دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تقول إنها تحب العمل الذي تترجمه وتقضي معه وقتاً طويلاً

دينا مندور
دينا مندور
TT

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية حول «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، ومن أبرز أعمالها المترجمة: «الفلاسفة والحب»، «صرخة النورس»، «مملكة الموضة زوال متجدد» و«حقيقة قضية هاري كيبر» الحاصلة على جائزة الأكاديمية الفرنسية، وشاركت في عدد من المنح التدريبية بوزارة الثقافة الفرنسية، وهي عضو في «جمعية مترجمي الآداب» بفرنسا... هنا حوار معها حول إشكاليات الترجمة وهمومها الأدبية والأكاديمية...

* طرحتِ تعبير «الرواية ما بعد الاستشراقية» في رسالتكِ للدكتوراه من جامعة السوربون ، حدثينا عن ماهية هذا الاصطلاح.

- عنوان الرسالة هو «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، وهو عنوان أول مرة يتم صكّه في رسالة بحث علمي، شملت الفترة من 1991 حتى يومنا هذا، أي على مدار نحو 30 عاماً. ويشير مصطلح «الكتابة ما بعد الاستشراقية» إلى الفترة التي أعقبت صدور كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد. الكتاب الذي شكّل صدمة للغرب بالطبع، وأثار موجة من الجدل والهجوم العنيف على الاستشراق الكلاسيكي. ومن المعروف أن الارتباط الجزئي الذي تم بين الاستشراق الأدبي والعلمي من جهة، والاستعمار السياسي والعسكري من جهة أخرى، قد أدى لوصم الاستشراق بالتبعية المغرضة والمساعدة في تنفيذ أجندات سياسية تضرّ بالشعوب المُستعمرة أو التي تذكر في الكتابات الاستشراقية.

لذلك، فأدب ما بعد الاستشراق معنيّ بالفصل بين الكتابة في آخر 40 سنة عن الشرق، والاستشراق الكلاسيكي بداية من كتابات أنور عبد الملك في الستينات ومقاله البارز «هل مات الاستشراق؟» الذي طرح أسئلة شائكة قبل صدور كتاب إدوارد سعيد بأكثر من 10 سنوات، وانتقاد متخصصين فرنسيين لهذا الاستشراق الذي عاون الاستعمار. ثم سكت الكلام عن الكتابة عن الشرق الأوسط تحديداً، وشمال أفريقيا، وبدأت موجة كتابة جديدة من الكتابة أخذت تتكثف وتنتشر وتبرز في فرنسا، التي رصدتها الرسالة باعتبارها «ما بعد استشراقية»، وبيّنت اختلافاتها السياقية والأدبية عن الاستشراق الكلاسيكي القديم.

* كيف قمتِ بمعالجة هذه المرحلة من الكتابة بحثياً؟

- امتد البحث عبر 3 فصول، الأول اخترتُ فيه كُتاباً ذاع صيتهم في هذا الكادر الزمني، وفي أعمالهم سمات أساسية حول الكتابة عن الشرق، فتمركزت عينة البحث حول رواية «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، ورواية «بوصلة» لماتياس إينار، ورواية «المصرية» لجيلبرت سينويه. أما الفصل الثاني فتطرق لعلم اجتماع الترجمة، الذي يتناول المرحلة التي يقطعها الكتاب الأصلي وصولاً لترجمته، بما في ذلك حيثيات عملية النشر في فرنسا والعالم العربي، وتحديداً الأسباب التي تجعلنا نُترجم أدباً يتحدث عنا بالأساس ولكن بلغة أجنبية، وأسباب حماس الناشر العربي لترجمة هذا النوع من الأدب، وسط تساؤلات طرحها البحث حول ما إذا كان لدينا فضول لرؤية أنفسنا في عين الآخر، وهل دعم المؤسسات الأجنبية لترجمة أصوات غربية تتحدث عن الشرق من الاتجاهات التي تحدد النشر؟ إضافة إلى لقاءات مع مكتبات رصدت بالإحصاءات نسب مبيعات هذا اللون من الكتابة، وحوارات مع عينة من المترجمين الذين ترجموا روايات فرنسية يدور عالمها في الشرق، كما تطرق الحديث عن مترجمين لا يُفضلون ترجمة هذا اللون من الروايات وأسبابهم في ذلك.

علم اجتماع الترجمة هو بحث في العلاقة بين الكُتاب والناشرين بوصفهم بشراً في الأساس لديهم مشاعرهم وأفكارهم، التي تحمل تأثيراتها على عملية الترجمة، ومدى حساسية مترجم في ترجمة نص يتحدث عن مجتمعه العربي، مكتوب بلغة أجنبية، فهل يتدخل لاشعورياً، فرغم الاحتراف يكون النص بيد إنسان، حيث هناك عامل التعليم وعلاقته باللغة، فنحن نفكر باللغة، والتكوين الفكري يؤثر في الاختيارات اللغوية للمترجم مقارنة بالنص الأصلي، وحساسيته في التعامل مع بعض الألفاظ، وهذا ما تناولته بتفصيل أكبر في الفصل الأخير من الرسالة حول إشكاليات الترجمة.

* ما السياقات الأبرز للكتابة ما بعد الاستشراقية التي قمتِ برصدها؟

- الحديث عن كل ما هو استشراق ظل شائكاً في فرنسا، أقرب لتابو. ومن أهم عناصر تشكيل معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية» هجرة الكتاب العرب للغرب، حتى صارت كتاباتهم عن العالم العربي مرتبطة بنسيج الكتابة في فرنسا، بداية من أمين معلوف، وسينويه، وطاهر بن جلون، وآسيا جبار، وروبير سوليه. كل تلك الأسماء من أصول عربية تعيش في فرنسا، فتشكيلهم وخلفيتهم الشرق أوسطية العربية برزت في الكتابة الفرنسية، وظل سؤال الهُوية مطروحاً في أعمالهم. وكانت هي الشغل الشاغل لأمين معلوف، صاحب العبارة الشهيرة «هُوية واحدة وانتماءات عدة»، وعندما كتب الفرنسي ماتياس إينار عن الشرق لم يذهب إليه بأحكام مُسبقة، بل اندمج تماماً في المجتمع اللبناني والسوري بشكل وثيق، وليس بشكل فانتازي. فقد ابتعدت الكتابة هنا عن الأسلوب المُعلّب الفانتازي المشغول برصد الشرق من هذه الزاوية، كما فرضت موضوعات مثل الربيع العربي والهجرات الشرعية وغير الشرعية نفسها على الأدب كقضايا معاصرة، مع ملاحظة أن المجتمع العربي بشكل عام لم يعد بعيداً بسبب الهجرة، ولم تعد صورة العربي محفوفة بالتغريب الذي كان أحد أبرز عناصر الجذب في الكتابة الاستشراقية. كتابات أمين معلوف، على سبيل المثال، وسّعت الكتابة لإطار إنساني أكبر، من خلال تخليط شخصيات غربية وعربية في متن واحد، فالحدود تم تمييعها من خلال الهجرات بشكل كبير، وهذا انعكس على الأدب.

ولأن الموضوع جديد في مجالات البحث العلمي، فقد انعكس ذلك على قلة المراجع، فهناك أبحاث أكاديمية فرنسية كثيرة، مثلاً عن أدب أمين معلوف، لكن دون الحديث عن ترجمة أعماله إلى العربية، وهو ما تناولته في البحث. كما لم تتوفر أبحاث تخص اعتبار أعماله «ما بعد استشراقية»، لذلك لجأت لتفكيك الاستشراق الكلاسيكي كمدخل تاريخي لما بعد الاستشراق في الأدب المترجم للعربية.

* في مشروعكِ للترجمة ثمة خيط أدبي يتفاعل مع موضوعات تخص المرأة. حدثينا عن هذا الاختيار؟

- يبدو أن ذائقتي تميل للموضوعات التي تتفاعل مع كيان المرأة، فأول عمل قمت بترجمته كان رواية «فاديت الصغيرة» للكاتبة جورج صاند، وكانت تتحدث عن فتاة مراهقة في مجتمع مُغلق تبحث عن الحرية، والمفارقة أن مؤلفة الرواية نفسها اختارت اسم رجل حتى تستطيع النشر، وهناك رواية «صرخة النورس» وهي من أهم الأعمال التي قمت بترجمتها، وهي سيرة ذاتية للممثلة الصمّاء الفرنسية إيمانويل لابوري، التي طالبت منذ سنوات مراهقتها الاعتراف بحقوق الصُم في فرنسا، وهي من أسست المسرح المرئي العالمي، وهو أول مسرح يدمج الناطقين والصم، وكتبت هذه السيرة وهي في العشرين من عمرها.

وأتوقف كذلك عند كتاب «المرأة الثالثة... ديمومة الأنثوي وثورته» للفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل ليبوفيتسكي، الذي قسّم تاريخ المرأة من وجهة نظره إلى 3 مراحل: الأولى مرحلة «المرأة المُأبلسة»، ثم مرحلة الاحتفاء بظهورها وتمجيد جمالها كما تجلى في عصر النهضة، وكان الرجل في المرحلتين هو من يحدد قيمتها، أما المرحلة الثالثة فهي المرأة التي تجد طريقها في كل شيء، ويطرح تساؤلات كثيرة من خلال ربطه بين المراحل الثلاث.

* كانت لديك محطة أخرى في ترجمة جيل ليبوفيتسكي، من خلال كتاب «مملكة الموضة - زوال متجدد»، الذي يطرح فيه تأملات فيما يسميها بـ«الحداثة المفرطة».

- تطرق ليبوفيتسكي لموضوع الموضة بعيداً عن الطرح التقليدي والسطحي له، والتفت إلى الشبكة الاجتماعية لتكوينها، واعتبارها مظهراً من مظاهر المنافسة الاجتماعية، وهو ما أطلق عليها «مملكة الزائل» بمعنى المملكة التي تزول وتعود من جديد، لذلك فالزوال المُتجدد إحدى سمات الموضة، سواء في الأزياء أو العمارة والأثاث حتى الموسيقى، فالحداثة المفرطة من موضوعات ليبوفيتسكي التي يتأملها في أعماله، وأعتقد أنه أحد أبرز المفكرين في فرنسا، وأفخر أنني أول من قدمته إلى العربية، وأبدأ قريباً في ترجمة أحد أعماله الجديدة، التي تسعى إلى تفكيك الظواهر التي تبدو هامشية، ولكنها كاشفة عن أعمق مشكلات المجتمع.

- هل تعدّين أن حصول عمل أدبي على جائزة أدبية حيثية كافية لترجمته إلى العربية؟

- ليس معياراً كافياً أبداً، وقد طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت بأنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي، وهناك معيار آخر هو أنني لا بد أن أحب العمل الذي سأختار ترجمته لأنني أمضي وقتاً طويلاً معه، وفي الترجمة الصادرة حديثاً لي لرواية «حقيقة قضية هاري كبير» لجويل ديكر، لم يكن حصولها فقط على جائزة الأكاديمية الفرنسية 2012 هو المعيار الوحيد الذي دفعني لترجمتها، ولكن تميز الرواية رغم كبر حجمها.

طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت أنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي

* إلى جانب الأسماء المعاصرة، ترجمت لأسماء كلاسيكية في الأدب الفرنسي، أشهرهم مارسيل بروست. حدثينا عن تجربتك في ذلك، قياساً بترجمتك لأعمال كتاب معاصرين.

- أعتقد أن العامل الرئيسي هنا هو الحفاظ على الرسالة والأسلوب الأدبي، فالكتابة الروائية هي أسلوب بالأساس، فلا يمكن أن يشعر القارئ أن جويل كيبر وإيمانويل لابوري وبروست يحملون نفس الأسلوب حين يترجمهم نفس المترجم، فعليه أن يحرص على تقديم أسلوبية الكاتب، وألا يترك أسلوبه الخاص يطغى، فيلغي الأسلوب المتفرد لكل كاتب أصلي. ويعد هذا من أهم إشكاليات الترجمة، فمارسيل بروست على سبيل المثال ذهني جداً في كتابته، ولديه ارتباط كبير بالصور التي يستخدمها بكثرة في تعبيراته، فيكون حفاظ الترجمة على أهمية هذه الصور لديه أمراً ضرورياً، حتى لو اضطررنا للجوء للهوامش في أقل الحدود. وأحياناً ما يكون من مفارقات الاحترافية أن يلجأ المترجم لبعض «الخيانة» للنص الأصلي وإجراء ما يلزم من تغييرات شكليّة كي يراعي شفرات اللغتين (لغة المصدر، ولغة الاستقبال).

* توليتِ مناصب مهمة بهيئة الكتاب المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، برأيك ما أبرز مشكلات الكتاب المُترجم في مصر؟

- أعتقد أن المشكلات الأساسية تظل في تكوين المترجم من جهة، والميزانيات المرصودة، سواء لشراء الحقوق الأدبية أو إعادة طباعة عناوين مطلوبة من القراء، ولكن يتم التوقف عن إعادة طباعتها، وهناك كذلك مشكلة في خريطة التوزيع، فلا أفهم مثلاً لماذا لا يقوم «المركز القومي للترجمة» بتوزيع إصداراته في المكتبات المختلفة، وقصرها على منافذ المركز وبعض المنافذ في الجامعات ومعارض الكتاب بالطبع؟ جهد ممتاز، لكنه غير كافٍ في ظل المتغيرات الحديثة التي تطرأ على حياة البشر.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.