بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

التداخل العضوي بين العلم والأدب

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً
TT
20

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

كنتُ تناولتُ في موضوع سابق نُشِر في ثقافية «الشرق الأوسط» التعليق على روايتين مترابطتين ببعضهما، نُشِرتا للكاتب الأميركي الراحل كورماك ماكّارثي قبل وفاته بقليل. قدّمتُ في ذلك الموضوع تلخيصاً سريعاً لحياة ماكارثي وشغفه الفكري الذي كان أحدَ تمثّلاته هو تبرّعه بمبلغ ربع مليون دولار لمعهد سانتا في Santa Fe Institute الأميركي - الذي يشارُ له اختصاراً «SFI» -، وظلّ مقيماً فيه كعضو دائمي حتى وفاته في يونيو (حزيران) من العام الماضي (2023). تساءلت حينها: ما الذي يجذبُ كاتباً روائياً مكرّساً للإبداع الأدبي للإقامة الدائمية في معهد أراده مؤسسوه أن يكون مركزاً بحثياً لدراسات التعقيد Complexity والنظم المعقدة Complex Systems. يمكن للمرء أن يقول بثقة كاملة إنّ تجربة ماكارثي شاهدة إضافية على التداخل العضوي بين العلم والأدب وسائر المناشط الإنسانية. على المستوى الشخصي دفعتني تجربة ماكارثي للاستزادة في دراسة تجربة معهد «سانتا في» المميزة، فعرفت أنّه مؤسسة بحثية لها منصة تعليمية تنشر باستمرار وانتظام فيديوهات تعليمية وكتباً تختصُّ بدراسة ظاهرة التعقيد والنظم التكيفية المعقدة، وتختصّ بطيف واسع من الموضوعات المشتبكة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسوب والبيولوجيا والاقتصاد والسياسة والبيئة. إنها منصّة ثمينة متاحة للجميع، وأظنها ستكون تجربة في غاية المتعة والفائدة - وأتمنّاها تتحقق لأكبر عدد ممكن - لو حاولنا ولوج هذه المنصّة وتحصّلَ الفائدة من موادها المتاحة.

ربما تكون لعبة الشطرنج مثالاً أفضل من سواه لتمثيل فكرة التعقيد. لوحة الشطرنج ثابتة من حيث موضعة القطع عند لحظة الشروع باللعب، وقواعد الشطرنج بسيطة للغاية؛ لكنّما احتمالات تحريك القطع والحصول على مواضع متباينة للقطع كبيرة للغاية. ربما المثال الآخر هو مكتبة بابل البورخسية التي هي في النهاية تمثّلٌ للكون وإمكانات تطوّره اللانهائية؛ لذا قيل إنّ بورخس أراد بمكتبته أن تكون كناية عن الكون: باثنين وعشرين حرفاً فقط مع نقطة وفارزة وفاصلة يمكن الحصول على ترتيبات مختلفة هائلة الأعداد (تدرسها الرياضيات في الفرع المسمّى Combinatorics). من الطبيعي والبديهي أن نتساءل: كيف تقود تلك المواد الأولية المحدودة في العدد إلى تشكّلات شديدة التعقيد (بمعنى مساءلة ميكانيكيات التشكّل)؟ والأكثر أهمية هو: كيف تقود التشكّلات المعقّدة إلى نشوء خواص انبثاقية Emergent متمايزة نوعياً عن الأطوار السابقة. مثالُ ذلك: ظاهرة الوعي consciousness التي هي خاصية انبثاقية لتعقيد الدماغ البشري. اللغة هي خاصية انبثاقية أخرى للتعقيد الدماغي كما يرى بحّاثة كثيرون.

*****

موراي غيلمان Murray Gell - mann (1929 - 2019) هو أحد الآباء المؤسسين لمعهد «سانتا في»، وتجربته العلمية والبحثية والفكرية تستحقّ دراسة معمّقة. يُعرَفُ عن غيلمان حصولُهُ على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 لمساهمته في اكتشاف الجسيم الأوّلي المسمّى كوارك Quark؛ وبذا فهو أحد كبار الفيزيائيين الذين عملوا في البحث عن الجسيمات الأساسية المشكّلة للكون. ثمة حقيقة يمكن حدسها عند كلّ المشتغلين بالفيزياء الأساسية تتمثلُ في أنّهم مشغوفون دوماً بظاهرة التعقيد مثل شغفهم بالقوانين الأساسية التي تحكمُ العالم الصغير Microcosmos والعالم الكبير Macrocosmos على مستوى الكون والفرد معاً. ثم إنهم يميلون كذلك لرؤية الصورة الشاملة Big Picture بدلاً من الاكتفاء بالصورة المجتزئة.

نشر «معهد سانتا في» أواخر عام 2023 كتاب المؤسس الراحل غيلمان الذي اختار له عنوان «الكوارك والنمر»، مع عنوان ثانوي: مغامرات في البسيط والمعقّد. تأسرني الكتب التي تضمّ عناوينها مفردة «المغامرة». أليست حياتنا سلسلة مغامرات تتفاوت في الكم والنوع؟ نحن جميعاً نتشارك مغامرة العيش حتى من لم يشأ أن يجعل حياته مغامرة وفضّل عليها عيشاً مستكيناً ومرتهناً بشروط اللحظة الراهنة.

يؤكّدُ المؤلف في مقدّمته للكتاب أنّ كتابه هذا ليس بالسيرة الذاتية، رغم أنّه يضمُّ حكايات من طفولته وإشارات إلى مجايليه في مناشط علمية مختلفة، كما أنّ الكتاب ليس حكاية تفصيلية لكيفية بلوغه اكتشافه المثير للجسيم الأساسي (الكوارك) رغم أنّه يتناول حكاية المسعى البشري لمعرفة القوانين الأساسية والعناصر الأساسية المكوّنة للكون والكائنات البيولوجية.

وضع المؤلف كتابه في أربعة أجزاء. في بداية الجزء الأوّل منها قدّم وصفاً للتجارب الشخصية التي قادته لكتابة كتابه هذا:

«... كنتُ أمضي ساعات وساعات في جولات المشي الطويلة في الغابات الاستوائية وأنا أدرسُ الطيور وأنشغلُ بالخطط الممكنة للحفاظ على الطبيعة، وحينها أصبحتُ مأسوراً بفكرة مشاركة القرّاء بالإدراك المتنامي للروابط الجوهرية بين القوانين الأساسية للفيزياء والعالم الذي نراه حولنا.....»

ثم يمضي في الكشف عن أصل تسمية عنوان كتابه:

«... عندما قرأتْ لي زوجتي قصيدة آرثر زي Arthur Sze التي أشار فيها إلى الكوارك والنمر أصابتني صدمة مباشرة للكيفية التي تمكّن فيها الشاعر من توظيف صورتين شعريتين تتماهيان تماماً مع موضوعي. الكواركات من جانب هي العناصر البنائية الأساسية لكلّ المادة في الكون (ومنها أجسادنا)..... والنمور من جانب آخر هي الرمز القديم للقوة والسلطة، وهي وإن كانت كتلة من مليارات الكواركات؛ لكن أي كتلة عجيبة هي! إنها نتاجُ مليارات السنوات من التطوّر البيولوجي...».

كلُّ كتابٍ يختصّ بظاهرة التعقيد من الطبيعي أن نتوقّع في موضوعاته التنوّع والتوزّع على طيف بحثي شاسع يتخالف مع قراءاتنا الكلاسيكية؛ لذا يتوجب أن نكيّف بدورنا ذائقتنا المعرفية لهذا اللون من البحث الاستكشافي. يخصّص غيلمان الجزء الأوّل من كتابه لدراسة العلاقات بين المفاهيم المتعددة للبساطة والتعقيد والنظم التكيفية المعقدة في مجالات متعددة: طفل يتعلّم لغة، بكتريا تطوّرُ مقاومة لنوع معيّن من المضادات الحيوية، يفرِدُ المؤلف حيزاً مهمّاً من هذا الفصل لدراسة الإشكاليات الخاصة بالمقاربة الاختزالية Reductionism في دراسة النظم المعقدة. الجزء الثاني يتناول القوانين الأساسية للفيزياء والتي تحكم كلاً من الكون والجسيمات الأساسية. هنا يظهر الكوارك لاعباً أساسياً في الكتاب. الجزء الثالث يتناول تنويعات (جوانب) محدّدة من النظم التكيفية المعقدة؛ أما الجزء الرابع فيتناول موضوعات التنوّع Diversity والاستدامة Sustainability. يشير المؤلف إلى إمكانية إسقاط بعض الأجزاء المكتنفة بتفاصيل تقنية غير معهودة لمعظم القرّاء (مثل الأسس المفاهيمية لميكانيك الكم)؛ لكني أرى من الأفضل تعويد النفس على قراءات جديدة وعدم المكوث في فضاء القراءات السهلة المتسمة بالمتون المكرّرة والمفاهيم المستعادة من غير تطوير مفاهيمي حقيقي وصارم.

يشير المؤلف إلى ملاحظة غاية في الأهمية حول نمط التفكير العابر للمباحث الضيقة؛ فيكتب بهذا الشأن:

«... النجاح في إحداث تلك الانتقالة (نحو الفكر العابر للتخصصات) يقترن في العادة مع نمط محدّد للتفكير. قدّم الفيلسوف (فون شيلينغ Von Schilling) تمييزاً (صار شهيراً بواسطة نيتشه) بين الأبولينيين Apollonians (الذين يفضّلون المنطق والمقاربة التحليلية وعدم الارتكان إلى الشواهد) والديونيسيين Dionysians الذين يميلون تجاه الحدس والتركيب والشغف الفكري، لكن ثمّة من هو بيننا ويبدو أنّه ينتمي لطائفة ثالثة أرغب في توصيفها بالأوديسيين Odyssians الذين يتشاركون صفات الأبولينيين والديونيسيين معاً. مثل هؤلاء يشعرون بوحدة طاغية وبالعزلة في المؤسسات التعليمية والبحثية الشائعة في العالم؛ لكنهم يجدون في (معهد سانتا في) بيئة ملائمة لمشاربهم الفكرية وشغفهم البحثي».

*****

أعترف بأنّ كتاب غيلمان قراءة شاقة غير سائدة في أوساطنا؛ لكنّ المتعة على قدر المشقة، والأفضل أن نتذكّر دوماً أنّ الشغف كفيل بتذليل الكثير من المشقات الخاصة بالقراءات المخالفة للقراءات السائدة. من المفيد دوماً أن نجرّب مغادرة منطقة الراحة Comfort Zone الخاصة بقراءاتنا الكلاسيكية. لنجرّبْ في الأقل؛ فربّ عالم خفي مكتنفٍ بأنماط غير معهودة من الدهشة ينفتح أمامنا مثلما انفتح لكورماك ماكّارثي قبلنا.



لوثر وديكارت وروسو... حين يهبط الإلهام الصاعق فجأة

جان جاك روسو
جان جاك روسو
TT
20

لوثر وديكارت وروسو... حين يهبط الإلهام الصاعق فجأة

جان جاك روسو
جان جاك روسو

دعُونا نتحدث هنا عن ثلاثة من كبار الشخصيات التي غيَّرت مجرى التاريخ البشري: الأول هو المصلح الديني الألماني الشهير مارتن لوثر الذي هز عرش البابوية وطهَّر المسيحية من كل الأدران والشوائب التي لحقت بها وشوَّهت سمعتها. والثاني هو رينيه ديكارت، أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. والثالث هو جان جاك روسو، السويسري الأصل الذي فجَّرت أفكاره الثورة الفرنسية وأصبحت كتبه إنجيلاً هادياً لها.

والآن لندخل في التفاصيل قليلاً. ماذا فعل لوثر بالضبط؟ ولكن قبل ذلك ينبغي أن نُجيب عن سؤال آخر: متى أصبح لوثر لوثراً وكيف؟ أي متى وُلد الولادة الثانية وأصبح ذلك المصلح الديني الشهير الذي أسَّس ديناً جديداً تقريباً هو: البروتستانتية؟ كان الرجل يعيش أزمة نفسية حادة جداً، بل مدمِّرة في شبابه الأول. وقد استمرت هذه الأزمة النفسية سنوات وسنوات حتى أقضَّت مضجعه وهددت وجوده ووصلت به إلى حافة الجنون. ولكن في آخر لحظة وقبل أن يحصل ما لا تُحمد عقباه حصل الانفراج الكبير. اشتدِّي أزمة تنفرجي... عندئذ قال هذه العبارة المؤثرة: «ثم حنَّ الله عليَّ»... كان مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة ببرج الكنيسة، وفجأة ينزل عليه الإلهام الصاعق فينقذه من أزمته النفسية المتفاقمة التي هدَّته هدّاً. وعندما حصل الإلهام الصاعق وحنَّ الله عليه قال عبارته الشهيرة: «والله شعرت في تلك اللحظة بأن أبواب الجنة قد فُتحت أمامي على مصراعيها». ما أجملها من لحظة، أعظم لحظة في التاريخ: لحظة اللحظات. بدءاً من تلك اللحظة أصبح مارتن لوثر بطل ألمانيا ومدشن الإصلاح الديني في كل أنحاء أوروبا.

رينيه ديكارت

هذا هو الإلهام الصاعق بالمعنى الحرفي للكلمة. إنه يتلخص في كلمة واحدة أو بالأحرى كلمتين: انعتاق الروح. إنه يعني أن الروح القلقة، الروح المتوترة، الروح المعذبة، الروح المدعوسة، الروح المحطَّمة... قد انعتقت فجأة من أغلالها وأصفادها. هذا هو الوحي بالمعنى الفلسفي أو التحليلي النفسي للكلمة. وهي تجربة روحية هائلة لا تعرفها على مدار التاريخ كله إلا نخبة النخبة أو صفوة الصفوة. ومَن يعش تلك اللحظات لا ينساها. هذا الشخص الذي كان محطماً نفسياً قبل أن ينزل عليه الإلهام الصاعق يتحول فجأة إلى قوة جبروتية لا تناقش ولا ترد. ما قبل لحظة الوحي شيء وما بعدها شيء آخر. ما قبلها كان نكرة من النكرات وما بعدها أصبح أعظم شخصية في تاريخ ألمانيا.

وأما ديكارت الذي ظهر بعده في القرن السابع عشر، فقد شهد تجربة الإلهام الصاعق أيضاً. نقصد تجربة الوحي بالمعنى الفلسفي والتحليلي النفسي للكلمة. وعلى أثرها قام بالانقلاب الكبير على أرسطو المدجَّن من الكنيسة، ودشَّن الفلسفة الحديثة وأصبح قائداً فكرياً لكل أوروبا وليس فقط لفرنسا. كتابه الشهير «مقال في المنهج» أصبح الدليل الهادي لكل الشعوب الأوروبية التي كانت حائرة ضائعة. ثم يقولون لك: ما نفع المثقفين؟ إنهم منارات الشعوب إذا كانوا من عيار ديكارت الذي وصفه هيغل مرة قائلاً: «إنه البطل المقدام للفكر». كيف حصلت قصته مع الإلهام الصاعق؟ كيف عاش ديكارت تلك التجربة الحاسمة؟ تقول الأخبار ما يلي: كان أيضاً مختلياً بنفسه في غرفته الصغيرة المدفأة في عز الزمهرير. في تلك الليلة الليلاء من 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1619م كان ديكارت على موعد مع القدر. فقد رأى ثلاثة أحلام مرعبة هزَّته هزاً وكادت تودي بعقله. لقد أوصلته إلى حافة الجنون. وجعلته يستيقظ مذعوراً فيرتجف ويخرج عن طوره ويصبح مثل ريشةٍ في مهبِّ الرياح. ولكن الأمور بخواتيمها كما يُقال. فقد انجلت الأعاصير عن صحو رائع وتجلت الحقيقة لفيلسوف الفرنسيين ساطعة كقرن الشمس. لقد رآها وجهاً لوجه. لقد كحَّل عينه بمرآها. وعندئذ خرَّ راكعاً ساجداً وعرف أنه وصل. عندئذ عرف أنه أصبح مكلفاً بهداية البشرية الأوروبية على طريق الحقيقة. عندئذ أصبح ديكارت الضائع الهائم على وجهه في الطرقات والدروب ذلك الفيلسوف العظيم الذي نعرفه. يقول واصفاً تلك الفترة: «كنت كمن يتقدم وحيداً في بحر من الظلمات. كنت كمن يخبط خبط عشواء. كنت كمن يمشي على خيط رفيع جداً جداً ويكاد يسقط في الهاوية في أي لحظة». ولكن العناية الإلهية التي تحكم العالم وتُطلّ عليه من فوق أنقذته. هل تعرفون ماذا فعل عندئذ؟ لقد قرر الحج إلى مقام القديسة دو لوريت التي تجسد مريم العذراء في إيطاليا. نعم، نعم، ديكارت الفيلسوف العقلاني الشهير، بل أبو العقلانية، تحول إلى حاجٍّ عاديّ يزور مزارات القديسين والقديسات ويتبرَّك بها. صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، أنتم أحرار. وذلك لأنه لم يكد يصدق أنه نجا بجلده. ينبغي العلم أن تلك الهدية التي نزلت عليه في تلك الليلة الليلاء كانت بمثابة كنز الكنوز، كانت أكبر هدية يمكن أن يحلم بها أي مثقف على وجه الأرض. إنها الحقيقة الجوهرية التي لا تعطي نفسها إلا كل مائة أو مائتي سنة للعباقرة والعظماء. عندئذ قرر ديكارت الانقلاب على كل الأفكار التقليدية التراثية التي تلقَّاها عن طفولته وعائلته وكنيسته وشيوخه... إلخ. عندئذ قرر بناء المعرفة على أسس علمية صحيحة راسخة. وعندئذ قال عبارته الخطيرة، وربما أخطر عبارة في تاريخ الفلسفة: «ولذلك قررت أن أدمِّر كل أفكاري السابقة القائمة على النقل لا العقل». فما دامت الأفكار التراثية القروسطية مهيمنة على عقولنا فلا حل ولا خلاص. وقال أيضاً عبارة أخرى ذهبت مثلاً: «ينبغي أن نصبح أسياداً على الطبيعة ومالكين لها». وهذا ما تحقق لاحقاً من خلال سيطرة الغرب على العلم والتكنولوجيا وتحقيق تفوقه على العالم كله. والفضل في كل ذلك يعود إلى ديكارت. هو الذي أعطى المفتاح والمنهج.

مارتن لوثر

وأخيراً نختتم هذا الحديث بكلمة عن جان جاك روسو. هو أيضاً عرف لحظة الإلهام الصاعق الذي يحصل فجأة فيزلزلك زلزلةً. هو أيضاً عرف لحظة الانفراج الكبير بعد طول احتقان. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح قائداً للعصور الحديثة. بمعنى أن نظرياته الفلسفية عن الدين والتربية والسياسة والأخلاق أصبحت إنجيلاً هادياً للشعوب الأوروبية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. كيف حصلت تلك اللحظة؟ وأين؟ كان سائراً على الطريق الفاصل بين باريس وضاحية «فانسين» الجميلة الشهيرة. وهي الضاحية التي عشت بالقرب منها أيام زمان، أو قُلْ كنت أطلّ عليها من بعيد، من الشباك. وفجأة تجيئه اللحظة، لحظة المخاض، فينبطح أرضاً. أحسّ كأن صاعقة قد ضربته فدارت الدنيا في عينيه وداخ قبل أن يسقط مغشياً عليه تحت شجرة. وعندما استفاق من غيبوبته التي استمرت نحو نصف ساعة تلمَّس جسمه فشعر بأن قميصه أو صدره مبلل كلياً بالماء. وعندئذ عرف أنه كان يسفح الدموع دون أن يدري. لقد وصل جان جاك روسو. لقد تجلت له الحقيقة عيناً بعين. ولكن هناك أشياء أخرى رآها بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والغيبوبة. رأى آلاف الأفكار والأنوار والأضواء تنهمر عليه من كل حدب وصوب. وعن تلك اللحظة الحاسمة نتجت كل كتبه اللاحقة التي حلَّت عقدة التاريخ ونوَّرت العالم. يقول بالحرف الواحد: «بدءاً من تلك اللحظة رأيت كونا آخر، وأصبحت رجلا آخر». وبدءاً من تلك اللحظة أصبح هذا الشخص المجهول النكرة ذلك النجم الأدبي والفلسفي الشهير الذي خلَّدته كتب التاريخ تحت اسم : جان جاك روسو. يقول فيكتور هيغو: «تلك التفاهات التي كنت أكتبها قبل ولادتي». المقصود قبل ولادته الثانية عندما أصبح عبقرياً. لكن على أثر هذا الاكتشاف الخارق ماذا حصل لجان جاك روسو؟ هل صفقوا له يا ترى؟ هل مجَّدوه؟ هل رحَّبوا به؟ العكس تماماً. لقد لاحقوه من مكان إلى مكان، لقد وضعوه على حد السكين، لقد أقضُّوا مضجعه. وتحققت تلك المقولة الشهيرة: لا نبيَّ في قومه. لم يغفروا له إصراره على قول الحقيقة الجارحة ضد الأغنياء والأقوياء في فرنسا الرجعية الأصولية الظلامية. كل الأصوليات الكاثوليكية والبروتستانتية كانت تمزق كتبه عن الدين المسيحي وتحرقها. لقد احمرَّت عليه الأعين عن جد وكادوا يفتكون به لولا عفو الله. لقد زعزعوه وأرعبوه وكفَّروه وأرهقوه بالملاحقات الضارية. لقد حوَّلوا حياته إلى جحيم. على هذا النحو دخل جان جاك روسو في معمعة لا أول لها ولا آخر. ولم يعد يعرف من أين تجيئه الضربات، ولا كيف تصطرع حوله الأجهزة والمخابرات.