أوفيد «مفتياً» للعشاق ودليلهم إلى الحب الناجح!

كتابه «فن الهوى» بدا عابراً للأزمنة وأثار خلفه غباراً لم يهدأ

أوفيد
أوفيد
TT

أوفيد «مفتياً» للعشاق ودليلهم إلى الحب الناجح!

أوفيد
أوفيد

قد يكون من الصعب على أي باحث في شؤون الحب والعشق، أن يتجاوز الإسهام الفريد وغير المسبوق الذي قدمه الشاعر الروماني أوفيد في معظم كتاباته، وفي كتابه «فن الهوى» على وجه الخصوص. وإذا كان الكتاب المذكور عابراً للأماكن والإثنيات والعصور، فإن الأمر ليس عائداً إلى أهمية موضوعه المتناول بالدراسة فحسب، بل إلى مقاربته الذكية لموضوعه، فضلاً عن وضوح الأفكار ونصاعة اللغة والأسلوب الساخر واتساع دائرة الخطاب الإنساني.

على أن النجاح الاستثنائي الذي أصابه أوفيد، لا يمكن أن تتم قراءته بمعزل عن الشروط الذاتية والموضوعية التي وفّر تضافرها للشاعر المولود بالقرب من روما عام 43 قبل الميلاد، لعائلة أرستقراطية مرموقة، أسباب الفرادة والتميز. فقد قُدّر للشاب الطموح والمصاب منذ يفاعته بلوثة الشعر، أن يتابع دراساته العالية في مجالات البلاغة والأدب والقانون. كما وفر له تسنمه سدة القضاء في روما لسنوات عدة، سبل «الوصاية» على العشاق، وإسداء نصائحه وتوجيهاته لكل راغب في تنكب المغامرة العشقية.

ولعل النجاح البالغ الذي لقيه «فن الهوى» في أوساط المجتمع الروماني عشية ظهور المسيح، لا يعود إلى موهبة مؤلفه البحتة فحسب، بل إلى كون أوفيد قد كتبه في سن النضج تماماً؛ حيث كان قد اكتسب مع بلوغه الأربعين قدراً غير قليل من الخبرات والتجارب الشخصية التي أحسن استثمارها ووضْعها بين يدي قرائه ومتابعيه. وهو أمر لم يكن ليتيسر له تحقيقه لو كان قد وضع كتابه في سن العشرين. ومن يتتبع فصول الكتاب المختلفة لا بد أن يلاحظ أن مؤلفه لم يكن يريد في تصديه لموضوع الحب أن يحذو حذو التراجيديات الإغريقية التي يتسلط القدر على المشاركين فيها، أو أن يتبع مسار الحب الروحاني الصوفي الذي لا ينال الجسد من خلاله أي نصيب، بل رأى إلى الحب بوصفه نوعاً من المتعة واللهو واللعبة الماكرة، الذي جهد في أن يضع لها أصولاً وقواعد.

وينوه أوفيد في مقدمة الكتاب إلى أنه أراد أن يضع خبرته وعمله المضنيين في خدمة الشبان والشابات من الأجيال كافة، لكي يساعدهم على تجاوز مكائد الحب وآلامه وعثراته، بأقل تكلفة ممكنة. كما يوضح لقرائه أن فينوس هي التي اختارته كشاعر، لكي يكون وصياً على ابنها المتحفز على الدوام لإطلاق سهامه الجارحة على العاشقين. وإذا كان قد قرر الانتقام من كيوبيد، فلأن سهامه المسمومة كادت أن تصيبه في مقتل، ذات حب جارف.

ويخصص الشاعر الجزء الأول من كتابه لإرشاد الشبان المتعطشين للحب إلى الطرق المثلى للإيقاع بالنساء، معتمداً على خبرته الشخصية وثقافته الواسعة وذكائه المتوقد. وهو إذ يستثني من استهدافاته النساء الحرائر المحصنات، فلأنه كان خائفاً من بطش الإمبراطور، رغم أنه يستطع دفعاً لهذا البطش في نهاية الأمر. وحيث يعدُّ أوفيد أن الفرق ليس شاسعاً بين الحب والحرب، أو بينه وبين الصيد، فهو يطلب من الرجل أن يحدد نوع الطريدة التي يلاحقها، لأن الفخاخ والأسلحة التي تنجح في تصيد امرأة من طراز ما لا تفلح في تصيد امرأة من طراز آخر، رغم أنه يرى في معظم النساء نقاطاً من الضعف تمكّن الرجل العاشق من الظفر بهن في نهاية المطاف.

وأوفيد الذي يُظهر معرفة واسعة بعلم نفس المرأة، لا يرى معظم حالات التمنع بوصفها رفضاً قاطعاً للرجل العاشق، بل يرى فيها اختباراً لنياته، ووسيلة ناجعة لإذكاء رغبته. ولأن نساءه المعنيات بالمخاطبة لسن أبداً من بائعات الهوى الساقطات، بل من الشرائح الاجتماعية الموزعة بين المحافظة والتحرر، فهو يوصي الشبان باستخدام المعرفة والاطلاع والأجوبة الحاذقة كأداة ناجعة للاستحواذ على إعجاب معشوقاتهن المستهدفات. كما أنه يحذر الرجال من الجمال الخادع الذي تظهر عليه النساء في حالة الشراب أو تحت أضواء المصابيح الخافتة، داعياً كل شاب طامح للفوز بقلب امرأة إلى تجاوز مخاوفه، بالقول:

المرأة في كل مكانٍ صيدٌ سهل

انصب شرَككَ وكفى

تغريد الطير قد يسكن في كل ربيع

وصرير الجندب قد ينقطع في الصيف

لكن المرأة لا تصمد

إذا انساب في أذنيها معسول الغزل

إلا أن أوفيد العارف بطباع المرأة ودواخلها يؤكد في الجزء الثاني على أن المحافظة على الانتصار أصعب من بلوغه. فالأهم في عملية العشق ليس الوصول إلى قلب المرأة، بل العمل المضني للبقاء في صميمه؛ حيث الحظ يلعب لعبته في البدء، بينما لا بد لاحقاً من استخدام الحذق والمهارة. وهو يشير إلى أن الغاية من كتابه لم تكن تلقين الأغنياء فنون الهوى، لأن أموالهم الطائلة تتكفل وحدها بإغواء من يشاؤون، مؤكداً أنه أراد الانتصار لحق الفقراء في الحب، وتزويدهم بما يحتاجونه من عدة المغامرة ومستلزماتها. وهو يدعو العشاق العازبين إلى ترك الأزواج والزوجات يغرقون في شجاراتهم المتواصلة، لجعل السلوك الحاذق والغزل الطري يقومان مقام الهدايا الثمينة. فالحب والعشق لا ينموان في رأيه إلا في أرض التدليل والأصوات الناعمة والكلام المنمق.

وفيما يؤكد أوفيد أن في كلمات الإطراء الشاعرية ما يغني العاشق عن تقديم المال لمعشوقته، يعود ليسخر من كلمات الغزل التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، فيهتف بعاشقه الفقير قائلاً:

هل أنصحك بأن ترسل أشعاراً عاطفية؟

واأسفاه، فالشعر عظيم، لكنه لن يلقى ما يليق به

فهي قد تمتدح قصيدك

لكنّ أثمن ما تَنشدُهً هو ما تُهديه إليها

فلا تعجب إن نال الهمجي الأحمق

إعجاب فتاتكَ ما دام غنياً

أما الجزء الثالث من الكتاب فيكرسه المؤلف لتزويد النساء بالوسائل الناجعة التي تكفل لهن الاستحواذ على قلوب الرجال، وتجنب الكساد المحبِط والعنوسة البائسة. وهو إذ يخاطب النساء بقوله «ليس من العدل أن أعرّضكنّ عزّلاً من السلاح أمام عدو كامل العدة»، يرى أن على الرجال أن يشكروه على فعلته، لأنه لا يليق بهم الانتصار على كائنات ضعيفة ومجردة من السلاح. وهو لا يتردد في إطلاع المرأة على قواعد السلوك المثلى مع الرجل، وحثها على العناية بمظهرها وحماية جمالها من التلف دون مبالغة أو أفراط. ويحذر المؤلف النساء من تصديق الرجال المخادعين، من ذوي الشعور الممزوجة بالطيب والمفرطين في التزين بالخواتم، فقد يكون أشدهم أناقة لصاً لا يهيم بالمرأة لذاتها، بل بما تملكه من أموال.

أراد أوفيد أن يساعد الشباب على تجاوز مكائد الحب وآلامه وعثراته

وعلى المرأة الذكية في رأيه ألا تنام على حرير العهود التي يقطعها فتاها العاشق على نفسه، وأن تجهد في إثارة غيرته والإيحاء بأن ثمة من ينافسه على قلبها، حتى ولو كانت الحقيقة خلاف ذلك. كما ينصحها بأن تلعب على الحبال الفاصلة بين التمنع والوصال، لأن المرأة التي يظفر بها عاشقها بغير عناء، لن تكون أحبَّ النساء إلى قلبه. وهو يشعر بالرضا عن نفسه لأنه وقف في منطقة وسط على حلبة المنازلة الدائمة بين الرجال والنساء.

ولا بد من التنويه أخيراً بأن صمود «فن الهوى» في وجه الزمن لم يكن ليحدث لولا قدرة مؤلفه على المواءمة بين الشاعرية العالية وغزارة الثقافة، ولولا نفاذه البارع إلى الأعماق الأخيرة للنفس الإنسانية. وإذا كان «طوق الحمامة» قد عُدَّ أحد أكثر الكتب شبهاً بكتاب أوفيد، فإن السؤال المتعلق بأسباب ذلك التشابه يكتسب الكثير من المشروعية. فهل كان ابن حزم، المتصل عبر الأندلس بالثقافة الغربية، قد قرأ أوفيد وتأثر به؟ وهل كان كتابه المتأخر ألف سنة عن سلفه الروماني، نوعاً من التناص المقصود مع المرجع الأصلي، أم أن التشابه بين «مفتيي» الحب اللذين عمل كلاهما في سلك القضاء كان ضرباً من ضروب المصادفة التي يمكن إضافتها إلى مصادفات الزمن وغرائبه الكثيرة؟


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».