الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين

عرف كيف يصغي بأناة إلى حكايا البشر المنسيين

إلياس خوري (ا.ب)
إلياس خوري (ا.ب)
TT
20

الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين

إلياس خوري (ا.ب)
إلياس خوري (ا.ب)

لعل أصعب الكلمات وأشدها وطأة على النفس هي تلك نضطر إلى قولها على مسافة لحظات قليلة من رحيل من نحبهم، وقبل أن نرافق جثامينهم إلى مثواها الأخير. فكيف إذا تعلق الأمر برحيل كاتب متميز ومتعدد الهويات الإبداعية من وزن إلياس خوري، الذي لا يليق بوطأة رحيله سوى الصمت أو الذهول. صحيح أن الوتيرة المتصاعدة للحروب والكوارث، آخرها ما يجري في غزة والضفة والجنوب اللبناني، قد أكسبت الموت ألفة لم تكن له، وجعلته يرافقنا كالظل في حركاتنا وسكناتنا وتفاصيل عيشنا اليومي، ولكن إلياس خوري لم يكن طرازاً عادياً من الكتاب، لكي نسلم المساحة الشاغرة التي تركها خلفه إلى التجاهل أو النسيان.

منذ زاملته على مقاعد الدراسة في الجامعة اللبنانية، أوائل سبعينات القرن المنصرم، لم يقدر لي أبداً أن أرى إلياس خوري متلبساً بحالة هدوء أو استكانة. فقد كان مزيجاً صاخباً من الحب والكراهية والتأمل والتمرد والسخط والتربص والغليان والصخب والاعتراض على كل شيء، حتى ليحسبه زملاؤه وعارفوه أقرب إلى العاصفة التي تسير على قدمين منه إلى أي شيء آخر. وحيث لم تكن أعراض الموهبة الروائية والنقدية قد بدت بعد في نصوصه وأوراقه، فقد راح اليأس يستعين بملامحه المجردة وحركات يديه وجسده العصبي لكي يبعث برسائل احتجاجه المتلاحقة إلى العالم.

وحيث كانت فلسطين ماثلة في قلب إلياس وعقله وشرايينه، سرعان ما انتبه محمود درويش، الذي كان انتقل آنذاك للعيش في بيروت، إلى ما يختزنه صاحب «الجبل الصغير» في داخله من نزوع ثوري وطاقات مختزنة، فاختار أن يكون إلى جانبه في تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» التي عملت على نقل فلسطين من عهدة الإنشاء الرومانسي إلى عهدة الانتصار للذاكرة الجمعية، والتنقيب الرصين عن الحقيقة الموثقة بالبراهين.

لكن مفاجآت إلياس خوري الأكثر إدهاشاً كانت تطل من جهة السرد الروائي على وجه الخصوص. فهو وإن تفاعل بقوة مع قضايا السياسة والمقاومة والدفاع عن القضايا الكبرى، في طليعتها قضايا لبنان وفلسطين والعالم العربي، فإنه رفض الاتكاء على موضوعه، أو تحويل السياسة إلى رافعة للرداءة الفنية والأسلوبية، كما فعل كثر آخرون من الروائيين والشعراء والفنانين. وحيث كان من الطبيعي ألا يأنس اليأس إلى تكرار نفسه، وهو المبدع الجامح الذي يكتب بجماع أعصابه، فقد بدت رواياته كما لو أن كل واحدة منها منبتة عن الأخرى، ومنتمية إلى أسلوب مغاير ومقاربة مختلفة. هكذا بدت الفروق شاسعة بين «الوجوه البيضاء» و«مجمع الأسرار»، أو بين «رحلة غاندي الصغير» و«مملكة الغرباء»، أو بين «كأنها نائمة» و«باب الشمس».

وقد يكون إدوارد سعيد الذي عدَّ في مقالته الشهيرة «وداعاً نجيب محفوظ» أن رواية محفوظ قد بلغت محطتها الأخيرة، وأن راية السرد الجديد هي في عهدة جيل الوراثة الذي يتصدره خوري، قد أضاف إلى رصيد إلياس قيمة مضافة إلى تلك التي منحها له صديقه الآخر محمود درويش، إلا أن الرصيد الأثمن لصاحب «رائحة الصابون» هو ذلك الذي استحقه بموهبته العالية وثرائه المعرفي، وإنصاته العميق إلى آلام المحرومين من أبسط حقوقهم، والمبثوثين في ضواحي المدن والأزقة المهملة ومخيمات اللجوء.

لقد عرف إلياس كيف يصغي بأناة إلى حكايا البشر المنسيين، وكيف يصنع من سيرهم وقصاصات عيشهم أساطير وقصصاً وملاحمَ، مغايرة تماماً لتلك التي تركها لنا الإغريق وكتاب الملاحم المعروفون. والفلسطينيون الذين قرروا، تكريماً له، تحويل روايته «باب الشمس» إلى قرية حقيقية وبيوت صالحة للسكن، بدوا وكأنهم يقدمون له النص الأجمل الذي لم يهتد النقاد إلى كتابته، حيث اللغة والفن ليسا بديل الحياة، بل هما الحياة نفسها في صورة معدلة.

كم الحياة موحشة في غيابك يا صديقي إلياس. ومع ذلك فإن ما يخفف من عبء هذا الغياب الثقيل، أن ما سيظل من لغتك في ذاكرتنا، ومن صمتك الصاخب في أسماعنا، ومن حضورك الساحر في قلوبنا، هو أكثر بكثير مما ستحمله معك إلى القبر.

أصعب ما في رحيل إلياس خوري أنه يحدث في الوقت الذي يشتد فيه الخناق على فلسطين التي أحبها من صميم قلبه وكرس حياته للدفاع عن استقلالها وحق شعبها في الحرية والحياة.



رحيل يوسا يسدل الستار عن الجيل الذهبي الأدبي

ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)
ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)
TT
20

رحيل يوسا يسدل الستار عن الجيل الذهبي الأدبي

ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)
ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)

توفي الكاتب البيروفي العالمي ماريو فارغاس يوسا، الحائز جائزة نوبل للآداب، في العاصمة البيروفية ليما.

وقد نعاه نجله البكر ألفاو، بعد أسبوعين من احتفاله بعيد ميلاده الـ89 في منزله المطل على البحر في ليما التي لم ينقطع عنها رغم ترحاله، وإقامته فترات في مدن عدة، كانت مدريد آخرها، حيث توطدت بينه وبين «الشرق الأوسط» علاقة كانت مدخلاً إلى انضمامه لكتّاب «جريدة العرب الأولى» منذ أكثر من ثلاث سنوات.

وبرحيله ينسدل الستار عن الجيل الذهبي من كتّاب أميركا اللاتينية الذين رصّعوا الأدب العالمي بأجمل الدرر، مثل غارسيا ماركيز، وكارلوس فونتيس، وخوليو كورتازار.

وستواصل «الشرق الأوسط»، بالاتفاق مع نجله، ووكيلته الأدبية، نشر مقالات له سابقة مرتين في الشهر.