تجربة التشارك في الكتابة

قد تكون إثراءً للموضوع وكشفاً عن جوانب مخبوءة فيه

تجربة التشارك في الكتابة
TT

تجربة التشارك في الكتابة

تجربة التشارك في الكتابة

الكتابةُ فعالية تتمنّعُ على المشاركة وتستعصي على كسر إطار الفردانية. هذا أحد القوانين الأساسية في الكتابة. ليس الأمر محض قرارٍ رغبوي أو خصيصة استئثارية لدى الفرد بقدر ما إنّ طبيعة الفعالية الكتابية تستلزمُ هذه الفردانية وتفرضُ شرطها الموضوعي بشأن تمنّع المشاركة. الكاتب في أي حقل معرفي، وسواء أكان في الحقول التخييلية (fiction) أم غير الإبداعية (non-fiction) إنّما هو حصيلة عناصر إبداعية ونمط ذهني وتفاعلات عصبية على المستوى الجزيئي الدقيق لها من الممكنات الاحتمالية ما يجعل إمكانية تطابقها أو اقترابها مع خواص كاتب آخر أمراً يقاربُ حدود الاستحالة. هذه الاستحالة في تقارب الخواص الذهنية تُترجمُ بعبارة استعصاء التشارك في الفعالية الكتابية. من البديهيات القولُ إنّ استعصاء المشاركة في الحقول الكتابية الإبداعية أكثرُ بكثير من قرينتها في الحقول غير الإبداعية. هذا أولاً، وثانياً لننتبهْ: تجربة تحرير الكتب ليست مشاركة بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى الاعتباري فحسب. عندما يختارُ أحد محرّري كتابٍ ما في سلسلة كتب كامبردج المرجعية (Cambridge Companions) مثلاً تحرير كتاب فهو يلجأ أولاً لمكاتبة مؤلف معروف بذيوع شهرته العالمية في الجزئية الخاصة ضمن الموضوع العام للكتاب؛ أي أنّ الكتاب المحرّر هو أشبه بكتب صغيرة بموضوعات فرعية في سياق الموضوع الرئيسي في الكتاب، والشاهد في هذا أنك تستطيع قراءة فصل واحد فحسب يهمّك أكثر من سواه وتترك باقي فصول الكتاب.

توجد حالات مخصوصة بذاتها يمكن فيها تشاركُ الكتابة؛ بل وتصبحُ الفعالية التشاركية إثراءً لموضوع الكتابة وكشفاً عن جوانب مخبوءة فيه يراها شريك الكتابة من جوانب قد تكون غير مرئية لشريكه. أظنّ أنّ هذا التوصيف لشرط التشارك يصحُّ بأعلى قدر من المثالية مع حالة الزوجين عندما يتآلفان على المستويين العقلي والروحي ويعيشان حياة مديدة مفعمة بالنشاط الذهني. الرفقة الزوجية الممتدة لعقود طويلة، فضلاً عن تقارب الاهتمامات، أمرٌ بمستطاعه كسر قوانين حتمية التنافر بين التطلعات الكتابية لكلّ من الزوجين؛ لكنّ هذه الرفقة ليست شرطاً لازماً لتحقّق نجاح التشارك الكتابي الذي يحتاجُ في الأغلب انعطافة وجودية فارقة وخطيرة في حياة الزوجين تهدّدُ كينونتهما الزوجية. لا تحصل المشاركة الكتابية بين الزوجين بفعلٍ إرادي مجرّد بقصد الكتابة عن موضوع أكاديمي أو غير أكاديمي بمحض الرغبة المجرّدة؛ بل تتحقق في العادة بفعل تهديد وجودي قد يترتّب عليه فصمُ العلاقة الزوجية أو التمهيد لانتهائها رغماً عن الزوجين.

يحضرُ لذاكرتي من التجارب العربية الرائدة في المشاركة الكتابية تجربةُ المعماري الراحل رفعت الجادرجي الذي تشارك مع زوجته بلقيس شرارة في كتابة كتابهما المشترك «جدارٌ بين ظلمتيْن»، وهو كتابة توثيقية بمنحى إبداعي مميز لا يغفله القارئ لما يقاربُ السنتين من حياة السجن الرهيبة التي قاساها الجادرجي. رتِبت فصول الكتاب بطريقة قصدية متناوبة تناول فيها الزوج أولاً ثم زوجته الكتابة عن جزئية محدّدة كما رآها الكاتب وعاشها. أحسبُ أنّ شروط المشاركة حاضرة هنا: زوجان عاشا حياة هنيئة لعدّة عقود من السنوات، وكلّ منهما له وضعه المهني الناجح بالمقاييس العامة، يواجهان تجربة وجودية مهدّدة لاستمرارية علاقتهما الزوجية إذا ما غاب الزوج جسدياً. هي تجربة مثالية لتحقق المشاركة الكتابية. لنلاحظْ دقة الاختيار للعنوان (جدارٌ بين ظلمتيْن): الجدار هنا هو جدار السجن الذي جعل كلاً من حياة الزوج وزوجته ظلمة مديدة، وتلك إشارة إلى مدى تعلّق كل منهما بالآخر.

تجربة أخرى، من العالم الغربي هذه المرة، هي تلك التي تشارك الكتابة عنها إرفن دي. يالوم (Irvin D. Yalom) وزوجته مارلين يالوم (Marilyn Yalom). ربما عرف كثير منّا الدكتور إرفن يالوم عبر ترجمات أعماله العديدة إلى العربية: العلاج النفسي الوجودي، عندما بكى نيتشه، مشكلة سبينوزا، علاج شوبنهاور، تعرية الحب. الكتاب الذي تشارك كتابته يالوم مع زوجته عنوانه «مسألة موت وحياة» (A Matter of Death and Life). عمل الدكتور يالوم لأكثر من نصف قرن أستاذاً لعلم النفس المرضي (Psychiatry) في جامعة ستانفورد، وكانت له طوال فترة عمله الأكاديمي عيادة نفسية وفّرت له مادة خصبة استثمرها في كتبه العديدة؛ أما زوجته التي عاش معها أكثر من ستة عقود فكانت أستاذة الأدبين الألماني والفرنسي في الجامعة ذاتها التي عمل فيها زوجها. الحقيقة المؤكّدة أنّ كلاً من الزوج والزوجة كان رائداً عالمياً في نطاق اختصاصه الأكاديمي.

من الفصول التمهيدية تتحقق لنا شروط المشاركة الكتابية: زوجان محبّان عاشا عقوداً طويلة مكتنفة بضروب التفوق الأكاديمي والهناءة العائلية على كل الأصعدة، ثم تصابُ الزوجة بعد أن تجاوزت الثمانين بسرطان عنيد في خلايا بلازما الدم، وهذا ما جعل الزوج الذي كان يعاني ضروباً من الأمراض قلقاً أشدّ القلق من فكرة موت زوجته التي أحبها وأحبّته. كيف تعامل مع هذا القلق؟ لجأ بنصيحة ملحّة من زوجته المريضة إلى تأجيل كلّ مشاريعه الكتابية الفردية والانغمار في مشاركة زوجته بكتابة هذا الكتاب. الجميل في الأمر أنّ يالوم وزوجته وضعا مخططاً ابتدائياً لهندسة موضوعات الكتاب، وهذا يعلّمنا دروساً رائعة منها التأكيد على القيمة العلاجية للكتابة، وأنّ الكتابة الجادة والمنتجة تستلزم قدراً من الانضباط والهندسة الموضوعاتية ولن تأتي عفو الخاطر أو بفعل هبة مجانية تحت ستار ادعاء عبقرية وهمية زائفة.

الكتابُ مكسوٌّ بغلالة من الحزن. هذا أمر مؤكّد ومفهوم ولا يمكن التغافل عنه بادعاء عقلانية الغربيين في التعامل مع الحقائق الوجودية (الموت مثلاً)؛ لكنه ليس مرثية (Elegy) بكائية. نحنُ إزاء عمل انكبّ عليه الزوجان بكلّ ما في قلبيهما من طاقة الحياة وعنفوانها حتى لو كان الموت يحوم فوق رأسيهما، وقد أكّد الزوجان ذلك في عبارة رائعة تصدّرت الكتاب «الحزن هو الثمن الذي ندفعه لقاء شجاعتنا كي نحبّ الآخرين». إلى جانب حالة التعاطف الوجداني مع الزوجين، وهي حالة إنسانية طبيعية متوقّعة، فالكتاب حافلٌ بضروب الشروحات والتعليقات عن تفاصيل كثيرة بعضها أكاديمي وبعضها الآخر يقعُ في نطاق الارتقاء بالقدرات الفكرية العامة للقارئ، فضلاً عن الاسترشاد بموجبات العيش الطيب.

كثيرة هي الدروس التي نتعلمها من تجربة العيش المشترك والكتابة المشتركة بين الزوجين يالوم. يكتب الزوج في بعض هذا الشأن: «بعد أن نستعرض تلك الذكريات الرائعة تضغط مارلين على يدي وتقول: إيرف (إرفن)، لا يوجد شيء في حياتي معك أريد أن أغيّره. من جانبي أوافق على ذلك من أعماق قلبي. نشعر كلانا بأننا عشنا حياتنا بالكامل؛ فمن بين جميع الأفكار التي كنت أستخدمها لأريح المرضى الذين يخافون الموت لم أكن أجد فكرة أقوى من فكرة أن يعيش المرء حياة تخلو من الندم، ولا توجد لدينا أنا ومارلين أي مشاعر بالندم؛ فقد عشنا حياة جريئة كاملة، وكنا نحرص على ألّا تضيع منا أي فرصة للاستكشاف...».

الزوجة كذلك من جانبها، وهي في خضمّ تصارعها العنيف مع السرطان القاتل، لم تنس التفكير بحياة زوجها: «أشعر بالقلق أيضاً على صحته، خصوصاً عدم مقدرته على التوازن فيضطرّ إلى استخدام عكّاز في البيت ومشّاية خارج البيت. إنّ مجرّد التفكير بأنه قد يسقط ويصيبه أذى شديد يثيرُ ذعري. نحن نشكّلُ زوجاً جيداً؛ فأنا مصابة بالسرطان القاتل وهو يعاني مشكلات في القلب واضطراب في التوازن.

عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة...».

من التجارب العربية الرائدة في المشاركة الكتابية تجربةُ المعماري الراحل رفعت الجادرجي زوجته بلقيس شرارة في كتابة كتابهما المشترك «جدارٌ بين ظلمتيْن»

يتوزّع الكتاب على خمسة وثلاثين فصلاً متفاوتاً في الطول، تناوب كتابتها الزوجان، ثم بعد وفاة الزوجة يختص الزوج بالفصول الأخيرة (وهي ليست كثيرة على كل حال)؛ وكأنه أراد القول: لا أريد المضي في مشروع الكتابة بعد وفاتك يا مارلين. تتفاوت طبيعة الفصول المكتوبة بين البوح المفعم بالمشاعر المخلصة والاستبصارات الفلسفية التي تساعدنا على العيش الطيب حتى ونحن في أوج أزماتنا الوجودية المتوقعة. ربما العناوين التالية لبعض فصول الكتاب تكشف عن المحتوى الدلالي لمتونه: عندما أصبحت عاجزة، إدراكُ الفناء، التقاعد: لحظة اتخاذ القرار، انتكاسات وآمال متجددة، مواجهة النهايات، وحيداً في البيت، مساعدة من شوبنهاور، سبعة دروس متقدمة في علاج الحزن. ينهي إرفن الكتاب بفصلين مؤثرين: أولهما عنوانه «تعليمي يستمر»، وهو إشارة جريئة إلى استمرارية العيش في الحياة بعزيمة ترى في الاستزادة من المعرفة واجباً أخلاقياً، وثانيهما عنوانه «عزيزتي مارلين»، وهو تذكرة لنا أنّ عيش الحاضر بكلّ قوة واندفاعة بعد غياب من نحب لا يعني نسيان أو تناسي من نحب.

كتابٌ على شاكلة «مسألة موت وحياة» تجربة حيّة وتطبيقية رفيعة في كيفية عيش حياة تستحق، بكلّ وقار وجلال وكرامة، بلوغ نهاياتها القصوى، وهي تتمايز نوعياً عن الكتب الموصوفة بـ«التنمية الذاتية» التي تبيع الوهم لأناس يعانون مرارة العيش في متاهات عالمنا المضطرب.

 

«مسألة موتٍ وحياة»

المؤلف: إرفن دي. يالوم ومارلين يالوم

المترجم: خالد الجبيلي

الناشر: ابن النديم للنشر، دار الروافد الثقافية

عدد الصفحات: 312

سنة النشر: 2023


مقالات ذات صلة

رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

ثقافة وفنون رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

رواية «الأفغاني... سماوات قلقة» لأوسي في دراسة نقدية

عن دار «الحكمة» للنشر في لندن، صدر للباحث والناقد المصري الدكتور أحمد الصغير آل تمام كتاب نقدي بعنوان «السرد بين التاريخ والمتخيّل التاريخي...

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مشهد من فيلم «حياة الماعز»

جزيرة العرب على شاشة السينما

يتحدث الفيلم الهندي «حياة الماعز» عن شاب هندي يأتي إلى السعودية بغرض العمل فيختطفه شخص من المطار وينقله إلى الصحراء البعيدة لكي يرعي مواشيه بالمجان

خالد الغنامي
ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«أميرة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)

جزيرة العرب على شاشة السينما

مشهد من فيلم «حياة الماعز»
مشهد من فيلم «حياة الماعز»
TT

جزيرة العرب على شاشة السينما

مشهد من فيلم «حياة الماعز»
مشهد من فيلم «حياة الماعز»

يتحدث الفيلم الهندي «حياة الماعز» عن شاب هندي يأتي إلى السعودية بغرض العمل فيختطفه شخص من المطار وينقله إلى الصحراء البعيدة لكي يرعي مواشيه بالمجان، لكنه لا يعطيه المال الذي يستحق، بل يحرمه الطعام والماء ويضربه ضرباً مبرحاً إذا طالب بحقوقه. نحن نعرف أهلنا جيداً ونعرف كيف يترفعون عن الاعتداء على الضعيف، ونعرف أيضاً كرمهم مع الضيف، وخصوصاً مع الغريب. ولو كان هذا الفيلم يتحدث عن حادثة فردية لما غضب أحد، فالمجرمون موجودون في كل مكان ولا يوجد مجتمع طهراني خالص، لكن الفيلم تعمد أن يسقط هذه القصة على المجتمع السعودي والمجتمع الخليجي ككل، ولم يكن مشغولاً بحكاية قصة فريدة، بل كان يسير في سياق السينما الغربية التي رسمت الصورة منذ زمن قديم، أيام بدايات السينما. ولا غرابة أن الفيلم بإنتاج هندي - أميركي مشترك.

هذا الفيلم الهندي اشتهر وشاهدته شريحة ليست بالقليلة من المشاهدين حول العالم بسبب الضوضاء التي أثيرت حوله، لكنه من الناحية الفنية فقير للغاية وتعيبه المبالغات الشديدة التي لا نجدها في الأعمال الفنية المحترمة. من المواقف غير المقنعة في القصة التي زعموا أنها حقيقية، هو أنه على رغم التعذيب والتجويع، لم يهرب العامل. أصحاب الإبل لا يبقون معها طوال الوقت، بل يعودون إلى بيوتهم، فلماذا لم يهرب وهو مطلق السراح ولم يقيده أحد بالسلاسل؟! كان بإمكانه طوال الوقت أن يهرب إلى الخط السريع وأن يركب مع أي عابر وأن يتوجه فوراً إلى سفارة بلاده التي ستطالب بمستحقاته. لكن شيئاً من هذا لا يحدث. هذا ما يمنعني من متابعة السينما الهندية، المبالغات المفرطة التي تحوّل الدراما كوميديا. وزعم الممثل الخليجي الذي قام بدور الشرير أن هذا الفيلم ترشح لجائزة الأوسكار، وبمرور سريع على موقع «آي إم دي بي» اتضح أن هذه الدعوى أيضاً غير صحيحة. هذه الدعوى محاولة كوميدية فاشلة أخرى عند هذا الفريق.

نحن نعلم أن هناك تجاوزات فيما يتعلق بموضوع الكفيل والمكفول، ونعلم أن كل دول الخليج تسعى إلى التخلص من نظام الكفيل برمته، لكن كل من عاش في السعودية يعلم أن الوصف الذي أدلى به الفيلم مزيف، ولم نسمع قط بمن يختطفون العمال من المطار، فمن يستقبلهم هم كفلاؤهم.

إنهم لا يعرفون بلادنا. فثمة فيلم سينمائي يحمل عنوان «كل المال الذي في العالم» يحكي قصة اختطاف شاب ينتمي إلى أسرة غنية، وسعي عائلته لاستعادته ودفع الفدية. وكان الداعي إلى الاهتمام بهذا العمل الفني هو أنه من إخراج البريطاني ريدلي سكوت، ذلك الفنان المميز القادر على صنع صورة لافتة للانتباه. سكوت رجل مثقف ومهتم بالتاريخ، وقد صنع عدداً من الأعمال التاريخية المهمة، ومع ذلك وجدناه في هذا الفيلم الدرامي يصور إحدى الشخصيات المحورية تزور جزيرة العرب (السعودية)، وكم هو مذهل تصوّر المخرج الفنان الشهير لها. لقد صوّر قطاراً يشق الصحراء الممتدة قادماً من الشمال، ليصل في النهاية إلى نهاية سكة الحديد التي ينقطع امتدادها وسط الصحراء وتقف عند فرسان أمراء من البدو يمتطون صهوات جيادهم وبجوارهم بيوت شَعر وبئر بترول. هذا الفيلم من إنتاج 2017، أي أن الفيلم حديث نسبياً، كما أنه يحكي قصة معاصرة ليست من التاريخ القديم.

إذا كان فنان مثقف، لعله أحد عشرة هم أفضل من يخرج الأفلام السينمائية اليوم، يتصور بلادنا على هذه الصورة فما بالك بمخرج «حياة الماعز»؟ صحراء جرداء وبيوت شَعر وبئر بترول لكل ساكن في تلك الصحراء. لا مدن حديثة ولا شوارع ضخمة ولا طرقات ولا فنادق ولا سيارات ولا مطارات. هل يعقل أنهم لا يعلمون أن الرياض وجدة ودبي وأبو ظبي والكويت والدوحة والمنامة لا تختلف اليوم عن كل المدن العالمية؟ لا شك أنهم يعلمون، لكنهم يريدون أن يتصوروا هذه الجزيرة خارج إطار الحداثة. هناك رغبة في أن يبقى الغرب غرباً والشرق شرقاً، وفي ألا يلتقيا أبداً رغم جهود العولمة في أن تجعل العالم قرية واحدة.

ثمة تقصير كبير في الحرص على الدقة عندما يأتي الحديث عن جزيرة العرب ودولها، لكن، يبدو أن مثل هذه الأعمال الفنية غير مشغولة بما يعتقده العرب، وغير معنية بتثقيف الغربيين عن هذا الجزء من العالم، بل تكتفي أن تنقل للمشاهد الصورة التي يريد أن يراها. يريدون أن يروا العربي بدوياً يقيم في الصحراء ويسكن في بيت شعر. رجل مهووس بالنساء، سريع الغضب، همجي في كل سلوكه، وكأنه لا يملك حسنة واحدة.

هناك سياق واحد تسير فيه كل الأعمال الفنية التي تتعلق بالجزيرة العربية منذ أن خرج للعالم أول فيلم سينمائي عن العرب والصحراء

هناك سياق واحد تسير فيه كل الأعمال الفنية التي تتعلق بالجزيرة العربية منذ أن خرج للعالم أول فيلم سينمائي عن العرب والصحراء، الفيلم الصامت «الشيخ» في عام 1921 وهو يحكي قصة درامية ومغامرة شاب عربي يتعلق بسيدة إنجليزية مستقلة التفكير فيخطفها ويهرب بها إلى الصحراء. ولم يلبث رودولف فالينتينو، بطل الفيلم، أن صنع فيلماً آخر بعنوان «ابن الشيخ» في 1926 مؤسساً لصورة نمطية لا يراد للعربي أن يخرج عن إطارها، فهو العاشق الكبير ورمز الرومانسية الشرقية وأيضاً هو خاطف النساء. يبدو لي أن فيلم «الشيخ» هو المؤسس للصورة النمطية للعرب على الشاشة الكبيرة، ثم تتالت بعده الإضافات التي تبني على الأساس الأول. ثم ازدادت الصورة النمطية قُبحاً مع السينما الناطقة وأكمل الكتّاب وضع الرتوش الأخيرة، في أعمال من مثل «لورانس العرب» الذي منحوه جائزة الأوسكار لأحسن فيلم عام 1963 رغم أنه يصور العرب على أنهم جماعة من اللصوص سفاكي الدماء، وأنهم لم ينالوا حريتهم من العثمانيين إلا بفضل جهود لورانس، ضابط المخابرات البريطانية.

ما أن يظهر اسم عربي حتى يرتبط ذلك الاسم بالجريمة ولا بد من استحضار العنف والدمار. ثم جاءت كارثة الإرهاب وحادثة 11 سبتمبر (أيلول) فيزداد تكريس الصورة وتعميقها عن العربي وكأنه هو وحده الإرهابي وأن وصف الإرهاب لا ينطبق على من قتلوا أكثر من أربعين ألفاً من أهل غزة، أكثرهم من النساء والأطفال، تحت بصر وسمع القوى الغربية التي باركت تلك الجريمة.

لا بد أن نتذكر هنا أن السينما ليست مجرد تسلية بريئة كما يتصور معظم الناس، بل هي وسيلة لتوجيه الوعي والهيمنة على التفكير وأداة ثقافية تخدم الأغراض السياسية.

* كاتب سعودي