جزآن من «الكتب السوداء» ليونغ بالعربية

جزآن من «الكتب السوداء» ليونغ بالعربية
TT

جزآن من «الكتب السوداء» ليونغ بالعربية

جزآن من «الكتب السوداء» ليونغ بالعربية

ضمن سلسلة «علم النفس» صدر حديثاً عن دار «الحوار» الجزآن الأول والثاني من «الكتب السوداء»، من تأليف كارل غوستاف يونغ، وترجمة سلام خيربك.

وجاء في تقديم الجزء الأول: «يحوي هذا الكتاب الأجزاء 1 و2 و3 و4 من مؤلف يونغ (الكتب السوداء).

كتب يونغ في (الكتاب الأحمر): (لقد حققتُ كل ما تمنيته لنفسي. حققت الشرف والسلطة والثروة والمعرفة وكل سعادة بشرية. ثم توقَّفَتْ رغبتي في زيادة هذه الزخارف، وأخذَتْ تتراجع مُخْليَة محلها للرعب شيئاً فشيئاً). حدث هذا التحول عبر استكشاف يونغ للمخيلة الرؤيوية التي رسمَها في (الكتب السوداء). ليست هذه الكتب مذكرات شخصية، لكنها سجلات لتجربة ذاتية فريدة أطلق عليها يونغ (مواجهته مع روحه) و(مواجهته مع اللاوعي). لم يُسَجِّل الأحداث اليومية أو الأحداث الخارجية فيها، بل تخيلاته النَشِطة، وتصوراته عن حالته العقلية، وتأمّله فيها. ومن تخيلاته فيها، قام بتأليف مسوَّدة (الكتاب الأحمر)، الذي نسخه بعد ذلك بخطّ يده، وملأهُ باللوحات.

ترتبط اللوحات الواردة في الكتاب الأحمر باستكشافات يونغ اللاحقة المستمرة في الكتب السوداء. وبالتالي، فإن (الكتاب الأحمر) و(الكتب السوداء) متشابكان بشكل وثيق. لقد وُلِد (الكتاب الأحمر) من (الكتب السوداء). ومن وجهة نظر يونغ، لم يكن دافعه إلى مبادرته تلك نتاج اهتمامه بنفسه فحسب، بل كان للآخرين سهمهم فيه أيضاً؛ فقد أخذ ينظر إلى تخيلاته ورؤاه كنتاج لطبقة أسطورية عامة من النفس، أطلق عليها اسم (اللاوعي الجمعي). ومن دفاتر التجريب الذاتي، قام بتأليف عمل نفسي في قالب أدبي وديني».

وجاء في تقديم الجزء الثاني: «يحتوي هذا الكتاب على الأجزاء 5 و6 و7 من مؤلف يونغ (الكتب السوداء). كتب يونغ: (كل شيء أمامي معتمٌ ومظلِم. هي بوابة الظلام. من يدخل هناك، يجب أن يستشعر طريقه من جحر إلى جحر. ففي عالم الظلام هذا، كل قيمة تُعَلَّق. وفي هذا العالم يتساوى الجبل بأصغر الأشياء، وتحتوي حبة الرمل فيه العالم بأسره. يجب أن تتخلى عن كل حكم قيمي، وتتخلى معه عن كل حكم منطقي وذوق شخصي أيضاً. تخلَّصْ من كل معرفتك، وَضَحِّ قبل كل شيء بغطرستك. مَن يدخل هنا، يدخل كفقير أو غبي، لأن ما نسميه المعرفة هنا هو الجهل، ورؤية العمى، وسماع الصمم، والشعور بالبلل. ادخل من تلك البوابة فقيراً تماماً، متواضعاً، جاهلاً. ولكن لا تكن حتى في فقرك وجهلك وتواضعك جشعاً أو متغطرساً، ولا تتوقع خبزاً ولا حجارة، بل انظر بلا رغبة أو عاطفة. حوّلْ كل غضبك ضد نفسك.

ومع ذلك، دع أملك، الذي هو خيرك الأسمى وقدرتك الأعظم، يسبقك ويخدمك كقائد في عالم الظلام؛ إذ هو من ذات جوهر مخلوقات هذا العالم. دع أملك يمتدُّ نحوها بلا نهاية. هذا الكتاب هو رحلة في مواجهة مَجاهِلِ الذات وألعاب اللاوعي وأقنعته التي لا تنتهي)».



قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة
TT

قصة قصيرة جداً: المتجولة

قصة قصيرة جداً: المتجولة

امرأة شقراء بعينين عميقتي الزرقة، في الثلاثين من عمرها تقريباً، تدفع عربة طفل وتدور بها في المدينة زائغة العينين مهملة الثياب. على وجهها بقايا جمال غابر، وبكتفين متهدلين أثقلهما هم طويل.

أتذكر أنني رأيتها في اليوم الأول أو الثاني لحلولي في أودفالا السويدية القائمة على منحدر من خليج بحر الشمال الأوروبي كفقمة سمينة وتظل تنتظر صيداً. بعد مدة عرفت أن العربة فارغة، وأن المرأة تكور فرشتها لتبدو وكأن طفلاً نائماً فيها. أتذكر أنني حين سمعت قصتها حزنت وشعرت فجأة بما يشبه الدوار حتى أنني جلست على مصطبة الحديقة لأستريح. هي تجول كل يوم في أرجاء المدينة لا تبقي شارعاً أو زقاقاً إلا وتدخله وعيناها تمسحان الأرصفة والزوايا، تبحث وتستطلع. ثم تدخل حديقة البلدة كأنها تفتش بين أشجارها وسواقيها وصفوف الورد، أحياناً تخرج عن صمتها المطبق وتصدر عنها همهمات وصرخات مكتومة، ثم تقطب بغضب وتلوح بيدها متوعدة شجرة سرو عالية، أو تمثالاً برونزياً على ضفة بركة. فجأة تسترخي ملامحها ويبدو وجهها مشرقاً وقد استعاد جماله وكأنها عثرت على ضالتها. تجلس إلى مصطبة تشعل سيجارة وتهيم نظراتها بعيداً مع سحب الدخان. أحياناً ينبعث منها صوت شجي في أغنية تذكرني بتنويمة الأطفال قديماً عندنا. كم راودني فضول أو نازع عميق لأتجه إليها وأسمع منها لا من الناس حكايتها، ولكن أي قلب عليّ أن أمتلك لأفعل ذلك؟ ثم هل حكايتها لا ترتمي في القلب واضحة كشعاع الشمس؟ أو كحلكة الليل؟ الناس هنا بعضهم يسميها «المتجولة». وكثيرون يسمونها «أم العربة»، بعضهم يقولها بحزن، بعضهم يقولها ضاحكاً. وفي كلا القولين أجدها حالة فظيعة أن تكون امرأة أمَّاً لعربة دون طفل؟ كلما بدا لي أن عربتها أنهكت وتخلعت وحال لون فرشها لما تلقى من ريح ومطر وكثرة سير، أجدها قد استبدلت بها أخرى وفرشاً آخر تحصل عليه من محل الأدوات المستعملة، أو من أمهات يهبن عادة عربات لا يحتجنها وقد كبر أبناؤهن. أحياناً تزوقها وتضع عليها لعب أطفال، وبعض الحلوى. ها قد مر على وجودي في هذه المدينة الغريبة الباردة أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أراها كلما نزلت إلى المدينة تدور بعربة الطفل الفارغة. وجهها الشاحب غاب جماله وامتلأ بالتجاعيد وازداد شحوباً وحزناً كما هو وجهي. أكثر من مرة حلمت أنني أدفع معها العربة ونجوب شوارع لم أرها من قبل. لأبحث معها عن هذا الذي لا أعرف ماذا جرى له تماماً. فأستيقظ لاهثاً. لقد كبرنا، كبرنا كثيراً، والطفل الذي هو ليس في العربة لم يكبر، ولن يكبر أبداً، أو ربما بلغ شيخوخته قبلنا في مكان ما، بعيداً أو قريباً.