هشام مطر يروي بسيرة الفن والفقد والمواساة

الكاتب الليبي يقتفي أثر الماضي عبر «شهر في سيينّا»

هشام مطر يروي بسيرة الفن والفقد والمواساة
TT

هشام مطر يروي بسيرة الفن والفقد والمواساة

هشام مطر يروي بسيرة الفن والفقد والمواساة

قبل أن يعبر هشام مطر بقارئه إلى ضفة مدينة سيينّا الإيطالية، يستهل السطور الأولى من كتابه «شهر في سيينّا» بإيماءة تحية لوطنه الليبي بما يحيلنا إلى الكتابة السيّرية التي لا تُغادر مشروع الأديب الليبي البريطاني، فترافقه أينما حل «ليبيا» التي عرفها طفلاً، قبل أن يقطع طريقه في الغربة وينتهي به المطاف للعيش في لندن، وبعد ثلاثة عقود من الغياب يعود إلى موطنه بحثاً عن والده المفقود بها، فالعودة لم تكن فقط عنوان سيرته الذاتية، لكنها ثيمة مركزية في أعماله، وليبيا هي «نقطة الانطلاق التي منها سافر أبعد وأبعد»، كما يقول في مطلع كتابه الجديد.

صدر الكتاب أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، بتوقيع المترجمة العمانية زوينة آل تويّة التي ترجمته عن الإنجليزية، وفيه يقطع هشام مطر مع قارئه أميالاً طويلةً من المسافات الجغرافية صوب مدينة سيينا الإيطالية، ويُحلّق خلال رحلته بها في متاهات يبحث في غبارها عن الفن والحب والمواساة والفقد، وهي تأملات لا تخلو من طيف الوطن الليبي الذي تنثال ذكراه في محطات الرحلة التي يقتنصها من الزمن، ويقرر القيام بها بعد سنوات من افتتانه بالفن السييني، الذي يشير مؤرخو الفن إلى انتمائه للفترة من القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر ويمثل مرحلة فنية خاصة تفصل بين الفن البيزنطي وفنون عصر النهضة، أو كما سيُقاربها هشام مطر بصورة بلاغية فيقول إن الفن السييني: «مثل الأوركسترا التي تُدوزن أوتارها في وقت الاستراحة».

انفعالات فنية مبكرة

قبل أن يصل هشام مطر إلى قلب مدينة سيينا، تحديداً ساحتها الأشهر «إل كامبو»، يكون قد شارك مع قارئه رحلة افتتانه المُبكرة بمطالعة الفن، الذي تسلل الشغف به إلى قلبه منذ كان طالباً في لندن لم يتجاوز العشرين من العمر، فيتذكر كيف كان يزور «المعرض الوطني» بلندن يومياً خلال فترة استراحته للغذاء ليتوقف كل يوم أمام لوحة واحدة، وأن التفاته المبكر في هذا الوقت لأعمال المدرسة السيينية لم يكن مجرد إعجاب بلون فني بقدر ما كانت تتكثف حيال لوحاتها مشاعر ظلّت تعتمل بداخله، ويعبر عنها في كتابه وكأنما يصف بها توتر علاقته بحبيبة قديمة، فيقول: «في البدء لم أعرف كيف أقاربها»، يتحدث كيف أن التحديق المباشر في لوحات المدرسة السيينية كان يمثل بالنسبة له تحدياً في ذاته، ربما لغموضها، أو لغرابتها عن أعمال كان يهتم بها في تلك المرحلة من حياته كلوحات سيزان ومانيه على سبيل المثال، أما اللوحات السيينية بما كانت تحمله من شفرات ورموز مسيحية فكانت تجعله يشعر أنه «غير مستعد» لمقاربتها بعد، وهي مشاعر ربما كانت تحمل وعداً منه بالعودة لها من جديد، ولكن هذه المرة بزيارة لموطنها وبيتها الأصلي في سيينا الإيطالية.

لم يكن تطوير الذائقة الفنية هو السبب الوحيد الذي كان يدفع مطر لبناء علاقة مع الأعمال الفنية منذ كان طالباً في لندن، وإنما كانت تجمعه آصرة شديدة الذاتية في تلك العلاقة، التي بدت علاقة سلوان ومواساة بعد صدمة اختفاء والده، الذي اختُطف في عهد القذافي وزُج به في طائرة من القاهرة إلى ليبيا حتى اختفى أثره، فذاب بها كما يذوب الملح في الماء، وهي مشاعر يستدرجها هشام مطر من ذاكرته، ليرسم بها نصاً موازياً لزيارته إلى سيينا، ويترك من خلالها شهادته عن الفن كملاذ.

ظل الفن السييني الذي يطالعه هشام مطر عبر النماذج المعروضة له في المتحف الوطني بلندن، كلوحة دوتشو دي بوننسينيا الشهيرة «شفاء الولد المولود ضريراً» يثير لديه الرغبة والحلم بزيارة سيينا على مدار نحو 25 عاماً، حتى باتت تلك المدينة الإيطالية تحتل داخله «تبجيلاً مرتبكاً كالذي يشعر به المؤمن وهو يتجه نحو مكة أو روما أو القدس»، كما يقول في كتابه، وبهذا الارتباك، وبكثير من الاشتياق، يقطع الطريق لتلك المدينة التي تحتضن تلك الحقبة العتيقة من تاريخ الفن.

قلب المدينة المُتقّد

يجوب الكاتب دروب مدينة سيينّا بدهاليزها وممراتها القديمة، ساعياً لتلمس نبضها الخاص، فهي توحي له بوجه هادئ يُخفي قلباً مُتقداً، يرسم معالمها على امتداد صفحات كتابه، فلا يمكن قراءة انطباعاته عن لوحات المدرسة السيينية بمعزل عن هوامشه عن المدينة، التي يبدو كل ما فيها من معالم، وبشر متفانين في العناية بالأغراب، والتدقيق في تفاصيل الحياة، ينبع من «عادة سيينية» أصيلة، على حد وصفه.

إلى جانب اعتماد هشام مطر على الكتابة الذاتية في مقاربة رحلته إلى سيينّا، فهو يضفر سرده بالحوارات العفوية التي جمعت بينه وبين زوجته ورفيقة رحلته «ديانا» التي يُهدي إليها الكتاب، وأضفت أحاديثهما في الفن والتقاطهما تفاصيل من داخل اللوحات طابعاً حوارياً يزيد من تعميق قراءة اللوحات، ومنح النص كثيراً من الحميمية، لا سيما التقاطعات مع ذكرياتهما الخاصة التي كانت تجددها مشاهدتهما لكل لوحة عبر لمحة خاطفة، والنظرة للحياة من خلال تلك المسافة بين ما كانت عليه وما كان يمكن أن تكون، في رابط زمني لا يفقد تراوحاته وشجنه على مدار الكتاب، ففي أحد المشاهد يسرح هشام مطر في المسافة بين المكان الذي وقف فيه في سيينا مع زوجته أمام لوحة لورنزيتي «رمز الحكومة الصالحة»، وبين لحظة تسبقها بأعوام، عندما هبط هو وديانا في روما قادمين من طرابلس في أعقاب عودته إليها بعد أكثر من ثلاثة عقود في المنفى، فيقول إنها «مدة من الزمن غدوت في أثنائها رجلاً وربما رجلاً مختلفاً عن ذلك الرجل الذي كان من الممكن أن أكونه لو بقيت في ليبيا (..) هنا كنا في سيينا، وروما، وطرابلس دفعة واحدة، وهنا كنا نرنو إلى وجهي العدالة وضحيتها في لوحة لورنويتي، وكذلك وجهي داوود وجالوت في لوحة كارافاجيو».

يبدو هشام مطر في جولته بين لوحات سيينا وكأنه يؤسس آصرة سردية مع اللوحات التاريخية، فهو يتقاطع معها بخياله الأدبي، فينظر مثلاً للوحة «مادونا دي فرانشيسكاني»، بعد أن يضعها في سياقها التاريخي الذي رسمها فيه دوتشو قرابة عام 1290 قبل أن يصبح فنان سيينا الأعظم، فيتأمل هشام مطر تلك اللوحة وينظر إلى ثوب الأم العذراء الأسود الذي يُميط اللثام عن فضاء خاص، بهشاشته البائسة التي تُقارن بقوة ابنها العظيم، فيلتقط تلك الإشارات من عمق حكايا اللوحات القديمة مثيرة داخله صيحات من الإلهام والمُخيلة، ومقاربات لكيانه الوجودي كذلك، فعلى مدار سيره في ثنايا سيينا وهو يُلح عليه سؤالان: «ماذا لو وُلدت هنا، وماذا لو قُدر لي أن أموت هنا؟»، ويقول إن هذين السؤالين هما التوأمان اللذان يتعقبانه في كل مدينة.

صدرت ترجمة «شهر في سيينا» للعربية بالتزامن مع وصول هشام مطر للمنافسة على جائزة «البوكر» البريطانية لهذا العام عن روايته الجديدة «أصدقائي» ضمن القائمة الطويلة للجائزة من بين 156 رواية باللغة الإنجليزية، ومن المقرر إعلان القائمة القصيرة للأعمال المرشحة للجائزة في 16 سبتمبر (أيلول) المقبل، ويأتي هذا الترشيح بعد أيام من فوز رواية مطر بجائزة «جورج أورويل» للكتابة السياسية لعام 2024.

كما سبق وفازت مذكراته «العودة» التي تحدث فيها عن بحثه عن والده بأكثر من تتويج، أبرزها جائزة «بوليتزر» عن فئة السيرة الذاتية في عام 2017، وأُدرجت روايته الأولى «في بلد الرجال» في القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر» الأدبية في عام 2006.



هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

مأدبة أفلاطون
مأدبة أفلاطون
TT

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

مأدبة أفلاطون
مأدبة أفلاطون

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر، بل هو العمل الرائد والتأسيسي الذي استطاع أن يدمغ ببصمته الخاصة تاريخ الحب ومفاهيمه والنظريات المتعلقة به في العالم، وفي الثقافة الغربية على نحو خاص. ومع أن تسمية الكتاب قد استندت إلى المأدبة العامرة التي أُقيمت في منزل الشاعر التراجيدي أغاتون، إثر فوزه في مسابقة للدراما تم تنظيمها في أعياد ديونيسيوس، إله الكرمة والزرع والخمر، فإن الفيلسوف اليوناني الأشهر أراد بتلك التسمية أن يتخطى البعد المادي للوليمة، متلمساً بُعديها الثقافي والفلسفي، وموائماً بين غذاء الجسد وغذاء الروح.

على أن أي تأمل عميق في آراء الأشخاص المشاركين في تلك المناظرة النادرة في عمقها وتنوعها، لا بد أن تسبقه وقفة مماثلة عند تاريخ المناظرة نفسها، وهي التي أقيمت في الفترة التي أعقبت اشتعال الحرب الضروس بين أثينا وإسبارطة، وقبل سنوات قليلة من انهيار المدينة التي حملت شعلة التنوير في العالم القديم. ولعل من بين المفارقات التي عكستها مأدبة أفلاطون أنها لم تكن مجرد جلسة للمنادمة والأحاديث الساخرة، تنادى إليها مثقفون أثينيون مختلفو المشارب والثقافات، معظمهم من ذوي النزعات المثلية، بل كانت مطالعة إنسانية في الحب والشغف، لم يظهر بعدها أي تصور للتفكر أو التأمل الديني للرغبة، من دون أن يستند إليها مرجعاً تأسيسياً، وفق المحلل النفسي جاك لاكان.

وإذا كان كل من المشاركين يستند إلى خلفية ثقافية ومعرفية مختلفة، فهو أمر أملاه حرص أفلاطون على تلمّس الحقيقة من غير زاوية ومنظور. وهكذا كان بين المشاركين فيدروس، الفتى المفتون بالميثولوجيا القديمة، وباوسنياس المختص بالقوانين، وأركسيماخوس المهتم بالطب والفنون، وأريستوفان الشاعر الكوميدي، وأغاتون الشاعر التراجيدي المحتفى به، وسقراط الفيلسوف الممتلئ بالحكمة. وحيث كانت أثينا تترنح تحت وطأة الضربات الإسبارطية القاسية، لم يفت أفلاطون أن يلون مأدبته بنكهة حربية، فضم إليها ألكبياديس، أحد قادة الجيش الأثيني.

وإذ يفتتح فيدروس جلسة الحوار، يكشف عن حنينه البالغ إلى الحقبة الوردية لبزوغ الوعي اليوناني، معتبراً إيروس الإله العظيم الذي لا أم له ولا أب، ومشيداً بالأجيال السابقة التي صنع أبطالها الشجعان من أمثال أخيل، مجد اليونان وعظمتها الحقيقية. ويضيف فيدروس أن الحب يدفعنا نحو التصرفات الصائبة، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفقد شرفه أمام محبوبه حتى في لحظات الموت، وأن جيشاً من العشاق قادرٌ على هزيمة أعتى الجيوش وأكثرها بأساً.

ورأى بوسانيوس في مداخلته أن للحب الإيروسي طبيعتين اثنتين، واحدة حسية وأخرى روحية. وهو يعزو هذه الازدواجية إلى أفروديت، إلهة المتعة والجمال، التي كانت مزدوجة الهوية. فثمة أفروديت سماوية وُلدت من دون أم، من إله السماء أورانوس، وأخرى أرضية، هي ابنة زيوس وديونا، التي يسميها بوسانيوس بالوضيعة أو الدنيئة. وعدَّ أركسيماخوس أن الحب يشيع في حركة الطبيعة، ويجسد خير تجسيد حاجة الكون إلى التآلف. وهو إذ يتمتع بقوة عاتية تصعب مقاومتها، فإن هذه القوة «لا تظهر في النفوس البشرية وحدها، بل في الحيوانات والنباتات بقدر مماثل».

بعدها قدّم أرستوفان مطالعة مسهبة حول الحب مفادها أن البشر كانوا منقسمين إلى أجناس ثلاثة، ذكر وأنثى وخنثى، ليضيف بأن أجساد تلك الكائنات كانت مستديرة في السابق، وكان لكل منها أربع أيدٍ وأرجل ووجهان متماثلان، وكانت أجزاؤها السفلى مزدوجة، وحركتها في المشي دائرية أيضاً. وقد ظل شأنهم كذلك إلى أن تطاولوا على سلطة الآلهة، فقرر كبيرها زيوس قسمة كل منهم إلى كائنين اثنين؛ لكي يضعف شأنهم، ولكي ينشغل كل منهم بالبحث المضني عن نصفه المفقود. وحين يتفق لأحدهم أن يلتقي نصفه ذاك، ينتاب كليهما شعور مذهل بالتعلق والتقارب، بحيث لا يرغبان مطلقاً في أن يفترق أحدهما عن الآخر.

ثم تحدث أغاتون، الشاعر التراجيدي المحتفى به، فرفض اعتبار إيروس أقدم الآلهة، بل عدّه أجملها وأصغرها سناً، وأكثرها حرصاً على رفد العالم بالحب والتآلف والإخاء. وهذا الإله بالذات هو الذي يستحق أن تدبج له المدائح، حيث زالت بمولده معظم المنازعات بين الآلهة والبشر، وتراجع في كنفه منسوب الشقاء في السماء والأرض.

أما سقراط، فينسب رأيه في الحب إلى امرأة محنكة تسمى ديوتيما، قائلاً بلسانها إن رغبة الاتحاد في الآخر لا قيمة لها مطلقاً إذا لم تعكس نزوع صاحبها إلى الخير والجمال والخلود. ويضيف سقراط أن بعض البشر يسعون إلى الخلود عن طريق النزوع الجسدي إلى الإنجاب وتأبيد السلالة، في حين أن المبدعين منهم يؤثرون «الحبَل» في أرواحهم، فيسعون إلى إعلاء العقل ومعانقة الجمال الأسمى. وما الجمال الجسدي بشيء يُذكر إزاء ذلك الجمال الذي يشع بالمعرفة والحكمة والسمو الأخلاقي.

وإذ وافق أفلاطون نظراءه على بعض آرائهم، لم يوافق على اعتبار إيروس إلهاً، بل عدّه شيطاناً يلعب دور الوسيط بين البشر والآلهة. وهذه الماهية الشيطانية لإيروس تعود إلى ولادته من علاقة عابرة أقامها بوروس إله الرفاه المخمور، مع بينيا إلهة الفقر، أثناء وليمة صاخبة أقامها الأول احتفاءً بولادة أفروديت. وأضاف بأن إيروس كان خادم أفروديت الأمين لأنه مدين لها بولادته، وأنه كان بطبيعته محباً للجمال لأن أفروديت كانت تتمتع بجمال أخاذ. كما أن نظرية أفلاطون عن إيروس تقوم على مزاوجة جدلية بين المتناقضات، كالفقر والثراء، الحكمة والجهل، القسوة والرقة، والموت والخلود.

على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس

ويؤكد أفلاطون أن الحب لا يتم توسله بالعقل وحده، بل إن للقلب إسهامه المهم في الانتقال من المجال الحسي إلى الروحي، ومن النسبي إلى المطلق. كما أن على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس، بما يسمح للسالك أن يتحرر من عبودية التعلق بهذه المرأة أو ذلك الفتى، لكي يتمكن من رؤية الجمال الأزلي الذي هو الغاية القصوى لكل من الفكر والعاطفة.

وإذا كانت آراء أفلاطون في الحب قد شكّلت المرتكز الأهم لنظريات الحب في العالم، وفي الغرب المسيحي على وجه الخصوص، فإن الكثير من الفلاسفة والنقاد لم يروا في تلك الآراء ما يتعارض مع مبدأ العلاقة الجسدية الهادفة إلى حفظ النوع بشكل مطلق، بل مع تحول النزوع الشهواني غايةً وحيدةً ونهائيةً. ولعل غلو البعض في شططهم الروحي، هو الذي دفع هؤلاء إلى تحوير الحب الأفلاطوني وفصله التام عن طبيعته الجسدية. فالحب الأرضي - وفق أفلاطون - هو الدرجة الأولى من سلّم الحركة الارتقائية التي ينجم عنها إنجاب الأطفال وإرضاء الحاجة إلى التكاثر. أما الدرجة الثانية فترتبط بالإبداع الشعري والفني والعلمي، وصولاً إلى أعلى نماذج المعرفة والتعلق بالجمال الأسمى. والأرجح أن مقولات فرويد حول الأنا الأعلى، وتحويل الغرائز الحسية دافعاً للفن للإبداع، لم تكن بعيدة تماماً عن المقولات الأفلاطونية بهذا الخصوص.

يبقى القول أخيراً إن «مأدبة» أفلاطون قد استطاعت بثرائها الدلالي وبنيتها التعددية المفتوحة على التأويل أن تشكل المحور الأساسي لعشرات الكتب والمؤلفات والدراسات الاجتماعية والنفسية اللاحقة. ولم يفت الكثيرين أن المأدبة برمتها كانت الذريعة التي ابتكرها أفلاطون للاحتفاء بالحب والكشف عن وجوهه الملغزة، في اللحظة التي انتصر فيها «السيف على الكتب»، وعشية السقوط الأثيني أمام الجبروت الإسبارطي. وهو نفس ما فعله أراغون بعد أربعة وعشرين قرناً من الزمن، حين لم يجد خلفية ملائمة لحب إيلسا، أفضل من سقوط غرناطة ولحظة الغروب الأندلسي.