«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

حسن كريم يعيد اكتشاف بغداد بين المتن الرسمي وسرد الهامش

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية
TT

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة، مع أن مؤلفه الروائي حسن كريم عاتي أصرَّ على تجنيسه على غلاف الكتاب بالرواية.

فالكتاب يفتقد المقومات المعروفة للبنية الروائية ومنها الراوي والمروي له، والمتن الروائي بما فيها من حدث وشخصيات وأزمنة وحوارات ومخلوقات من لحم ودم، وقد يدفع هذا القارئ إلى القول بأن هذا الكتاب عبارة عن مدونة تاريخية عن مدينة بغداد، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور عام 144 هجرية وحتى اليوم، بلغة تدمج بين التاريخ ولغة السرد الروائي الحديث.

ولكني، مع كل ذلك، وبرغم كل هذه التحفظات أرى أن هذا النص هو حقاً رواية، لكنها رواية من نوع خاص واستثنائي، وربما يُستحضر مفهوم الرواية هنا من الموروث العربي والإسلامي، حيث كان هذا المفهوم ينصرف إلى نقل وتدوين الوقائع والأحداث التاريخية، أو تناقل الأحاديث النبوية مع الاحتفاظ بسندها ورواتها بما يتفق و«علم الجرح» أو «علم الرجال» في الموروث العربي.

هذه الرواية تتخذ من المكان بطلاً، والمكان هنا مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد، وسيرورتها نحو الشيخوخة وصولاً إلى الحاضر. لذا يمكن النظر إلى الرواية هذه بوصفها سيرة أو ترجمة يدونها روائي معاصر لمدينة بغداد، بعد أن أشبعها المؤرخون المتقدمون منهم والمتأخرون دراسةً وتدويناً ووصفاً.

ولا يعمد المؤلف، في البنية الزمنية للرواية إلى التسلسل التاريخي الرسمي أو الكرونولوجي للأحداث، بل إلى منطق حجر النرد وأوجهه الستة، مستهلاً روايته بـ6 تساؤلات، بعدد أوجه حجر النرد، ويتساءل في الفقرة السادسة عما إذا كان ما سيرويه يمثل الحقيقة:

«تساؤلات ستة، تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادة الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم»، (ص7). لذا يعمد المؤلف بين آونة وأخرى إلى تقليب أوجه النرد باستمرار: «فلنحاول مرةً أخرى تقليب وجه آخر من وجوه حجر النرد» (ص10).

كما تتحول وجوه حجر النرد هذه إلى تمفضلات للبنية السردية للرواية على الوجه التالي: كوكب الهوى (يك)، أساور العروس (دو)، هل أتاك حديث المغل (سي)، هناك من يستذكر الملك (جهار)، أم يأكل الأبناء ثديها (بنج)، الدكتاقراطية (شيش). لكن الباب الثالث الموسوم بـ«باب المراد» يتحرر نسبياً من سلطة النرد.

والرواية لا تعتمد على التاريخ الرسمي، في سرد تشكل مدينة بغداد ونموها عبر التاريخ، بل إلى ما هو مهمش وعرضي ومسكوت عنه من تاريخها، كما نجد تناصات كثيرة مستقاة من كتب تاريخية عن بغداد؛ منها «تاريخ بغداد» لابن الخطيب، و«الروض المعطار في خير الأمصار» للصنهاجي، ومن رسائل سلطانية مختلفة، تضع الخطوط العريضة لكيفية قيادة السلطان أو الخليفة أو الوالي لشؤون الرعية، بما يصح أن نسميه بكتاب «الأمير العربي» الذي سبق كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيلي.

ويلعب المؤلف لعبة نرد أخرى يكشف فيها عن التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة: «وبتقليب وجهٍ آخر من وجوه النرد، تبدو الصورة أقرب إلى الكمال، ولن تكتمل، فإن التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة»، (ص11). ويشير إلى أن «هذا النسق من هيمنة السلطة على (الرعية) أو (العامة) هو القانون المتوارث في سياسة السلاطين لتحقيق اجتماع الرعية وسلامة بقائهم يزفه سلطان في فم سلطان»، (ص12).

ويبحث الروائي في الأسباب التي جعلت الخليفة أبا جعفر المنصور يختار مدينة بغداد عاصمةً بديلة له عن الهاشمية التي اتخذ منها أسلافه عاصمة عند تأسيس الدولة العباسية. فقد كان الخوف يتسرب إلى نفسه من ولاءات الأنصار والمدن البعيدة والقريبة. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة، والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً؛ ولذا - وبعد استقصاءات طويلة - قرر ترك مدينة الهاشمية التي اتخذها أسلافه عاصمة لهم، والبحث عن مكان بعيد عن الولاءات المعروفة، فكان أن وقع اختياره على مدينة بغداد لتكون عاصمة المملكة. «ذلك ما كان يفكر به الخليفة، ولو قال له اليعقوبي، ما كان له بعد بنائها... لما خطر ببال الخليفة أن تكون كما قال جزيرة بين دجلة والفرات، دجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا... فهي واسطة العقد، في مدن الزمان، على ما أجمع عليه قول (الحساب) وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء»، (ص23). «وبذا كان اختيار الخليفة لعاصمته الجديدة، فترك الهاشمية وبدأ ببناء مدينة بغداد سنة 145»، (ص28).

وعند تقليب حجر النرد على الوجه «دو» يبتدئ فصل «أساور العروس» بدخول الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور، على بغلة بيضاء مرتدياً قلنسوة الحرب السوداء، وهو يشاهد العرض العسكري، يحف به، وخلفه رجال دولته (ص29)، وتدور رحى الحياة بحلوها ومرها، ويتوالى خلفاء بني العباس إلى أن يدخل عليهم الأعاجم ويجتزون رأس آخر خلفائهم ويرفعونه على باب المدينة المقابل للجسر. (ص39).

ويكشف النرد في حركته الجديدة على الوجه «سي» حكاية دخول المغول، أو المغل، بغداد، واحتلالهم مدن الخلافة من الموصل إلى أسوار بغداد، ونشرهم الرعب بين الناس: «فقد وصلتنا قوافل الهاربين من الموصل إلى أبواب دار السلام»، (ص41).

وفي محاولة لمواجهة هذا الغزو المغولي، جمع الخليفة أمام أبواب المدينة جيشاً بـ800 فارس، هي كل القوة التي استطاع جمعها، لكن جيش المغول كان كبيراً ووحشياً؛ لذا فسرعان ما سقطت بغداد عندما حاصرت جيوش المغول أسوار بغداد وأمطرتها بقذائف النفط والحجارة، ووضع المغول الخليفة داخل كيس جلدي وقُتل رفساً، وهكذا انتهت الدولة العباسية واستبيحت بغداد من قبل المغول أيما استباحة. وفي نقلة جديدة لحركة حجر النرد «جهار» ينتقل المؤلف زمنياً، وهو يؤرخ لبغداد، إلى العصر الحديث عندما عين الإنجليز الملك فيصل الأول ملكاً على سوريا، ثم نقل إلى العراق. وكان العراق قد تخلص للتو من ربقة 4 قرون من الاحتلال العثماني الذي حكم زوراً وبهتاناً تحت اسم الخلافة الإسلامية، ليسقط تحت حكم كولونيالي جديد باسم الانتداب البريطاني على العراق، والذي قوبل بثورة شعبية عارمة، هي ثورة العشرين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1920، التي أجبرت الإنجليز على مراجعة خططهم والتخفيف من وطأة الاحتلال بسلسلة من الإجراءات الشكلية، منها تأسيس مجلس النواب، ومجلس الوزراء، وبناء جيش وطني تحت مظلة الدولة العراقية الجديدة.

وفي نقلة جديدة لحجر النرد «بنج» ينتقل المؤلف إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وقد فزعت بغداد لمقتل ملكها الشاب غازي بحادث سيارة، يتهم فيه الناس الإنجليز بتدبيره؛ لذا امتلأت الشوارع بالمحتجين والمتظاهرين المنددين بالسيطرة البريطانية، وبالثأر لدم الملك الشاب. ويستمر نضال الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية في وثبة كانون 1948، وانتفاضة 1952، واختتمت بثورة 14 تموز عام 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، بإعلان النظام الجمهوري ونهاية الحكم الملكي في العراق. لكن السرد سرعان ما يقودنا إلى صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجى على الأرض بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من البعثيين الذين مارسوا أبشع أنواع التقتيل والاضطهاد بحق العراقيين. ونجد نقلة أخرى سريعة لحكم أحمد حسن البكر، وإرغامه من قبل صدام حسين على التنازل، في مجزرة «قاعة الخلد» المشهورة.

وفي حركة جديدة لحجر النرد «شيش» يدون الروائي سلسلة جرائم البعث وقائده الديكتاتور صدام حسين، ومنها اجتياحه الإجرامي للشقيقة الكويت، وقبل ذلك حربه الدموية مع الجارة إيران، مما جرّ البلاد إلى المزيد من الويلات منها حرب الخليج لطرد جيش صدام من الكويت التي كان ضحيتها الجيش العراقي. ويستمر مسلسل العنف والانهيار حتى دخول قوات المارينز الأميركية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وكان إسقاط تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس كناية عن هذا السقوط وانتهاء حكم دولة البعث وهيمنته الكولونيالية الأمريكية.

وفي الفصل الثالث والأخير من الرواية الموسوم بـ«باب المراد» يدون الروائي، بوصفه مؤرخاً، تفاصيل جديدة لم تستخدم في وجوه حجر النرد المعروفة، جانباً من معاناة الأسرة العراقية التي ثكلت بأبنائها، ومظاهر الفجيعة التي طالت الزوجة والأبناء حيث يصرخ طفلٌ اكتشف حقيقة موت أبيه: «هل يعني ذلك أني أصبحت من دون أب؟!» (ص105). ويعمد الروائي إلى توظيف المفارقة الساخرة أمام جثة القتيل، عندما تعلن الزوجة الثكلى، في لون من الكوميديا السوداء، أن هذه الجثة ليست لزوجها: «الجثة التي أتوا بها لم تكن حليقة العانة، وزوجي قبل ذهابه بـ3 أيام قد حلقها»، (ص106).

وينتقل الروائي من سرد المتن الرسمي إلى سرد الهامش وعالم المهمشين في لقطات متتابعة منها لقطة الفتيات وهن يحملن جرار الماء، ويتوقف أمام منظر مدينة من مدن الطين هي مدينة الشاكرية في جانب الكرخ، التي وجدت مثيلاً لها في الكثير من مناطق بغداد آنذاك: «فالشاكرية في كرخها بين العباسية من شمالها الشرقي، وحتى الكاورية في جنوبها الشرقي، ومن أم العظام في جنوبها حتى محطة غربي بغداد لسكك الحديد، مدينة طين»، (ص115). لكن الشاكرية لم تكن مدينة الطين الوحيدة، فقد تكاثرت مدن الطين في شرق العاصمة وغربها، مثل خلف السدة المسماة بـ«العاصمة» في الرصافة، والوشاش في الكرخ. ويكشف الروائي عن ثمرة هذه المعاناة التي تمثلت في الجذور الأولى لحركة الاحتجاج السياسي متمثلة في شخصية «دوسر» ابن الشاكرية الذي فقد عينه بسبب النضال من أجل الصرائف. (ص122).

تتخذ الرواية من لعبة النرد فضاء سردياً تتمثل من خلاله سيرة مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد والمخاطر التي واجهتها حتى الحاضر.

وفي مظهر آخر للكوميديا السوداء يقدم لنا الروائي مشهداً لصاحب بغل (مجاري) فَقَدَ بغلَه وقيل له أن يبحث عنه في هذا الباب، إذ شوهد وهو يدخل هذه البناية، التي كانت مبنى لمجلس النواب (ص125). وعندما روى «دوسر» ابن الشاكرية هذه الحكاية نصحه أحدهم بأن يتجنب سرد هذه الحكاية لكيلا يقولوا عنه إنه من المعادين.

وفي الفصل الأخير «هامش سفر النرد» نكتشف أن المؤلف كان قد وضع عنواناً ثانوياً لمؤلفه هو «سفر بغداد»، وكان ينبغي أن يدرج ولا يحذف كما هو الحال. وبعد أن يستشهد بمقولة دالة للتوحيدي، يختتم الرواية بالقول، ملخصاً تاريخها، الذي يتوج الإنسان على قمة التاريخ والمكان: «فما حدث في بغداد حدث في غيرها من بلاد العرب والعجم، وفي دار السلام وفي دار الحرب، فهو يتصل بالإنسان أكثر من اتصاله بالمكان»، (ص127).

ومن هنا نكتشف أننا إزاء رواية من نوع خاص، قد تتجاوز التجنيس الرسمي لفن الرواية، كما أسلفت، لكنها تظل رواية فيها من الطرافة والجدة الشيء الكثير؛ لأنها تعتمد على التخييل والتاريخ معاً، وتتطلع إلى إجازتها مصنفاً معتمداً: «لإشاعتها بين الخاصة والعامة، ونسبتها إلينا، ونستغفر الله لك ولنا وللعامة». (ص128).

إنها حقاً تجربة كتابية جديدة وفريدة لم نشهد لها مثيلاً في التأليف الروائي، نجح فيها الروائي في بناء رواية تاريخية من مداد افتراضي تخييلي، وبطريقة ذكية ونادرة تستحق الإعجاب والثناء.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع
ثقافة وفنون قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة

دلايات ودبابيس جنائزية من الإمارات

كشفت أعمال التنقيب في الإمارات العربية المتحدة عن سلسلة كبيرة من المدافن الأثرية حوت كثيراً من الحلي والمجوهرات المصوغة من الذهب والفضة والنحاس والبرونز والرصاص

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون أغلفة روايات القائمة الطويلة

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

شهدت الدورة الحالية ترشيح كتّاب إلى القائمة الطويلة وصلوا إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقاً.

«الشرق الأوسط» (لندن)

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.