هل مات جاك بيرك مسلماً؟

من الأجانب القلائل الذين أنصفوا العرب وقدّروا الإسلام

جاك بيرك
جاك بيرك
TT

هل مات جاك بيرك مسلماً؟

جاك بيرك
جاك بيرك

حينما قرأت نعي المستشرق أو قل المستعرب الفرنسي جاك بيرك في الصحف... وأنه مات على إثر نوبة قلبية داهمته وهو في قرية سان جوليان «ون يورن» حيث كان عاكفاً على ترجمة أجزاء من السنة النبوية الشريفة – شخصت أمامي على الفور تلك اللحظات التي قضيتها معه قبل سنوات قليلة حين زار الرياض في نهاية السبعينات الميلادية مستشاراً من قبل بضع الجهات في دراسة مظاهر التغيير الاجتماعي التي حدثت في بلادنا بعد حدود الطفرة النفطية في منتصف السبعينات.

كنت قرأت له بعض الدراسات حول التاريخ الاجتماعي والسياسي في المغرب الحديث، وحركة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار، وكذلك فقد كان كتابه الذائع الصيت «العرب من الأمس إلى الغد» طاغي الحضور في الأوساط العربية المحتفية بجاك بيرك فرنسيّاً درس حضارة الإسلام وحياة العرب المعاصرين في المغرب العربي ومصر... بحب موضوعي الأسلوب، وله في ذلك كتابان شهيران.

وكان حضوره طاغياً لأنه من الأجانب القلائل الذين أنصفوا العرب وقدّروا الإسلام... ولأنه كان ذا نزعة آيديولوجية مناهضة للاستعمار والتغريب، فقد جاء إصراره في معظم ما يكتب على أن الصيغة المناسبة لفك اشتباك الهوية بين الأنا والآخر في العالم العربي والإسلامي هي إحياء إسلام عصري.

ولم يكن قول بيرك هذا خطاباً استهلاكيّاً يصرِّح به لهذه الصحيفة العربية أو تلك ليكسب مزيداً من المكانة المزيَّفة في المجتمع العربي... كلَّا. إنما كان يقول ذلك عن فهم دقيق لخصائص المجتمع العربي الذي وُلِدَ فيه. فجاك بيرك ولد سنة 1910م في قرية تابعة لولاية وهران الجزائرية حيث كان والده موظفاً مدنيّاً معروفاً في الإدارة الفرنسية المهيمنة على مقدرات الجزائر... ولكن هذا لم يمنع الأب والابن على السواء من التأثُّر بخصال المجتمع العربي هناك... وبعد تخرجه الأولي في مدارس الجزائر الفرنسية، ذهب وهو فوق العشرين موظفاً ذا سلطة في المغرب... إلَّا أن هذا لم يمنعه من الاحتكاك بالمجتمع وهمومه وقضاياه، ولتعرفه على عقلية المجتمع المغربي طفق يُثني ركبتيه في جامع القرويين أمام مشايخ المغرب ليدرس الفقه الإسلامي... كما يؤكد ذلك ألبرت حوراني في كتابه الأخير قبل رحيله، وهو «الإسلام في الفكر الأوروبي».

وقد أدهشني حقاً وأنا أسجل معه حواراً تلفازياً في برنامجي الأول «الكلمة تدق ساعة» كيف أبكى جمهور قريته الفرنسية، وهو يقرأ أمامهم - في لقاء أدبي - قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، فوجدهم متفاعلين مع صور القصيدة، التي استوحاها الشاعر العراقي من طبيعة قريته جيكور، ونهيرها الصغير (كما وجدته).

ولنا هنا أن نقف باندهاش وتساؤل وتفكير أمام ما يقول حوراني في صفحة 164 من كتابه عن جاك بيرك: «إن كتابات بيرك مليئة فعلاً بالمشاهد والأصوات، بالروائح والمذاقات، لقد تشرَّب هذا الرجل العالم العربي بكل جوارحه، إنه لا يُصادق ببساطة في كتبه، إنه شخص يُرى سائراً في شوارع فاس الضيقة... عيناه منخفضتان، سجادة الصلاة تحت إبطه... خطواته تنم عن احتقاره لمشاهد العالم من حوله... كياسته الزلقة، أعصابه أعصاب أحد سكان المدن القدامى، حيلته كحيلة أحد رجال الحاشية القدامى، تعلقه بالمخمل المستعمل للزينة والحصى المنحوت في المنازل الرائعة، يجعله البطل المثقف لحضارة تعبر عنها جيداً موسوعية رجل الفكر، ومهارة الحرفي، ومتعة مآكلها».

ويواصل ألبرت حوراني حديثه عن جاك بيرك مسترشداً هنا بكتابه «عربيات» الذي هو كتاب سيرة ذاتية أملاه سنة 1978م على الباحثة اللبنانية دنيز عكر، يقول حوراني:

«هكذا يستحضر الجزائر التي عاش فيها طفولته بالمشاهد والروائح... ضوء ما بعد الظهر المتلألئ، رائحة (البرانس) الملوثة بالشحم، رائحة الأفاوية، والمغرب بطبقها الملوكي، فطيرة الحمام واللوز (البستيلا)، مثل هذه الانطباعات المحسوسة في كتاباته تصبح رموزاً لطبيعة الغرب المحددة، ولقبوله الخاص لها، ليس عنده شيء من فقدان السهولة، التي رسمت اتصال العديد من العلماء من الجيل السابق لجيله بالحقيقة الإنسانية التي درسوها، ببساطة - يقول جاك بيرك - إنني أذهب إلى البلدان العربية لأنني سعيد هناك».

في بحث للمستشرق الفرنسي روبير منتران، كتبه بمناسبة زيارته لبعض الجامعات العراقية قبل سنوات حول «الاستشراق الفرنسي، أصوله، تطوره، آفاقه» طفق منتران يقدم عرضاً بانوراميّاً عن تاريخ الاستشراق الفرنسي وظروف نشأة الاستشراق في الغرب عامة بعد الحروب الصليبية، وكذلك ذكر رموز الاستشراق الفرنسي وأعمدته... ودور مدرسة اللغات الشرقية والمكتبة الوطنية التي أنشئت بباريس في بداية الأمر لدراسة واقع الشرق المستعمر هنا وهناك في العالم الإسلامي.

حين مرّ روبير منتران على هذا كله، لم يتمالك من رمي بعض حصوات النقد في بركة الاستشراق الفرنسي التي اكتشف أنها تقف في مستوى تقليدي ساكن، رغم ما قدمته من خدمات إجرائية لدراسة التراث العربي والإسلامي... ولذلك فهو يطالب في بحثه الذي نشر في دورية «الاستشراق» البغدادية الصادرة في فبراير (شباط) سنة 1987م بالخروج من مفاهيم الاستشراق التقليدية، وذلك «بربط الموضوع (المدروس) بوشائج المجتمع العربي والإسلامي، أي في البيئة التي عرف فيها هذا الأدب ولادته وانتشاره».

وهذا ما حدث فعلاً لجيل المستشرقين الجدد في فرنسا، الذين واكبوا حركة المتغيرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي مؤخراً، ومنهم جيل كيبيل وريان يشار وأوليفيه روا في دراساتهم عن تجربة الإسلام السياسي... غير أن الإنصاف العلمي ينبغي أن يرجح شيخ المستشرقين الفرنسيين المعاصرين جميعاً «جاك بيرك»، فهو الذي خرج بالمفهوم التقليدي للدراسات الاستشراقية أو الاستعرابية إلى آفاق جديدة حين تم ربط الظاهرة الفكرية والأدبية بجذورها الاجتماعية من خلال تخصصه كعالم اجتماع درس «التاريخ الاجتماعية لقرية مصرية في القرن العشرين» حيث تطور هذا البحث إلى كتابه ذائع الصيت «مصر الاستعمار والثورة».

ويذكر الكاتب اللبناني حسن الشامي في مقالة بجريدة الحياة ملمحاً مهمّاً في هذا الجانب من حياة بيرك العلمية، وهو المتعلق بأول بحث نشره في الجزائر سنة 1936م، فقد كان بعنوان «الوثائق الرعوية لبني مسكين».

لهذا، فلم يكن مستغرباً أن يتصاعد تفاعل بيرك بالمجتمع العربي ودراسة همومه وقضاياه وفكره، فإذا به يعكف في السنوات العشرين الأخيرة على إعداد ترجمة واسعة ومميزة للقرآن الكريم، أكملها في أخريات حياته، كشفت بعمق عن تعلق عاطفي وعقلي بكل ما لدى العرب من فكر وحضارة ودين، شغل لبّ المستعرب الفرنسي الذي كان كما يقول ألبرت حوراني: «يتأبط سجادة الصلاة في أزقة فاس».

هل كان جاك بيرك مسلماً؟

إنه سؤال يستحق اهتمام الدراسين، خصوصاً أن الرجل أنهى حياته بدراسة مصدري الدين الإسلامي الحنيف؛ القرآن الكريم والسنة النبوية.

بل السؤال المحير الذي تم تجاهله...

لماذا أوصى جاك بيرك بدفن نسخة من ترجمته للقرآن الكريم معه في قبره، رغم الحملة الشرسة التي طالت هذه الترجمة، من قبل بعض المسلمين، في الوقت الذي كان عاكفاً على دراسة السنة النبوية في أخريات أيامه سنة 1995م؟!

كما أنه أوصى بأن تنقل مكتبته الضخمة من بيته في باريس، إلى مسقط رأسه في مدينة فرندة الجزائرية، حيث ولد هناك سنة 1910م.



جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده
TT

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

قبل أن يغادر العراق إلى موسكو للدراسة، والحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية من هناك، كانت قد صدرت له في بغداد 3 روايات و3 مجاميع قصصية. ثم عمل مراسلاً حربياً لعدد من المنابر الإعلامية؛ حيث قام بتغطية حروب كثيرة نشبت ما بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي بعد تفكيكه، خصوصاً في كاراباخ وأذربيجان وأرمينيا والحرب الشيشانية الأولى والثانية وأفغانستان والبلقان وكردستان ودارفور والعراق ولبنان وغيرها. أصدر عدداً من الروايات والكتب، منها ثلاثيته عن بغداد، و«مقاصب الحياة»... وغيرها. ويقيم الآن في الكويت؛ حيث يعمل محرراً ثقافياً لجريدة «القبس». آخر كتاب له هو «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» الذي أثار جدلاً بين أوساط المثقفين.

هنا حوار معه:

> «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» هو أحدث كتبك الصادرة، لكنك لا تتحدث فيه بشكل خاص عن الكراهية السائدة بين المثقفين، كما يُفهم لأول وهلة من عنوانه، بل جاء ذلك تفصيلة من موضوع كبير يخص مجتمع الثقافة والمثقف، من مثل مستقبل الثّقافة، وفردانيتها، وصُعود الثّقافة وانْحِدارها، والثّقافة المشكوك فيها دائماً... ما الذي أردت أن تقوله في هذا الكتاب؟

- لكي أعطي صورة كاملة عن الكتاب، لا بد من الإشارة إلى أن هناك جزءاً ثانياً سيلحقه، وهو عبارة عن كتابين في كتاب واحد، الأول يتم تقليبه من اليمين إلى اليسار وعنوانه «بلطجة المثقفين»، والثاني يتم تصفحه من اليسار إلى اليمين وهو الجزء التطبيقي من الموضوع برمته، وعنوانه «بازار الثقافة الكبير»، وسيصدر أيضاً عن دار «صوفيا» في الكويت في مطلع سبتمبر(أيلول).

بالتالي سيكون لدينا 3 كتب عما أطلقت عليه «مجتمع الثقافة والمثقفين»، لم أطرح أفكاري في هذه الكتب كمفكّر، بل كناقل لتجارب بصفتي أحد السكان السابقين فيما يسمونه «الوسط الثقافي»، فقد بقيت فيه، أو حُسِبت عليه، إلا أني عرفت كيف أخرج منه، منذ سنوات طويلة، ومن ذلك الوقت بدأت أكتب هذه الحكاية، ولكني لم أنشرها إلا الآن.

أعرف النوعية التي استفزها كتابي «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» وسيزدادون كرهاً بقراءة الجزأين الثاني والثالث منه، وسأستمر في إزاحة الغطاء، فهؤلاء اعتاشوا كثيراً وطويلاً على الثقافة، وقدموا أنفسهم كمثقفين. وسنجد في كتابنا المقبل الوصف الذي يستحقونه حقاً. في المقابل، ثمة من اعتاد على التعامل مع المثقفين كتماثيل الشمع في المتاحف، وفجأة رأى كتاباً يضخ الروح في هذه الهياكل التي كان يتعامل معها بقدسية وخشية ورهبة.

> في فصل «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» نتساءل هل حقاً المثقفون يكره بعضهم بعضاً؟ وهل هذا ما خبرته بشكل شخصي ممكن أن يكون عاماً؟

- الكاتب ليس مهمته الإجابة عن الأسئلة، في الغالب هو يطرحها للنقاش العام. وقد يأتي مؤلفون آخرون يكملون المهمة، لأن هناك أسئلة ما إن تجيب عليها، حتى تختلف ظروفها وتتغير إجاباتها. فهل أجاب سارتر عن سؤال الوجود العدم؟ هل أجاب كانط عن أسئلة جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم؟ وهل صحح كارل غوستاف يونغ طرق التحليل الفرويدية؟ هل أكمل سقراط وأفلاطون أسئلة الأخلاق؟ وهل وضع هيغل المنهج الجدلي حيز التطبيق في حياتنا؟ بالمناسبة، حتى آينشتين ترك أسئلته معلّقة لكيلا ينسف الفيزياء، وادّعى جهله متعمّداً.

والإجابة المباشرة على سؤالك: هل يكره المثقفون بعضهم؟ أقول إن المثقفين لا يكره بعضهم بعضاً فحسب، بل لا يقبلون بهدنة في حروبهم، وبعضهم لا يجنحون للسلم، ففي الحروب يظهرون أكثر. والمثقفون لا يسامحون بعضهم، ولا يمكن أن يكرهوا أحداً آخر كما يكرهون المثقف الأفضل منهم؛ لأنهم لا يكرهون الأقل منهم بالمستوى. المثقفون يكرهون من ينافسهم، ولكنهم لا يكرهون الطبيب الذي يعالجهم والسائق الذي يوصلهم وبائع المكتبة الذي يعطيهم تخفيضاً ودار النشر التي تطبع لهم والنادل الذي يسقيهم والصحافي الذي ينشر أخبار كتبهم... لا يكرهون هؤلاء، هُم متخصصون في كره بعضهم.

> كتبت بعد عام 2003 ما نسميه الملحمة العراقية، التي بدأت عندك في رواية «أموات بغداد»، وأعقبتها رواية «رسائل أمارجي»، ثم اختتمتها برواية «حبة بغداد»، التي تناولت فيها حجم الكارثة التي اجتاحت البلد، وما وراءها من أحداث، من استباحة للذاكرة التاريخية... هل ترى أن المشهد العراقي وما رافقه من دمار يستحق التعبير عنه بملحمة؟

- كشاهد عيان على ما حصل، كعراقي وروائي، طرحت على نفسي سؤالاً من شطرين: إذا أنا لم أكتب ذلك، فمَن سيكتبه؟ وإذا لم أكتبه الآن، فمتى سأكتبه. ومن تلك اللحظات بدأ مشروعي الروائي الكبير الذي ذكرته في ثلاثية، تتجاوز ألفَي صفحة، امتدت فترة كتابته لنحو 20 سنة، واصلت فيها الليل مع النهار وبلا توقف، ولعلّ أكثر ما أفخر به في مسيرتي الروائية والأدبية هو تمكني من إنجاز «ثلاثية بغداد» أو «الملحمة العراقية»، التي كتبتها بالدم، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى. مُعيداً ترتيب كومة ذكريات ولّدت في داخلي عوالم بأكملها، وأعتقد أن تشكيلي من كلّ العراقيين المنصهرين بالنظام الكوني عبر آلاف السنين. عن الفتى الذي احتشد في زوايا المكتبات وكتابة رواية تليق بالعراق وأعدها أهم عمل في حياتي، حينما يشعر أيّ عراقي بأنه القصة نفسها.

> يقول القاص والروائي العراقي محمد خضير: «أحسّ جمال حسين بوجوب هذا التنافذ النصي فاختار استراتيجاً بناء يطوف حول مئات المدونات ويأخذ من نصوص الأولين والآخرين ما يدعم موضوعته عن (حقيقة الإنسان)...» هل دفعتك الرواية فعلاً لهذا الجهد؟

- عندما بدأت كتابة رواية «أموات بغداد» منذ ما يقارب العقدين (نشرت الطبعة الأولى عام 2008 في بيروت، دار الفارابي، ثم أعيدت طباعتها في مصر 2015، وفي العراق 2021)، أدركت وقتها أن موضوعها أقوى مني، من كل النواحي (المعرفية والبنيوية والتاريخية والعلمية والطبية والفلسفية) وكتكنيك روائي أيضاً، وهذا دفعني لأتعلّم وأتطوّر لكي أُجاريها وأفعل بها ما أُريد. ذلك لأننا لا نكتب الأشياء التي نعرفها فقط، بل نكتب ما لا نعرفه، لكي نتعلّمه في غضون الكتابة. وهذه إحدى المُتع الأزلية للكتابة. ففي كلّ مرة أكتب فيها رواية جديدة، أدخل في تدريب جديد للمهنة، وقد يستغرق ذلك وقتاً لذيذاً أشعر فيه بالأمان، وفي غضون ذلك أسمح لنفسي بأخذ عيّنات من مصائر الناس الذين سأكتب عنهم. سوف يأتي جيل يقرأ «أموات بغداد» وسيشعر بالقرب منهم أكثر مما شعرت به من قبل، تجاه الأشخاص الذين كنت أعرفهم قبل أن أنسحب من العالم. وأخبر النقد المستقبلي بأني وضعت الكثير من الأسئلة في ملحمتي العراقية، وستبقى هذه الأسئلة وستستمر مع تاريخ العراق.

> في روايتك سعيت لتخليق «آدم» الجديد، من جينات معدلة يستخلصها من جثث ضحايا الاحتلال والميليشيات والعصابات، وهي من مخلفات الغزو الأميركي، هل فقدت الأمل بالخلاص إلى الحد الذي لا يكون إلا بخلق إنسان جديد يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي؟

- لم أكتب «أموات بغداد» و«رسائل أمارجي» و«حبّة بغداد» لهذا الجيل، ولا حتى للجيل الذي بعده. لا أقول فقدت الأمل بهم، لكن أملي أكبر في الأجيال المقبلة، فنحن لا نكتب ما حدث، بل ما نريده أن يحدث. وهذه هي الطريقة التي نعتقد أن الأشياء تحدث بها. غالباً، لا أكتب إلى الأحياء، فالذي يبقى وفيّاً للأموات، يعرف كيف يخلص للأحياء؛ لأن الأدب هو الطريق الذي يُلغي الزمن، ويتيح لنا أن نتحدث وحدنا مع الموتى وكذلك مع الذين لم يولدوا بعد. وبالنسبة لـ«آدم» الجديد، هو تجسيد للمنتظر في الميثولوجيا الشرقية تحديداً، ونراه في أدب ما بعد الحربين العالميتين بشكل واضح.

> عملت في الصحافة مراسلاً حربياً في مناطق ملتهبة وعديدة من العالم، حتى تتويج عملك بفوزك بجائزة الصحافة العربية في مجال الريبورتاج الصحافي، وثقت أغلبها في كتب عديدة... ما الذي أضافته لك هذه التجربة على صعيد السرد؟

- ذهبت للحروب روائياً بهيئة صحافي. وحتى كتابتي لم تكن تقارير صحافية تقليدية، بل كانت قصصاً عن الناس والأماكن والمشاهدات والأحداث. لقد أحببت الناس، وسمحوا لي بتصويرهم، لكنهم أرادوا مني أيضاً أن أستمع إليهم، وأن يخبروني بما يعرفونه، حتى نروي قصتهم معاً، مثل سؤال بيكيت: «هل نمت بينما عانى الآخرون؟». كانت مهمتي كمراسل حربي تكمن في محاولة معرفة ما الذي يفعله الناس في المدن التي تحترق، وكيف يعيشون ولماذا يحصل كل ما يحصل. لذلك كتبت ما رأيته، وما كنت على استعداد لتحمّله. وقد أتذكّر أولئك الساكتين الذين لديهم الكثير ليقولوه، فقد جرّبت حمل ثقل الحكاية غير المرويّة... وعرفت أن أعيش ولديّ دائماً قصة أرويها.

> رغم تخصصك العلمي الدقيق، لكن الملاحظ أن حرفة الأدب والكتابة أخذتك منه... ما الذي تقوله في ذلك؟

- أكثر حبّ أخفيته وكأنه غير موجود هو حبّي للفيزياء. فقد قضيت حياتي بين الكتب والجامعات، وفي مكاتب الصحف والمجلات، وبدأت الأدب والعلم بالبحث، كطريقة أساسية للتعلّم؛ لذلك كوّنت فكرتي عن الناس والكون والفضاء والتاريخ بشقّ النفس وبشكل ذاتي. استمتعت بالكتب والقراءة والدراسة. درست العلوم المجردة وكنت أدرك أنها تقدّم القليل للتطوّر من دون الأدب والفنّ.

كانت هذه فلسفتي العامة في التعامل مع اهتماماتي العلمية والفنية والأدبية والإعلامية وحتى داخل المجال نفسه؛ لذلك لا أحبذ أن يتم تعريفي - نقدياً - بطريقة إجرائية... أفضّل أن أعوم مثل مادة هلامية غير قابلة للإمساك، مثل كائن مُتغيّر الأنماط والألوان، وليس شخصاً ممتهناً حرفة بعينها. لم تكن هذه فلسفة، بل مجموعة أحاسيس، فحبي للمجالات المتنوعة مثل حبي للطبيعة، لا يشترط أن أعرف لماذا وما هي... المهم وجدت نفسي أحبّ هذا المكان دون سواه.