متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

د. ميساء الخواجا في ورشة بمعرض الكتاب عن «تقنيات الكتابة الروائية»

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
TT

متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

أكدت الأكاديمية السعودية، الدكتورة ميساء خواجا، أن الكتابة التاريخية لها حدودها ومداخلها وآلياتها التي تبنى على التوثيق والمطابقة، أما الكتابة الروائية فهي ذاكرة مفتوحة تقوم على التخييل، والغوص في مناطق قد لا يلتفت المؤرخ إليها أو لا يهتم بها.

وكانت الخواجا، تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية»، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، أقيمت مساء أمس الخميس. وتحدثت عن طبيعة التعامل مع الشخصيات والمكان والزمان في الرواية التاريخية.

وأكدت الدكتورة الخواجا أن التاريخ – كما يرى أرسطو – يتعلق بالحقائق العامة لا بالجزئي والهامشي. من هنا يختلف حقل التأريخ عن حقل التخيل، من دون أن ينفيه. فالمؤرخ يهتم بصياغة المادة التاريخية بالاستناد إلى وقائع تاريخية محددة وربما قراءتها في إطار الحاضر. أمّا المتخيّل فيقدم مادة سردية ينجزها الروائي من خلال علاقة إبداعية مع أحداث الماضي بصفتها ممتدة في الزمان والمكان. (...) وفي ذلك يصير التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي، «ميتا نص» يعود إليه ويتحاور معه في كتابة قد لا تطابق المرجعية التاريخية، أو لا تكتفي بذكر وقائع التاريخ والحرص على مطابقتها، بل تبحث في طياته عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية بينهما، فيتداخل التاريخ الحقيقي مع المتخيل التاريخي.

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة العمل بمعرض الرياض الدولي للكتاب

الرواية والتاريخ

وقالت الدكتورة الخواجا، إن عدداً من الدارسين التفتوا إلى وجود صلة ما بين الرواية والتاريخ على اختلاف بينهما، إذ يثير مصطلح «الرواية والتاريخ» عدداً من الإشكالات التي يقف في مطلعها الإشكال الأجناسي على اعتبار أن التاريخ خطاب نفعي يسرد الحقيقة في حين أن الرواية خطاب جمالي تخييلي في المقام الأول. والرواية التي هي «خطاب جمالي تقدم فيه الوظيف الإنشائية على الوظيفة المرجعية».

ورغم ربط التاريخ بفكرة النفعية وبفكرة الحقيقة وتناول ما هو حاصل عند عدد من الدارسين، فإن هناك عدداً آخر منهم يربط بين التاريخ والمتخيل، ويلتفت إلى ما يمكن تسميته «سردية التاريخ».

التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي أشارت أيضاً إلى أن التاريخ يرتبط في أذهان الكثيرين بالحقيقة في مقابل الخيال الذي تتسم به الرواية، لكن ذلك الربط يتعرض إلى شيء من التشويش عندما يمتلئ التاريخ بأخبار وحكايات قد تبدو متخيلة، لا سيما عندما يتناول الأزمنة السحيقة، وعندما تستند الرواية إلى التاريخ أي إلى ما هو حقيقي.

وتقول: بين التاريخ والرواية صلة ما خفية أو ظاهرة، ويمكن للباحث إقامة عدد من الصلات بينهما، وعلى رأسها أن كليهما خطاب في المقام الأول، ويلي ذلك أنهما خطاب سردي أو يمكن أن يوضع في خانة السرد.

وانطلاقاً مما سبق يمكن للباحث أن يقيم الصلة بين الرواية والتاريخ، وقد عدّ المؤرخ مارك بلوخ أن المؤرخ أقرب ما يكون إلى «روائي ملتزم» بنوع خاص من الحكي، يستمد حكاياته مما يحتمل وقوعه حقيقة، في مقابل روائي يستمدها مما يحتمل وقوعه مجرداً. وبهذا يكتفي المؤرخ بصناعة حكاياته، مستمداً شخوصها وزمانها وفضاءها من مصادر ووثائق تسجيلية، وأما حبكها فمتروك لمقدرة المؤرخ وحذقه على اعتبار أنه لا يصادف حزمة من الوقائع المتراصة في شكل خبر أو حكاية تعكس حدثاً سابقاً. وبذلك تتحقق للتاريخ سماته السردية المرتبطة بمحور الاختيار أولاً وبالحبك والصياغة ثانياً.

المرجعية والتاريخية

المحور الثاني، في ورشة العمل التي أقامتها الدكتورة ميساء الخواجا، حمل عنوان: الشخصية المرجعية والتاريخية، حيث أوضحت أن التاريخ والأدب خطابان سرديان، ويطالب الروائي في الرواية التاريخية بأن ينزل الشخصيات والأحداث في إطار المشاكلة وليس مجرد المطابقة، وبذلك يتيح للقارئ أن يدرك أسباب ما وقع ماضياً وما يترتب عليه من نتائج، لكنه يحتاج أيضاً إلى الأمانة التاريخية وإلى الخضوع لمقتضيات الفن الروائي من قبيل نمط القص والتبئير على شخصية أو أكثر، وإدراج العناصر في منظور واحد مما يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي.

وقالت إن المؤرخ يسعى إلى بناء صورة متماسكة ذات معنى وبناء دال للأشياء كما كانت واقعياً، والوقائع كما حدثت فعلاً، أي وضع السرد التاريخي في الزمان والمكان المطابقين، وجعل فكرة الماضي تتفق مع الوثائق، كما هي حالتها المعروفة، أو كما كشف المؤرخون النقاب عنها. الروائي يضعها في إطار الحدث والزمان المتخيلين، غير منضبط بوجود ثابت ومحدد بصورة نهائية، ويعيد تشكيل الأحداث والشخصيات بآلة التخييل وفق منطق اتساق الأحداث ومكوناتها.

ويمكن أن تضمر الأحداث في بعض الروايات التاريخية وتأتي فقط خلفية لتفسر سلوك الشخصيات ومواقفها (مثلاً ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، الباغ لبشرى خلفان)، ويمكن أن تأتي الشخصية التاريخية لتقوم بدور مرجعي يسند الأحداث والشخصيات المتخيلة ويؤطرها ويوحي بمنطلقاتها ونتائجها.

وأوضحت أنه يمكن للرواية التاريخية أن تزاوج بين الشخصيات التاريخية والشخصيات المتخيلة، ويمكن استحضار شخصيات تاريخية لتساهم في الفعل وفي تحريك المتخيل، أو يخلق الكاتب شخصيات متخيلة من وحي الشخصيات التاريخية لتقوم بعبء حمل المتخيل والتاريخي في الوقت نفسه. كما يمكن أن يسند الروائي أعمالاً غير تاريخية إلى الشخصيات التاريخية، وأعمالاً تاريخية للشخصيات المتخيلة.

ركزّت ورشة عمل على دور التاريخ في الكتابة الروائية

التاريخ والهوية السردية

حمل المحور الثالث عنوان: وظيفة التاريخ وبناء الهوية السردية، وقالت الخواجا إن ما يفعله الروائي في كتابة الرواية التاريخية أن يستحضر روح العصر الذي اختاره لزمن حكايته، وما يهمه ليس ما حدث في ذلك العصر لكن كيف أثر ذلك على ثقافة الناس وحياتهم الاجتماعية التي تمثلها شخصياته، وكيف أثرت الأحداث التاريخية المفصلية على تلك الشخصيات. أي أنه يسعى إلى دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد للشخصيات يمكّن من فهم التاريخ في حد ذاته وتحليله بوصفه وضعاً إنسانياً ذا مدلول وجودي كي لا يتحول الروائي إلى مؤرخ.

وقالت: يبني الكاتب شخصياته (تاريخية أو متخيلة) ويصنع لها «هوية سردية»، تتطور وتخضع للتحولات، فلا نكاد نجد شخصية روائية مكتملة البناء، بل تنمو وتتطور هويتها وتتكشف تدريجياً، وقد لا تكتمل مع اكتمال الرواية فيلعب الخيال دوراً حاسماً في بلورة صورتها. إن الهوية ضمن الخطاب السردي هي تخييل، وهي ما نتخيله وليست مجرد ما نسترجعه. وما نراه في الرواية عامة والرواية التاريخية هو بناء هوية سردية أي عبارة قصة حياة الشخص الداخلية والمتطورة التي تدمج الماضي المعاد بناؤه والمستقبل المتخيل لتزويد الحياة ببعض الإحساس بالوحدة والهدف.



لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.