنه من مواد، وإن كانت تردّدت شبهات حول زيادات فيه من تصرّف الريحاني، قد تكون ناتجة عن غيرة، كما يحدث أحياناً بين المتنافسين.

وحسب الزركلي، فإن للريحاني كتاباً ثالثاً نشره بالإنجليزيّة بعنوان «ابن سعود ونجد»، صدر بعد عام 1927، ومما ذكرته الجريدة الرسميّة السعودية «أم القرى» عن الريحاني، حضوره عام 1926 استقبال أعيان الحجاز للملك عبد العزيز، في منزل الشيخ محمد حسين نصيف، عند مَقدمه لأول مرّة، وإلقاء كلمة فيه.

استمر التواصل واللقاءات بين الملك عبد العزيز والريحاني نحو عشرين عاماً، تدور مراسلاتهما حول النزاع بين السعوديين والأشراف في مطلع العشرينات، والأحداث الحدوديّة الجارية مع اليمن في أوائل الثلاثينات، وحرص القيادة السعودية على إطلاع الرأي العام الداخلي والخارجي بصراحة وموضوعيّة على مجريات تلك الأحداث أوّلاً بأول، كما كان يتلقّى التأكيد على إيلاء القضيّة الفلسطينيّة الاهتمام الواجب، وذلك قبل نشوء دولة الاحتلال بأعوام.

هدف كتاب «ملوك العرب» إلى التعريف بسِيَر ثَمَانيَة من قادة العرب، من خلال معرفة المؤلّف بهم، فيما تطرّق كتابه الثاني «تاريخ نجد الحديث» إلى سيرة الملك عبد العزيز، وتاريخ الدولة الجديدة التي جمع شتاتها، وأنه بصدد إعلان توحيدها سياسياً في دولة واحدة (1932) وقد استقى المؤلّف كثيراً من التفاصيل من الملك مباشرةً كما سلف، فضلاً عن نشر الوثائق والرسائل التي كانت بحوزة المؤلّف، وتَحَرّى الدقّة في ضبط أسماء الأعلام والبلدان، كما ضمّ الكتاب ثلاث نُبَذ عن نواحي نجد، والوهابيّة، والأسرة السعودية الحاكمة.

وبعد؛ لعل مما يُسجّل دليلاً على حنكة الملك عبد العزيز، ضمن جهوده في تأسيس الدولة طيلة مدّة حكمه (54 عاماً) أنه أحاط ديوانه بمستشارين رسميين من جميع الأقطار العربيّة (منهم يوسف ياسين من سوريا، ورشدي مَلحَس من فلسطين، وفؤاد حمزة من لبنان، وحافظ وهبة من مصر، وعبد الله الدملوجي ورشيد عالي الكيلاني من العراق)، وبأصدقاء مفكّرين (منهم عبد الله فيلبي من بريطانيا، ومحمد أسد من النمسا، وأمين الريحاني من لبنان)، فضلاً عن نخبة من المستشارين المثقفين السعوديين (منهم أحمد بن ثنيّان آل سعود، وعبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، وخالد السديري، وإبراهيم المعمّر، وحمزة غوث) يلتقيهم كل يوم، ويناقش آراءهم، ويتخاطبون معه مباشرةً، ومع ذلك يكون الرأي الأخير له، والقرار إرادته، ومن هنا صارت له الغَلَبة والتوفيق، بفضل الحكمة والدهاء والمشورة والثقة بالنفس.


مقالات ذات صلة

الإعلان عن «مهرجان أبوظبي الثقافي 2025» تحت شعار «أبوظبي: العالم في مدينة»

ثقافة وفنون يسعى «مهرجان أبوظبي 2025» إلى تقديم تجربة ثقافية شاملة تشمل الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والباليه والمعارض التشكيلية (الشرق الأوسط)

الإعلان عن «مهرجان أبوظبي الثقافي 2025» تحت شعار «أبوظبي: العالم في مدينة»

أعلنت مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون عن برنامج الدورة الثانية والعشرين من «مهرجان أبوظبي 2025» الذي سيقام تحت شعار «أبوظبي: العالم في مدينة».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
العالم الدكتور زهير الحارثي أمين عام المركز خلال الحفل (كايسيد)

«كايسيد»: نستثمر في مستقبل أكثر سلاماً

أكد الدكتور زهير الحارثي، أمين عام مركز الحوار العالمي «كايسيد»، أن برامجهم تستثمر في مستقبل أكثر سلاماً بجمعها شخصيات دينية وثقافية لتعزيز الحوار والتفاهم.

«الشرق الأوسط» (لشبونة)
ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
ثقافة وفنون الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت، صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
يوميات الشرق منحوتاته تعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل (كارين أخيكيان)

الأرميني كارين أخيكيان لـ«الشرق الأوسط»: منحوتاتي صوت معارك النساء

كارين أخيكيان نحّات من أرمينيا، تستكشف أعماله موضوعات الصمود والعواطف المركَّبة. باستخدامه أسلاك الحديد والنحاس، يبتكر منحوتات تعكس تخبُّط الروح وإنجازاتها.

فاطمة عبد الله (بيروت)

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة
TT

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول: «أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة»، كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على رؤية ما لا يُرى.

أمثلةٌ كثيرة تصلحُ استشهاداتٍ للضدّ النوعي للشاعر «المصنوع من مادّة اللغة». أظنُّ أنّ بورخيس يتقدّمها باستحقاق كامل حتى صارت الإشارة إلى نمط «الكتابة البورخيسية» توصيفاً للكتابة المتقشّفة لغوياً، التي تقود عقل القارئ نحو الأفكار التي يسعى الكاتب أو الشاعر لتمريرها. لن تتفق الكتابة القائمة على الملاعبات اللغوية أو المصارعة المؤسّسة على تشكيل تراكيب لغوية معقّدة في أن تكون بديلاً عن جماليات الأفكار الرفيعة. ربّما - وأقول ربّما - كانت هذه الإغواءات اللغوية لدى الكاتب مقاربة تعويضية عن فقر الأفكار. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ولكلٍّ منّا أمثلته وتجاربه ورؤاه.

كلّنا كائنات لغوية، وكلّنا مصنوعون من مادة اللغة. هذه حقيقة نعيشها كلّ يوم وليست إعلاناً يتسربل ببلاغة مقنّعة تسعى لتمرير رسالة مضمرة بالفائقية الإبداعية. يمكن محاججةُ بطلان هذه المقولة من أوجه كثيرة أوّلها المحاججة الفلسفية - الوجودية. اللغة منتَجٌ ينشأ عن علاقات تفاعلية دماغية عنوانها الأكبر: الوعي Consciousness. الوعي يتقدّم على اللغة، وبمعنى آخر: الأفكار تتقدّم على اللغة. الوعي وقدرته المتفرّدة في تخليق الأفكار خصيصة عالمية وليست محلية أو جماعاتية مثل اللغة. صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة، ومن يرى الشاعر محض كائن يجيد التلاعب الحرّ والمتدفّق والمدهش بعُدّته اللغوية يبخسُ وظيفة الشاعر إلى حدود معتلّة. الشاعر يستخدم اللغة وسيلة لتخليق أفكار ورؤى يرادُ منها كسرُ قشرة الواقع الصلب والإطلالة على عوالم ميتافيزيقية غير مختبرة لإضفاء الدهشة والفتنة على عالمٍ يقتله الملل وضيق حدود التجربة الحسية. الغريب أنّ هناك من يسعى لجمع الفيلسوف مع الشاعر في أنّ كليهما كائنان مصنوعان من مادة اللغة؛ لكنّ تلك حكايةٌ أخرى.

ما هو أكثر أهمية بكثير من المحاججة الفلسفية - الوجودية هي المحاججة الوظيفية: ما هي وظيفة اللغة؟ وكيف نتعامل معها؟ أهي أداة تواصلية أم غاية جمالية ونفسية تُطلَبُ لذاتها؟ في هذا السياق سأورد المثال التصويري التالي: لنتصوّرْ أنّ مواريثنا اللغوية في كلّ الفعاليات المعرفية المعروفة هي ميراث مادي محسوب بكمّ من المال. يبدو لي الكائن اللغوي (الذي يتباهى بأنّه مصنوع من مادة اللغة) وكأنّه سيأخذ نصيبه من المال ليبتاع نظيره سيارة «رولز رويس» عظيمة الفخامة. أما الكائن غير الشعري فسيوزّع ميراثه في أشكال عدّة: سيشتري عقاراً، وربّما قطعة أرض، ولا بأس من سيارة أيضاً. ما بها سيارة «تسلا» مثلاً؟ سيارة ممتازة بمواصفات رائعة وبسعر أقلّ من عُشْر سعر الرولز رويس.

هل تتخيّلون المشهد؟ مُقتني الرولز رويس سيتحوّلُ خادماً لها بدلاً من أن تخدمه هي لأنّه وضع كلّ ماله فيها. سيقلق عليها كثيراً، وسيلمّعها كل يوم، وسيخشى الخروج بها خوفاً من أن ينالها خدشٌ صغير. لن يخرج بها إلا لمشوار قصير يؤكّدُ فيه سطوته وأرستقراطيته الموهومة التي ربما تجعل منه كائناً متغطرساً. لن يجرّب قيادة سيارة أخرى طيلة حياته لأنّه منذور لوهْمٍ امتلك عقله في أنّ سيارته هي الأغلى والأجمل والأكمل والأفخم. الغريب أنّ هذه السيارة لن تأتي له بعائد مالي لأنّه يرى امتلاكها بديلاً عن كلّ عائد مهما كان عظيماً. سيظلّ كلّ حياته موهوماً بكلاسيكيتها الفائقة، ولن يفكّر بما يمكن أن يطرأ على تصميمها من تغيّرات بفعل نتائج امتحان السيارة في أنفاق الهواء Wind Tunnels وما يترتّب عليها من ضرورات تغيير التصميم بغية تقليل استهلاك الوقود ونفث أكاسيد الكربون والنيتروجين الملوّثة للبيئة.

مُقتني (تسلا) من جانب آخر يعيش تجربة مختلفة تماماً عن مقتني الرولز رويس. يتنقّلُ في سيارة عملية ممتازة لا تسمعُ ضوضاء فيها. السيارة تخدمه ولا يخدمها. صيانتها معقولة ميسّرة وبكلفة ممكنة، والسيارة بذاتها مصدرٌ لمداخيل مالية ونزهات ترفيهية لأنّ مقتنيها يستخدمها في متابعة شؤونه المالية والحياتية اليومية. لا غطرسة في الأمر بل حياة طبيعية معقولة، ومتى ما أراد صاحبها استبدالها كلّ ثلاث سنوات مثلاً فيمكن له ذلك لقاء بدلٍ مالي بسيط. تسلا ليست مثل الرولز رويس. بطارية الليثيوم المولّدة للكهرباء فيها تشهدُ تغيّرات ثورية لتحسينها وتعظيم كفاءتها كل سنة، ويمكن استبدالُ البطارية القديمة بواحدة جديدة مُطوّرة بكلفة يسيرة لا ترهق الجيب. تطوّرات الذكاء الاصطناعي وإمكانية القيادة الذاتية تشهد تجاربها الريادية الأولى عادة مع سيارة «تسلا». هل يمكن أن يحصل هذا مع رولز رويس؟

هكذا هو حال كلّ كائن لغوي، مصنوع من مادة اللغة، شاعراً كان أم كاتبا. اللغة لديه ليست سوى «رولز رويس» هي كلّ ميراثه، وقد استطاب الجلوس داخلها وخدمتها كلّ حياته. ليست كلّ ميراثه فحسب؛ هي كلّ بضاعته أيضاً. كيف تعرف هذا الكائن اللغوي؟ من نصوصه. تقرأها فتشعرُ وكأنّ كاتبها خاض نزالاً عنيفاً بالمصارعة للوزن الثقيل مع الكلمات. هو ليس كائناً مسترخياً عندما يواجه الكلمات، وحالُهُ في هذا حالُ مخرج أفلام سينمائية منحتَهُ مائة مليون دولار ونصّاً لسيناريو. ماذا سيفعل؟ سينسى السيناريو ويجعل كلّ همّه أن يقنعنا بأنّ فيلمه الذي نراه قد أنفق عليه مائة مليون من الدولارات. الإبهار والبهرجة المشهدية ستتقدّمُ بالضرورة على الأفكار في مثل هذه الأفلام. وهو ما ينفّرني من مشاهدة الأفلام ذات الميزانية الضخمة، وأفضّلُ عليها الأفلام متواضعة الميزانيات التي تتوفر على مستوى فني رفيع وأفكار غير مسبوقة.

يقترن هذا الموضوع اقتراناً عضوياً بموضوع البلاغة Rhetoric. البلاغة معضلة كبيرة وبخاصة مع العربية؛ إذ ما أسهل أن ينزلق المرء في لجّة الألعاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبية. ليس الوقوع في فخّ البلاغة وقفاً على العربية. لنقارن مثلاً بين إنجليزية العصر الفكتوري وإنجليزية العصر الحالي، سنجد فروقاً هائلة بينهما. البلاغة اليوم هي بلاغة الأفكار وليست بلاغة الألعاب اللغوية، واللغة اليوم هي وسيط لتمرير الأفكار وعرضها برشاقة ووضوح من غير التباسات مؤذية. وظيفة اللغة أهمّ من الألعاب اللغوية مهما بدت جميلة مغوية، أمّا الغطرسة اللغوية فتلك قمّة جبل المأساة. الشاعر أو الكائن اللغوي، وكأي كائن اختصر كلّ قيمته الوجودية في حكاية ملحمية واحدة، سيكون من البدهي أن يرى بضاعته اللغوية أعلى مقاماً من سائر البضائع. الأخطر عندما تنقلب الغطرسة اللغوية شوفينية لغوية.

اللغة ليست لعبة ميكانو يجاهد الشاعر (أو الكائن اللغوي) في ابتداع أعداد متزايدة من الأشكال المعقّدة فيها. بساطة التراكيب اللغوية هي الأجمل من العبارات اللغوية الملتفّة الملتوية.

هل يرى البعض امتيازه الأكبر في أنّه مصنوعٌ من مادة اللغة؟ لا بأس في هذا. فليبقَ مأسوراً داخل «رولز رويس» التي يملك، وسيكون شاهداً على تقادمها حتى الاندثار. ليته يجرّب أن يطلّ برأسه خارج سيارته المتقادمة؛ فلربما سيرى سيارات «تسلا» تحلّقُ فوقه بمحرّكات تعمل بالهيدروجين أو بالكهرباء بعد سنوات قليلة قادمة.

كلنا نحب اللغة ونعشق منتجاتها الرفيعة، لكن لا معنى ولا فائدة من قضاء حياتنا ونحن ندور حول عرش اللغة الذي نحسبه مقدّساً.

اللغة بضاعة غاطسة في المعضلات الدنيوية، وجمالُها وفائدتها نتاجان مباشران لدنيويتها وكونها بضاعة يومية. اللغة المقدّسة المترفّعة عن لغات العالم لا تصلح لمعايشة البشر، ومكانها الطبيعي موضعٌ صغير يتوارى خلف واجهة زجاجية في متحف للآثار القديمة.