جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

أحدث كتبه «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟»

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده
TT

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده

قبل أن يغادر العراق إلى موسكو للدراسة، والحصول على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية من هناك، كانت قد صدرت له في بغداد 3 روايات و3 مجاميع قصصية. ثم عمل مراسلاً حربياً لعدد من المنابر الإعلامية؛ حيث قام بتغطية حروب كثيرة نشبت ما بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي بعد تفكيكه، خصوصاً في كاراباخ وأذربيجان وأرمينيا والحرب الشيشانية الأولى والثانية وأفغانستان والبلقان وكردستان ودارفور والعراق ولبنان وغيرها. أصدر عدداً من الروايات والكتب، منها ثلاثيته عن بغداد، و«مقاصب الحياة»... وغيرها. ويقيم الآن في الكويت؛ حيث يعمل محرراً ثقافياً لجريدة «القبس». آخر كتاب له هو «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» الذي أثار جدلاً بين أوساط المثقفين.

هنا حوار معه:

> «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» هو أحدث كتبك الصادرة، لكنك لا تتحدث فيه بشكل خاص عن الكراهية السائدة بين المثقفين، كما يُفهم لأول وهلة من عنوانه، بل جاء ذلك تفصيلة من موضوع كبير يخص مجتمع الثقافة والمثقف، من مثل مستقبل الثّقافة، وفردانيتها، وصُعود الثّقافة وانْحِدارها، والثّقافة المشكوك فيها دائماً... ما الذي أردت أن تقوله في هذا الكتاب؟

- لكي أعطي صورة كاملة عن الكتاب، لا بد من الإشارة إلى أن هناك جزءاً ثانياً سيلحقه، وهو عبارة عن كتابين في كتاب واحد، الأول يتم تقليبه من اليمين إلى اليسار وعنوانه «بلطجة المثقفين»، والثاني يتم تصفحه من اليسار إلى اليمين وهو الجزء التطبيقي من الموضوع برمته، وعنوانه «بازار الثقافة الكبير»، وسيصدر أيضاً عن دار «صوفيا» في الكويت في مطلع سبتمبر(أيلول).

بالتالي سيكون لدينا 3 كتب عما أطلقت عليه «مجتمع الثقافة والمثقفين»، لم أطرح أفكاري في هذه الكتب كمفكّر، بل كناقل لتجارب بصفتي أحد السكان السابقين فيما يسمونه «الوسط الثقافي»، فقد بقيت فيه، أو حُسِبت عليه، إلا أني عرفت كيف أخرج منه، منذ سنوات طويلة، ومن ذلك الوقت بدأت أكتب هذه الحكاية، ولكني لم أنشرها إلا الآن.

أعرف النوعية التي استفزها كتابي «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» وسيزدادون كرهاً بقراءة الجزأين الثاني والثالث منه، وسأستمر في إزاحة الغطاء، فهؤلاء اعتاشوا كثيراً وطويلاً على الثقافة، وقدموا أنفسهم كمثقفين. وسنجد في كتابنا المقبل الوصف الذي يستحقونه حقاً. في المقابل، ثمة من اعتاد على التعامل مع المثقفين كتماثيل الشمع في المتاحف، وفجأة رأى كتاباً يضخ الروح في هذه الهياكل التي كان يتعامل معها بقدسية وخشية ورهبة.

> في فصل «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» نتساءل هل حقاً المثقفون يكره بعضهم بعضاً؟ وهل هذا ما خبرته بشكل شخصي ممكن أن يكون عاماً؟

- الكاتب ليس مهمته الإجابة عن الأسئلة، في الغالب هو يطرحها للنقاش العام. وقد يأتي مؤلفون آخرون يكملون المهمة، لأن هناك أسئلة ما إن تجيب عليها، حتى تختلف ظروفها وتتغير إجاباتها. فهل أجاب سارتر عن سؤال الوجود العدم؟ هل أجاب كانط عن أسئلة جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم؟ وهل صحح كارل غوستاف يونغ طرق التحليل الفرويدية؟ هل أكمل سقراط وأفلاطون أسئلة الأخلاق؟ وهل وضع هيغل المنهج الجدلي حيز التطبيق في حياتنا؟ بالمناسبة، حتى آينشتين ترك أسئلته معلّقة لكيلا ينسف الفيزياء، وادّعى جهله متعمّداً.

والإجابة المباشرة على سؤالك: هل يكره المثقفون بعضهم؟ أقول إن المثقفين لا يكره بعضهم بعضاً فحسب، بل لا يقبلون بهدنة في حروبهم، وبعضهم لا يجنحون للسلم، ففي الحروب يظهرون أكثر. والمثقفون لا يسامحون بعضهم، ولا يمكن أن يكرهوا أحداً آخر كما يكرهون المثقف الأفضل منهم؛ لأنهم لا يكرهون الأقل منهم بالمستوى. المثقفون يكرهون من ينافسهم، ولكنهم لا يكرهون الطبيب الذي يعالجهم والسائق الذي يوصلهم وبائع المكتبة الذي يعطيهم تخفيضاً ودار النشر التي تطبع لهم والنادل الذي يسقيهم والصحافي الذي ينشر أخبار كتبهم... لا يكرهون هؤلاء، هُم متخصصون في كره بعضهم.

> كتبت بعد عام 2003 ما نسميه الملحمة العراقية، التي بدأت عندك في رواية «أموات بغداد»، وأعقبتها رواية «رسائل أمارجي»، ثم اختتمتها برواية «حبة بغداد»، التي تناولت فيها حجم الكارثة التي اجتاحت البلد، وما وراءها من أحداث، من استباحة للذاكرة التاريخية... هل ترى أن المشهد العراقي وما رافقه من دمار يستحق التعبير عنه بملحمة؟

- كشاهد عيان على ما حصل، كعراقي وروائي، طرحت على نفسي سؤالاً من شطرين: إذا أنا لم أكتب ذلك، فمَن سيكتبه؟ وإذا لم أكتبه الآن، فمتى سأكتبه. ومن تلك اللحظات بدأ مشروعي الروائي الكبير الذي ذكرته في ثلاثية، تتجاوز ألفَي صفحة، امتدت فترة كتابته لنحو 20 سنة، واصلت فيها الليل مع النهار وبلا توقف، ولعلّ أكثر ما أفخر به في مسيرتي الروائية والأدبية هو تمكني من إنجاز «ثلاثية بغداد» أو «الملحمة العراقية»، التي كتبتها بالدم، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى. مُعيداً ترتيب كومة ذكريات ولّدت في داخلي عوالم بأكملها، وأعتقد أن تشكيلي من كلّ العراقيين المنصهرين بالنظام الكوني عبر آلاف السنين. عن الفتى الذي احتشد في زوايا المكتبات وكتابة رواية تليق بالعراق وأعدها أهم عمل في حياتي، حينما يشعر أيّ عراقي بأنه القصة نفسها.

> يقول القاص والروائي العراقي محمد خضير: «أحسّ جمال حسين بوجوب هذا التنافذ النصي فاختار استراتيجاً بناء يطوف حول مئات المدونات ويأخذ من نصوص الأولين والآخرين ما يدعم موضوعته عن (حقيقة الإنسان)...» هل دفعتك الرواية فعلاً لهذا الجهد؟

- عندما بدأت كتابة رواية «أموات بغداد» منذ ما يقارب العقدين (نشرت الطبعة الأولى عام 2008 في بيروت، دار الفارابي، ثم أعيدت طباعتها في مصر 2015، وفي العراق 2021)، أدركت وقتها أن موضوعها أقوى مني، من كل النواحي (المعرفية والبنيوية والتاريخية والعلمية والطبية والفلسفية) وكتكنيك روائي أيضاً، وهذا دفعني لأتعلّم وأتطوّر لكي أُجاريها وأفعل بها ما أُريد. ذلك لأننا لا نكتب الأشياء التي نعرفها فقط، بل نكتب ما لا نعرفه، لكي نتعلّمه في غضون الكتابة. وهذه إحدى المُتع الأزلية للكتابة. ففي كلّ مرة أكتب فيها رواية جديدة، أدخل في تدريب جديد للمهنة، وقد يستغرق ذلك وقتاً لذيذاً أشعر فيه بالأمان، وفي غضون ذلك أسمح لنفسي بأخذ عيّنات من مصائر الناس الذين سأكتب عنهم. سوف يأتي جيل يقرأ «أموات بغداد» وسيشعر بالقرب منهم أكثر مما شعرت به من قبل، تجاه الأشخاص الذين كنت أعرفهم قبل أن أنسحب من العالم. وأخبر النقد المستقبلي بأني وضعت الكثير من الأسئلة في ملحمتي العراقية، وستبقى هذه الأسئلة وستستمر مع تاريخ العراق.

> في روايتك سعيت لتخليق «آدم» الجديد، من جينات معدلة يستخلصها من جثث ضحايا الاحتلال والميليشيات والعصابات، وهي من مخلفات الغزو الأميركي، هل فقدت الأمل بالخلاص إلى الحد الذي لا يكون إلا بخلق إنسان جديد يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي؟

- لم أكتب «أموات بغداد» و«رسائل أمارجي» و«حبّة بغداد» لهذا الجيل، ولا حتى للجيل الذي بعده. لا أقول فقدت الأمل بهم، لكن أملي أكبر في الأجيال المقبلة، فنحن لا نكتب ما حدث، بل ما نريده أن يحدث. وهذه هي الطريقة التي نعتقد أن الأشياء تحدث بها. غالباً، لا أكتب إلى الأحياء، فالذي يبقى وفيّاً للأموات، يعرف كيف يخلص للأحياء؛ لأن الأدب هو الطريق الذي يُلغي الزمن، ويتيح لنا أن نتحدث وحدنا مع الموتى وكذلك مع الذين لم يولدوا بعد. وبالنسبة لـ«آدم» الجديد، هو تجسيد للمنتظر في الميثولوجيا الشرقية تحديداً، ونراه في أدب ما بعد الحربين العالميتين بشكل واضح.

> عملت في الصحافة مراسلاً حربياً في مناطق ملتهبة وعديدة من العالم، حتى تتويج عملك بفوزك بجائزة الصحافة العربية في مجال الريبورتاج الصحافي، وثقت أغلبها في كتب عديدة... ما الذي أضافته لك هذه التجربة على صعيد السرد؟

- ذهبت للحروب روائياً بهيئة صحافي. وحتى كتابتي لم تكن تقارير صحافية تقليدية، بل كانت قصصاً عن الناس والأماكن والمشاهدات والأحداث. لقد أحببت الناس، وسمحوا لي بتصويرهم، لكنهم أرادوا مني أيضاً أن أستمع إليهم، وأن يخبروني بما يعرفونه، حتى نروي قصتهم معاً، مثل سؤال بيكيت: «هل نمت بينما عانى الآخرون؟». كانت مهمتي كمراسل حربي تكمن في محاولة معرفة ما الذي يفعله الناس في المدن التي تحترق، وكيف يعيشون ولماذا يحصل كل ما يحصل. لذلك كتبت ما رأيته، وما كنت على استعداد لتحمّله. وقد أتذكّر أولئك الساكتين الذين لديهم الكثير ليقولوه، فقد جرّبت حمل ثقل الحكاية غير المرويّة... وعرفت أن أعيش ولديّ دائماً قصة أرويها.

> رغم تخصصك العلمي الدقيق، لكن الملاحظ أن حرفة الأدب والكتابة أخذتك منه... ما الذي تقوله في ذلك؟

- أكثر حبّ أخفيته وكأنه غير موجود هو حبّي للفيزياء. فقد قضيت حياتي بين الكتب والجامعات، وفي مكاتب الصحف والمجلات، وبدأت الأدب والعلم بالبحث، كطريقة أساسية للتعلّم؛ لذلك كوّنت فكرتي عن الناس والكون والفضاء والتاريخ بشقّ النفس وبشكل ذاتي. استمتعت بالكتب والقراءة والدراسة. درست العلوم المجردة وكنت أدرك أنها تقدّم القليل للتطوّر من دون الأدب والفنّ.

كانت هذه فلسفتي العامة في التعامل مع اهتماماتي العلمية والفنية والأدبية والإعلامية وحتى داخل المجال نفسه؛ لذلك لا أحبذ أن يتم تعريفي - نقدياً - بطريقة إجرائية... أفضّل أن أعوم مثل مادة هلامية غير قابلة للإمساك، مثل كائن مُتغيّر الأنماط والألوان، وليس شخصاً ممتهناً حرفة بعينها. لم تكن هذه فلسفة، بل مجموعة أحاسيس، فحبي للمجالات المتنوعة مثل حبي للطبيعة، لا يشترط أن أعرف لماذا وما هي... المهم وجدت نفسي أحبّ هذا المكان دون سواه.



أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
TT

أوانٍ فخارية من موقع مليحة

قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج
قطع خزفية من موقع مليحة بالشارقة منها زهريتان من الفخار المزجّج

يحتل موقع مليحة مكاناً مميزاً على خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات المسح المتواصلة في مختلف أنحاء دولة الإمارات العربية خلال العقود الماضية.

أظهرت الأبحاث الدؤوبة المتواصلة أن هذا الموقع الاستثنائي شكّل في الماضي حاضرة وسيطة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية، وحلقة وصل بين مختلف أقاليم العالم القديم، كما تشهد مجموعات القطع الفخارية المتعدّدة المستوردة من الخارج. تحضر في هذا الميدان مجموعة من الأواني الفخارية المزجّجة التي تشابه قطعاً وصلت كذلك إلى نواحٍ متقاربة ومتباعدة من الجزيرة العربية، مصدرها جنوب بلاد ما بين النهرين. وتقابلها مجموعة مغايرة تحمل الطابع الإغريقي الصِّرف، وتتكون من قطع صيغت على شكل صنف خاص من الجرار يُعرف بـ«الأمفورة».

شاعت في بلاد ما بين النهرين أطرزة متعدّدة في صناعة الفخار، منها طراز يُعرف بـ«الفخار المزجّج»، راج في جنوب هذه البلاد، وبلغ نواحيَ متعددة تقع خارج أقاليمها الواسعة. تعتمد هذه الصناعة على معالجة السطح الفخاري بإضافة طبقة طلاء مزجّجة تنصهر مع سطح المادة الطينية، وتؤدي هذه المزاوجة إلى خلق مادة جديدة عمد صنّاعها إلى تلوينها بأكاسيد مختلفة تُكسبها رونقاً خاصاً.

وارتبطت هذه الصناعة بهذه الناحية من بلاد الرافدين، وحملت اسمها، وعُرفت به، واعتُمد هذا الاسم بشكل واسع في القاموس الخاص بدراسة الفنون الفخارية المتعددة الفروع والأصناف.

ودخلت الجزيرة العربية قطع متنوعة من هذا الطراز بشكل متواصل، وعلى مدى قرون من الزمن، وشكّلت مجموعات مستوردة تشهد لرباط متين جمع أقاليم الجزيرة الواسعة وجنوب بلاد ما بين النهرين، منها مجموعة خرجت من موقع مليحة الذي يشكّل جزءاً من إقليم عُمان في العالم القديم، ويقع اليوم في المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة.

تتكوّن «مجموعة مليحة» من بضع قطع عُثر عليها ضمن قطع متنوّعة من المنتجات الفخارية، منها ما هو محلّي، ويُعرف اليوم بـ«فخار مليحة»، ومنها ما هو من خارج الجزيرة، ومصادره متعدّدة. ويتمثل أبرز هذه القطع المستوردة من جنوب العراق القديم بقطعتين متشابهتين في التكوين كما في الصوغ، غير أنهما تختلفان من حيث الحجم، وقد نجح أهل الاختصاص في ترميمهما، فاستعادتا شكلهما الأصلي الأول بصورة شبه كاملة، وتُعدّان من أجمل النماذج المزجّجة المصقولة باللون الأخضر الزمردي.

وخرجت هاتان القطعتان من مدافن مليحة الأثرية؛ ممّا يعني أنهما شكّلتا في الأصل جزءاً من الأثاث الجنائزي، وهما على شكل زهرية ذات مقبضين عريضين، زيّنت بشبكة من النقوش الزخرفية الغائرة.

يبلغ طول كبرى هاتين الزهرتين 54.5 سنتيمتر، وعرضها 34.5 سنتيمتر، وعنقها مكلّل بطوق عريض، ويحدّه مقبضان مقوّسان يعلو كلّاً منهما مثلث أفقي مسطّح.

وتُزين القسمَ الأعلى من هذه الزهرية شبكةٌ من الخطوط العمودية المتوازية، تستقر فوق شريطين تعلو كلاً منهما سلسلة مشابهة من الخطوط المتوازية كأسنان المشط. وتتبع المزهرية الأخرى تكويناً مماثلاً، ويبلغ طولها 43 سنتيمتراً، وعرضها 30 سنتيمتراً، وزينتها الزخرفية مشابهة، مع اختلاف يسير في التفاصيل يظهر عند دراسته بشكل متأنّ.

إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعة ثالثة مشابهة في التكوين، تبدو أعرض وأقصر من حيث الحجم، وقطعة رابعة، وهي على شكل جرة لها مقبض مقوّس واحد، مصدرها موقع سكني يُعرف بـ«قصر مليحة»، وطولها 42 سنتيمتراً، وعرضها 31 سنتيمتراً، وهي مجرّدة من الزخارف، وتتميّز بلونها الأزرق الفيروزي.

تعود هذه المجموعة الخزفية المزجّجة إلى حقبة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأوّل، وتشهد للرباط الذي يجمع بين مليحة وبلاد الرافدين. وتقابلها مجموعة أخرى من ميراث مليحة، تشهد لصلة أخرى مغايرة تجمع بينها وبين العالَم المتوسّطي الإغريقي، وتتمثّل هذه المجموعة بقطع فخارية من الطراز الذي يُعرف بـ«الأمفورة»؛ منها 3 قطع وصلت بشكل شبه كامل. كما هو معروف، ترتبط «الأمفورة» بشكل وثيق بالعالم الإغريقي، وتشكّل صناعة خزفية تقليدية شاعت في ذاك العالم بشكل واسع، وهي على شكل قارورة بيضاوية طويلة، تحدّها قبضتان كبيرتان تتصلان بعنق طويل ونحيل.

شكّلت «أمفورات مليحة» كذلك جزءاً من الأثاث الجنائزي بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الميلادي الأوّل، وهي مخصّصة لحفظ النبيذ، وأهمّها قطعة من الطراز الذي يُعرف بـ«الرودسي»؛ نسبة إلى جزيرة رودس الواقعة بين جزر اليونان وقبرص، وطولها 80 سنتيمتراً، وعرضها 36 سنتيمتراً، وتمتاز بتزجيج من اللون الأسود، ويرى أهل الاختصاص أن هذا التزجيج حدث في جنوب بلاد ما بين النهرين، وشمل سطح هذه «الأمفورة» وداخلها.

تقابل هذه القطعة قطعة مماثلة تخلو من أي تزجيج، وهي «أمفورة» رودسية تقليدية مجرّدة من أي زينة، وعرضها 48 سنتيمتراً. تحضر «الأمفورة» الثالثة إلى جانب هاتين القطعتين، وهي كذلك من الحجم الكبير، وطولها 77 سنتيمتراً، وهي من طراز مغاير، يُعرف بـ«الطراز الإسباني»، ويتميّز بعنق قصير، ومقبضاه على شكل عروتين صغيرتين نسبياً.

وتشهد هذه القطع لعلاقة مثيرة ربطت بين مليحة العُمانية والعالَم الإغريقي القديم، وتؤكّد شواهد أثرية أخرى هذا الرابط المدهش، منها قطعة جزئية صغيرة من «أمفورة» رودسية تحمل نقشاً يونانياً يشير إلى تاريخ صناعتها بين عامي 225 و125 قبل ميلاد المسيح، وقطعة أخرى مشابهة تحمل ختماً يحمل اسم صاحبها المدعو «أنطيماخوس»، وتاريخها يعود إلى فترة تمتدّ من عام 198 إلى عام 146 قبل ميلاد المسيح.


بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
TT

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.

الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.

ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة

الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».

مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.

مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.

4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون

إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.

نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».

تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.

جانب من معرض لندن

مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور

بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».

«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.

تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» - حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.

وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.

برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته

بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.

برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.

وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.

معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية

في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.

تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.

الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية

في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.

وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.


عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني
TT

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة، تتوزع بين الديني والوطني والاجتماعي. وهم إذ يسمون هذه المحطات أعياداً، يقيمون لها احتفالات وطقوساً متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلى مساحات للفرح أو الحزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والتقنية لم يفض إلى تقليص الظاهرة أو إلغائها، بل تضاعف منسوبها مرات عدة، بعد أن اتخذت طابعاً تكريمياً لبعض الفئات والشرائح المهملة. وهو ما وجد شواهده المثلى، في ابتكار أعياد وأيام للاحتفال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصولاً إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة التي تواجه سكان الأرض.

ومع أن التقاليد والعادات المرافقة للأعياد ظلت تتأرجح على الدوام بين الفرح الاحتفالي والحزن الحدادي والخشوع الإيماني الصامت، تبعاً لطبيعة العيد ودلالاته، فإن «البراءة» التي تميزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة في ظل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات.

ووسط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالاً بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقد يكون هذا العيد أحد أكثر الأعياد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، في شهر مارس (آذار)، تزامناً مع الاعتدال الربيعي وتجدد الزراعة وطقوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يقرر الحاكم الروماني يوليوس قيصر نقل الاحتفال به إلى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريماً ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها.

وإذا كان مفهوماً أن يتخذ عيدا الحب والميلاد طابعهما الاحتفالي المفعم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنسانية وغريزة البقاء، والثاني بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الدلالة، فإن من المفارقات المثيرة للدهشة أن يتم الاحتفاء برأس السنة بكل هذ القدر من الضجيج والانتشاء والصخب الكرنفالي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المحدودة يستوجب «التشييع الحدادي » للعام الذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت.

لكن اتجاه الكثرة الكاثرة من الناس لمواجهة هذه المناسبة الملتبسة بالارتماء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عن ملاحظة الجانب الآخر من الصورة، حيث يؤثر البعض الانفراد بأنفسهم بهدف المكاشفة الذاتية، وإجراء جردة حساب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حول نفسها لكي يواجه أفرادها بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غدر الزمن، فيما يغرق المتوحدون والانطوائيون في وهدة الإحباط والأسى، وصولاً إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى.

وحيث لا يبدو مستغرباً أن يجد كتاب العالم وفنانوه في هذا الاستحقاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لطرح الأسئلة المتعلقة بشؤون الحياة واستحقاقاتها الداهمة، كقضايا الحب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى في بدايات الأعوام سوى مناسبات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الحروب الدامية، فيكتب في قصيدته «يوم رأس السنة»:

مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت

ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة

قرب الموقد

بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل

فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشمّ دخان الضحايا

أما الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر البريطاني تيد هيوز، فقد رأت في نهايات الأعوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير النمور، تبدو وكأنها ترهص بانتحارها اللاحق الذي لم يتأخر كثيراً حدوثه، فتعلن في قصيدتها «السنون»:

الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوماً

ما أحبه هو المكبس في حركته

روحي تموت قبله

وحوافر الخيول شبيهة بالخضِّ القاسي الذي لا يرحم

أهو نمِرٌ هذا العام، هذا الزئير على الباب؟

وإذ يمهد الشاعر الروسي فاليري بريوسف لقصيدته «على أبواب العام 1905 الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إليه هو ذلك الناجم عن غرق الأرض في الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحاً أن القصيدة مكتوبة بتأثير من الحرب الضروس التي قامت بين روسيا واليابان عشية ذلك العام بالذات. وفي ذلك يقول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دموي، أو كابوس خانق أصم، وعلى الغيم بريق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد مارداً عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار».

روبرت لويل

بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والفن، جردة حساب سريعة مع العام الذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء» يخاطب المرأة التي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهراً وأنا أشتغل كدودة الحرير، مرة بخيط ورديّ، ومرة بخيط برتقالي. حيناً بأسلاك الذهب، وحيناً بأسلاك الفضة، لأفاجئك بأغنية، تضعينها على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة».

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا ترى في انقضاء العام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلى ما يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الخصب والتجدد، فتقول في قصيدتها «صلاة إلى العام الجديد»:

ما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟

أعطِنا حباً فبالحب كنوز الخير فينا تتفجرْ

أعطِنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديدْ

ونعيدْ

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة

وإذا كانت طوقان تستخدم في قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الجمعي، فإن الأمر مرتبط بأمرين اثنين، يتصل أولهما بانتمائها إلى فلسطين، التي يواجه أهلها أشكالاً عاتية من العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل في كون الشاعرة التي عانت كثيراً من وطأة التقاليد المحافظة، وصولاً إلى فشلها المتكرر في الحب، قد اتخذت من أمنيات شعبها الرازح تحت وطأة الاضطهاد والتشرد، ذريعتها الملائمة لإعلان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد.

وقد تكون قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الباري «ليلة رأس السنة»، هي أفضل ما أختتم به هذه المقالة، ليس فقط لأنها تكشف عن الجانب الأصيل والمشرق من تجارب الشعراء العرب الشبان، بل لأن صاحبها يجانب الاستسلام لأفخاخ العزلة الكابوسية من جهة، ولصخب الجموع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فرصةً ثمينةً لاستنطاق الصمت، واللقاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً:

سقطتْ أوراق التقويمِ فعلّقْ تقويم العام الآتي

المسرح دائرةٌ

والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدءِ

فأوقفْ ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً..

واتركني أكملُ هذي الليلة وحدي

لأفتش عن ذاتي