«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام
TT

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟ عن أي ناس وأية جغرافيا نتحدث حينها؟

هذا هو السؤال الذي يجيب عن كتاب «مانسيرة» الشعري، الذي أطلقه أخيراً الشاعر الإماراتي عادل خزام، بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من مختلف بقاع الأرض، في تجربة أدبية عالمية غير مسبوقة.

تمثل تجربة «مانسيرة» رحلةً شعريةً جماعيةً حيث تتضافر جهود هذا العدد الكبير من الشعراء، كلٌّ بخلفيته الثقافية ولغته الأم، لنسج نصٍّ واحدٍ مُشترك. هذا التنوع يُضفي على الكتاب ثراءً فنياً وجمالياً استثنائياً، فينسجم تنوع الأساليب الشعرية والرؤى الفكرية، ليُشكّل لوحةً فسيفسائيةً تعكس غنى التجربة الإنسانية.

وحتى عنوان الكتاب يُجسّد هذا التمازج الثقافي ببراعة، فهو دمجٌ بين الكلمة الإنجليزية «Man» التي تعني الإنسان، والكلمة العربية «سيرة»، ليُعبّر عن جوهر المشروع في تقديم سيرةٍ إنسانيةٍ شاملة، تحتفي بتنوّع البشرية ووحدتها في آنٍ واحد.

تتخطى «مانسيرة» حدود الجغرافيا واللغة لتُقدّم تجربةً شعريةً كونيةً تحتفي بالإنسان وقيمه المُشتركة، وتُؤكّد قدرة الفن على توحيد البشرية رغم اختلافاتهم. إنها ملحمةٌ تُعيد صياغة مفهوم الهوية والانتماء، لتُؤسّس لِعالمٍ أكثر تسامحاً وانفتاحاً، عالمٍ تُشكّل فيه الكلمة جسراً للتواصل والتفاهم بين جميع الثقافات.

يبدأ الكتاب بمدخل أسطوري شبيه بالملاحم التاريخية ولكن بنفَس حديث:

في البَدْءِ كانَ العالَمُ شيئاً واحداً

لا غربَ لا شرقَ، لا وضوحَ ولا غموضَ

ولا البدايةُ تعرِفُ أنَّ لها نهايةً

ولا النِّهايةُ بَدَأتْ، أو صارَ لها مُؤيِّدونَ

«مانسيرة»: جسرٌ للتواصل بين الثقافات

يفتح لنا هذا المدخل نافذةً على فكرة «وحدة العالم»، حيث تتلاشى الحدود الجغرافية والثقافية، ويصبح العالم بأسره موطناً واحداً للإنسانية جمعاء. إنها دعوةٌ للتأمل في انقسامات العالم وصراعاته التي لا طائل منها، في حين أن البشر جميعاً يتشاركون الحلم نفسه: عالمٌ يسوده السلام والمودة.

تكمن أهمية «مانسيرة» في كونها أكثر من مجرد تجربةٍ شعريةٍ جديدة، فهي تُجسّد تحولاً عالمياً في مفهوم الأدب، حيث تتراجع «الأنا» لِصالح «النحن»، ويتعزز مفهوم الجماعة في عملية التأليف الإبداعي. وتُتيح هذه المشاريع الجماعية الفرصة لِتداخل الأصوات وتنوّع الأساليب، مما يُثري الأدب ويُعزز جاذبيته، ويمنح القراء فرصةً لِلانفتاح على عوالم وثقافات مُتعددة من خلال نصٍّ واحد.

في الفصل الثاني من الملحمة «دوران الإنسان في الجغرافيا والزمن» تنتقل القصيدة من أفكار تشكّل العالم إلى استقراء رحلة البشرية وتشتتها في الصراعات والاختلافات:

ظل البشر، دهراً بعد دهرٍ، يتناسلون في مراعي الفوضى

وقرناً بعد قرنٍ، صارت تُبادُ أمم بكاملها وتنبعث أخرى

ولم يمض وقت طويل، في القرن الأخير

إلا وكانت الخيول قد عبرت إلى الصحراء

وهي تتبعُ اتجاه البوصلة المكسورة

ظلوا يتجهون جنوباً خاسرين شمالهم الحقيقي

حين نصل إلى الفصل الثامن على سبيل المثال وهو بعنوان: «مجتمع القنبلة الذرية» تحيلنا الملحمة إلى الهوة العميقة التي يحدّق فيها البشرُ اليوم في مصيرهم المرعب، حيث يتهدد الكوكبُ بالفناء على يد المهووسين بالسلطة والجشع والحروب. يصرخ شعراء العالم قائلين:

نُحدّقُ في عيون الموت

ويحدّق هو في عيوننا...

ها هو الموت الأعمى، يترك آثاره أينما ذهب

أما نحنُ، فنترك أثر الحياة

وكلماتنا هذه، وأفكارنا، إنما هي إمضاءٌ بأننا كنّا هنا

والإمضاء بمثابة جذر، جذر حي للخلود.

والجذور دلالة على الحياة في حد ذاتها.

هكذا تسترسل في رصدها لتحولات البشر من الوحدة إلى الصراع، وتقرأ مشهدية العالم اليوم المهدد بالدمار الهائل الذي ينبعث منه. ومع توالي الفصول تكون الرؤية قد تشبّعت بأسئلة الوجود كلها، إلى أن نصل في النهاية إلى المآلات والتوصيات في ختام هذا النص العظيم حقاً الذي يمتد إلى 265 صفحة تقريباً.

وأنت أيها الإنسان الفرد – الإنسان الجماعة

إليك وصيّة الدهر الأولى، وها نحن نكررها للمرة الألف

إذا مشيت،

اُكتبْ خطواتِكَ بأنفاسِكَ

واشبُكْ صوتكَ بالريح

لا تدَعْ أحداً حتى نفْسكَ يسلبكَ الدَّهشة

أنتَ المسافرُ في الضوء

أنتَ العارفُ الملهَم

تحدٍ كبير

لا شك أن جمع هذا العدد الكبير من الشعراء في عمل واحد يمثل تحدياً هائلاً، سواء من حيث التنسيق أو الترجمة أو الحفاظ على وحدة النص وتماسكه. إلا أن عادل خزام نجح في تجاوز هذه التحديات ببراعة، فقام بجمع القصائد ونسجها بإبداع ليُخرج لنا نصاً واحداً متناغماً، يستقي جذوره من تنوع الخلفیات الثقافیة واللغویة، ويصهرها في بوتقة إبداعية واحدة تُثري اللغة والأسلوب الشعري.

وبينما كانت تجارب التأليف الجماعي السابقة تركز على سرديات آداب شعوبٍ أو مجتمعاتٍ واحدة، مثل «الكتاب الصيني» أو «كتاب جاك كيرواك»، فإن «مانسيرة» تتجاوز هذه الحدود لتُصبح تجسيداً شعرياً لِرؤيةٍ عالمية، تُعبّر فيها الكلمة عن تجارب إنسانية مُشتركة، وتستند إلى خصوصية الشعر بوصفه وسيلة لِلتعبير عن العواطف والأفكار بِعمق.

يُمكن مقارنة «مانسيرة» بِمشاريع أدبية أخرى سعت لِتقديم رؤية جماعية لِعالمٍ أفضل، مثل «سيفيتاس سوليس» (مدينة الشمس) لِتوماسو كامبانيلا، التي شارك في كتابتها الكثير من الفلاسفة والعلماء. إلا أن «مانسيرة» تتميّز بِطابعها الشعري الذي يمنحها قوةً تعبيريةً خاصة، ويجعلها أقرب إلى القلوب.

الأساليب الشعرية ووحدة الأسلوب

التحدي الأكبر الذي واجهه خزام تمثّل في كيفية دمج الأساليب الشعرية المتنوعة وخلق رابط يوحد النصوص. كل شاعر من الـ86 شاعراً قدم رؤيته الخاصة وتجربته الإنسانية المتفردة، واستخدم خزام منهجاً ذكياً في اختيار النصوص وتنسيقها، بحيث يكون كل نص مكملاً للآخر، ليُشكِّل تياراً شعرياً ينساب بين اللغات والثقافات. ترك للشعراء أولاً ترجمة قصائدهم إلى الإنجليزية، ليضمن وضوح المعاني وتناسق الأفكار، ومن ثم ترجمها إلى العربية بطريقة حافظت على الروح الأصلية للنصوص، وخلقت في الوقت نفسه نصاً سلساً للقارئ العربي. استطاع خزام عبر هذه الطريقة أن يربط بين التجارب المختلفة، حيث إن كل نص يساهم في بناء السردية الشعرية للملحمة، ويخلق جسراً بين الثقافة التي أتى منها الشاعر، واللغة العربية.

16 فصلاً من تأليف 86 شاعراً وشاعرة من 50 دولة منهم 19 اسماً عربياً أطلقه عادل خزام بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من خمسين دولة

حضرت في التأليف الأسماء الشعرية الكبيرة من كل القارات، من بينهم من إيطاليا باولو روفيللي وبيبي كوستا، والبلجيكي جيرماين دروغنبروديت، والفرنسي فرنسيس كومبس، ومن الولايات المتحدة جين هيرتشفيلد وجورج والاس وآنا كيتس، بالإضافة إلى رئيس حركة الشعر العالمي فرناندو راندون ويوجينيا سانشيز نيتو من كولومبيا. ومن بريطانيا فيونا سمبسون وكريس سولت وأغنيس ميدوز، وثلاثة شعراء من الصين هم زانغ تشي وآنا كيكو وكاو تشوي، وثلاثة من اليابان تايكو أويمورا وتيندو تايجن وماريكو سوميكيورا، بالإضافة إلى أسماء مهمة أخرى وكبيرة من كل القارات.

الشعراء العرب

حضر أيضًا الشعراء العرب: سيف الرحبي والراحل زاهر الغافري من سلطنة عُمان، وزكية المرموق من المغرب، وطارق الطيب من السودان، والراحل جلال زنكابادي ومحسن الرملي من العراق، ومعز ماجد من تونس، وحميد العربي من الجزائر، وسعد الدوسري والدكتورة فوزية أبو خالد من السعودية، وبسام جوهر من اليمن، وغسان زقطان من فلسطين، والراحل محمود قرني وأشرف أبو اليزيد من مصر، ويوسف أبو لوز من الأردن، وخلود المعلا وخالد البدور من الإمارات، وليلى السيد من البحرين، وندى أنسي الحاج من لبنان، وشروق حمود من سوريا. أيضاً شارك مجموعة من الفنانين من حول العالم بصور لأهم لوحاتهم، في مقدمتهم الفنان الكويتي القدير سامي محمد.

وعادل خزام اليوم هو أحد مؤسسي تجربة الحداثة الشعرية وقصيدة النثر في الإمارات والخليج، قام بتمثيل دولة الإمارات في العشرات من المناسبات والمهرجانات لنحو 40 سنة. أصدر نحو 20 كتاباً وفاز بجائزة توليولا الإيطالية، وجائزة مهرجان طريق الحرير الذي ترعاه الأمم المتحدة. كما عدّ أدونيس كتاب عادل خزام «الربيع العاري» الكتاب الأكثر جدة واستبصاراً من بين معظم كتب الشعر العربي في الربع الأول من القرن الـ21.


مقالات ذات صلة

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون سامانثا هارفي تمسك بجائزة البوكر ورايتها «أوربيتال» (إ.ب.أ)

سامانثا هارفي: أهدي فوزي لأولئك الذين يتحدثون باسم الأرض

ذكر رئيس لجنة التحكيم، الفنان والمؤلف إدموند دي وال، بأن رواية سامانثا هارفي تستحق الفوز لـ«جمالها وطموحها»

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.