عالم بلا صراع؟

بين جون ستيوارت ميل وهيغل

هيغل وستيورات ميل
هيغل وستيورات ميل
TT

عالم بلا صراع؟

هيغل وستيورات ميل
هيغل وستيورات ميل

في خريف عام 1826، عانى الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، من انهيار عصبي مفاجئ. الذين يعرفون ميل وسيرته ونضاله القانوني وكتبه الفلسفية يعرفون أنه من أبرز الفلاسفة الإنجليز إلى جوار راسل وهيوم وهوبز وبيكون، ولعلّي لا أكون واهماً إن قلتُ إن مساهمته في التأسيس لمذهب «المنفعة» كانت أهم من مساهمة مؤسس المذهب جيريمي بنتام.

هذا المذهب الذي ترجع أصوله إلى الإغريق، خصوصاً الفيلسوف المنسيّ أرسطبوس، تلميذ سقراط، وأبيقور، ثم حوّله الإنجليز من كونه مجرد مذهب للَّذة الفردية يدعو لِلعَبِّ من الملذَّات وتحاشي الألم إلى مذهب للمنفعة العامة، على مستوى الدول وتطورها.

ساهم ميل في صناعة مذهب يقول إن كل عمل بشري لا بد أن يهدف إلى تعزيز أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس

لقد ساهم ميل في صناعة مذهب يقول إن كل عمل بشري لا بد أن يهدف إلى تعزيز أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وكرَّس قدراً كبيراً من طاقته عبر العقود المتتالية لتقوية هذا المذهب وتحرير مخطوطات بنتام الشاقة. وأدخل في نطاق النفعية الدعوة إلى إصلاحات اجتماعية مختلفة تراوح بين تحسين العلاقات بين الجنسين وأجور العمال وحماية حرية التعبير وتوسيع دائرة الناخبين البريطانيين وحق المرأة في التصويت.

حدث الانهيار العصبي كان شائعاً بالنسبة إلى المشغولين بالفلسفة والفلاسفة ويبدو أنه كان ناجماً عن إرهاق ذهني تراكمي. لكنك حين تقرأ وصف ميل لتلك الحالة وما دار حولها من أيام، قد تصل إلى شيء مختلف. يبدو أنه قد فقد البوصلة وصار يشعر بأنه لم يقل شيئاً ذا بال، وأن كل مطالباته لو تحققت فإنها لن توصله إلى حالة الرضا التي عاش حياته ينشدها.

لقد اكتشف فجأة أنْ لا جدوى من تحقيق أحلامه، لأن تحقيق الأحلام وإشباع الرغبات سيؤدي إلى السآمة والملل، كما حذّر آرثر شوبنهاور من قبل، وبالتالي سنبقى مثل البندول نتراقص بين الألم والملل.

في أعقاب هذا الاكتشاف، انزلق الفيلسوف إلى حالة من الاكتئاب استمرت ستة أشهر، ويبدو أن الأزمة كانت نتيجة طبيعية لقلقه بشأن إمكانية السعادة في العالم المثالي الذي سعى إلى تحقيقه؛ عالم بلا صراع.

في تصوري أن الفيلسوف الذي فهم حقاً حقيقة الوجود وسر الحياة هو هيغل من خلال منهجه الجدلي

بين الحلم والواقعية

رغم عظمة ميل فإنه كان حالماً أكثر من اللازم. في تصوري أن الفيلسوف الذي فهم حقاً حقيقة الوجود وسر الحياة هو هيغل من خلال منهجه الجدلي (الديالكتيك). ميزة فكر هيغل هي أنه يرحب دائماً بعالم تجتمع فيه المتناقضات، عالم صراع لا ينفك حتى يبدأ من جديد، عالم الأحزان والأفراح، عالم الفوز والهزيمة. بل عندما يأتي الحديث عن الحرب فإنه يرحب بها، متابعاً أستاذه البعيد هيراقليطس الذي قال «الحرب أُم الجميع». ليس حباً في سفك الدماء وإنما ينطلق هذا الموقف من عقلانيتهما الواقعية الصارمة. أولاً: لأن الحرب لا انفكاك عنها وأنها ستبقى تقع بين البشر على المصالح بغضّ النظر عما نقوله ونفعله، ولو تحول نصف سكان الكوكب إلى البوذية المسالمة لغزاهم النصف الآخر أو هيمنوا عليهم. ثانياً: أن الحرب نافعة وتؤدي إلى التقدم الحضاري.

إذا تصورنا كيف قَبِلَ هيغل الحرب، فلا شك أنه يقبل الحياة بمرّها وحلوها بنفس الطريقة. إنه لمن العقل أن نرحِّب بالتناقض، فالتناقض سر الوجود، وصراع الأضداد هو الحقيقة الأولى. هذا الصراع هو سبب كل تغير يحدث في العالم، وينبغي ألا نخاف من التغير. ثمة غاية سامية تكمن وراء التغير، هي قيادة الوعي المشترك بين كل البشر صوب المعرفة الفلسفية.

فالوعي الحقيقي لا يحدث إلا بالخروج من دائرة الوعي الفردي المحبوس في ذاته، المعزول عن العالم، والارتفاع به إلى مستوى الصراعات الفكرية والشراكة العقلية والروحية، من خلال عيش الفلسفة بوصفها خبرة نرى فيها التاريخ كله، وبحيث تبدو الأحداث التاريخية كتحقق للفلسفة ينقلها إلى الواقع.

نحن نبصر التناقض وهو يسري في الطبيعة والفكر والإنسان في كل لحظة، نراه في حركة الكواكب، في تغير الظواهر الطبيعية، في تقلبات الأجواء، مثلما نراه في حياتنا الشخصية، في تناقضاتنا وانقلابنا على ذواتنا. في ذلك يقول هيغل: «إن التناقض مبدأ كل حركة وكل حياة وكل تأثير فعّال في عالم الواقع».

لا يوجد عالَم ساكن كعالم دعاة تطوير الذات وفلاسفة الزن، لأن العالم دائماً في حركة وتطور وتغير، وبالتالي فكل تصور سكوني مرفوض، وكل فصل بين المحسوسات والتصور العقلي مرفوض.

عملية الصراع ليست مجرد نشاط ذهني ترفي، بل هي كل ما يحيط بنا من هذا العالم

ولو أمعنَّا النظر لوجدنا أن عملية الصراع ليست مجرد نشاط ذهني ترفي، بل هي كل ما يحيط بنا من هذا العالم، من الثلج الذي يُنفى فيصير ماءً، والماء الذي يُنفى فيصير بخاراً، والحيتان التي تموت فيتحول بعض أجزائها عبر الزمن إلى نفط، كل ذلك يسير على نفس الخطة. وعندما ننظر إلى نظامنا الشمسي، سندرك أن هذا الكوكب الذي يوجد الآن في مكان، يُعلن أيضاً أن من طبيعته أن ينتقل إلى مكان آخر، لأنه لا مناص له من الحركة التي ستنقله إلى وجود مغاير.

وعندما تنظر في نفسك، في أمسِك، فترى أنك كنت تسير في طريق ما، فتنزع نفسك اليوم إلى معارضة ما كنت عليه بالأمس ومسيرتك تلك، فينشأ صراع شديد بين الأمس واليوم وتُمزَّق، ثم يكون هناك مُركّب يتجلى في الغد. كل هؤلاء شهود عدول على صدق الديالكتيك وأنه واقع نعيشه في كل لحظة؛ في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفكر. وكما قال هيغل: الفرح يظهر من خلال الدموع، والحزن الشديد يتجلّى في ابتسامة.



لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.