كنز مليحة الأثري شاهد على التعددية الثقافية

خرجت منه مجموعة من القطع البرونزية عثرت عليها بعثة فرنسية

رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
TT

كنز مليحة الأثري شاهد على التعددية الثقافية

رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية عثرت عليها بعثة فرنسية خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها في هذا الموقع بين عامَي 2010 و2011. عُرفت هذه المجموعة باسم «كنز مليحة»، ودخلت «مركز مليحة للآثار» بعد أن خضعت لعملية ترميم دقيقة أعادت إليها بريقها الأصلي.

تحتلّ مليحة مكانة خاصة في خريطة المواقع الأثرية التي تمّ استكشافها خلال العقود الأخيرة في دولة الإمارات المتحدة، وتتجلّى هذه الخصوصية في تعدّديتها الثقافية التي تشهد لها اللقى الأثرية المتنوعة التي خرجت منها منذ انطلاق أعمال المسح فيها في عام 1986 إلى يومنا هذا. تقع هذه المنطقة في الجزء الجنوبي الشرقي من إمارة الشارقة، على بُعد 20 كيلومتراً من مدينة الذيد، وتمتد على مساحة نحو 5 كيلومترات مربعة، تحتضن عديداً من المعالم الأثرية البارزة، منها الحصون والمقابر، كما تضم مركزاً يزخر بعديد من الاكتشافات والمقتنيات التاريخية الخاصة بها، افتُتح في 2016، وحمل اسم «مركز مليحة للآثار».

يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من القطع البرونزية خرجت من مبنى سكني مربع الشكل، قامت بعثة فرنسية باستكشافه منذ سنوات. يعود هذا المبنى إلى الدور الأخير من تاريخ مليحة الذي يمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، ويبدو أنه شهد فترة سكنية قصيرة، خرب بعدها، وتحوّل إلى أطلال غمرتها رمال الصحراء. يحوي هذا المسكن المهجور قاعات موزعة حول ساحة تحتل مركز الوسط، منها قاعة مخصصة لممارسة الأعمال المنزلية، وُصفت بـ«المطبخ»، كما جاء في التقرير العلمي الخاص بأعمال المسح الذي نشرته «حولية آثار الشارقة». وبين أطلال هذا المطبخ، عُثر على مجموعة من القطع البرونزية أطلقت عليها البعثة الفرنسية التي اكتشفتها اسم «كنز مليحة». يتألّف هذا الكنز في الواقع من 5 قطع تتمثّل برأس ثور، ومقبض إناء، وقارورة صغيرة، وسلسلة مؤلفة من 20 حلقة، إضافة إلى كسرة كبيرة على شكل قلب هندسي، تعود إلى قطعة يصعب تحديد هويتها.

تتميّز قطعتا رأس الثور ومقبض الإناء بطابعهما التصويري وبأسلوبهما الفني الذي يجمع بين مؤثرات متعدّدة. يبلغ طول رأس الثور وعرضه نحو 11 سنتيمتراً، ويحوي 3 ثقوب تشير إلى أنه كان في الأصل مثبّتاً بواسطة 3 مسامير على أثاث خشبي ضاع أثره. ينتمي هذا الرأس إلى ما يُعرف في قاموس الفنون باسم «بروتوما»، وهذا التعبير يوناني، ويعني «مقدّمة جزئية»، ويشير إلى أي قطعة تمثّل رأس كائن من الكائنات الحية المتعددة الأجناس.

من جنوب شبه جزيرة العرب، خرجت عشرات المجسّمات التي تصوّر رأس الثور، وغلب على هذه المجسمات التي تعدّدت وظائفها طراز جامع خاص، تميّز بطابع هندسي اتخذ أنماطاً متعدّدة. بلغ هذا الرأس أنحاء أخرى متعددة من جزيرة العرب، وحمل في القرون الميلادية الأولى سمات واقعية حسية، تعكس أثر النماذج اليونانية التي يزخر بها كذلك هذا الميدان الفني. يتبنّى ثور مليحة هذا النسق الهلنستي بشكل جلي يظهر في تجسيم الجبهة والخدين والذقن والفم. في المقابل، يظهر الطابع الشرقي في لبدة الشعر التي تتوسط أعلى الرأس، وفي الحلقتين الدائريتين اللتين تحيطان بالقرنين الكبيرين الممتدين أفقياً، كما يظهر في الأهداب اللوزية التي تحيط بمحجري العينين، وفي السوار الذي يحدّ أعلى الأنف. يبدو هذا الرأس فريداً من نوعه في ميراث مليحة، غير أنه يمثل نموذجاً انتشر بشكل واسع في العالم المتوسّطي المتعدّد الأقاليم، وبلغ نواحي مختلفة من الشرقين الأدنى والأوسط، كما تشهد القطع الأثرية العديدة التي خرجت من مواقع متباعدة جغرافياً.

تتميّز قطعتا رأس الثور ومقبض الإناء بطابعهما التصويري وبأسلوبهما الفني الذي يجمع بين مؤثرات متعدّدة

يبدو مقبض الإناء أكثر إثارة، وتظهر عملية التنظيف والترميم التي خضع لها بعد أن طمست الأكسدة معالمه، أنه يتكون من مواد عدة معدنية، منها الفضة، ويتميز بزينته التصويرية غير المألوفة. تتألف هذه الزينة من عناصر عدة حافظت على معالمها بشكل شبه كامل، وتتمثّل في 3 وجوه آدمية وطير من فصيلة البط. في القسم الأعلى نقع على وجهين جانبيَّين متماثلين تبدو معالمهما ذكورية. يتطلع الوجه الأعلى في اتجاه اليسار، ويتطلع الوجه الأسفل إلى اليمين، ويغلب على ملامحهما الواحدة الطابع الواقعي الصرف. يعلو الرأس شريط عريض يلتف حول الهامة ويحدّ الجبين، ويبدو هذا الزي غريباً في هذه الناحية من الخليج. بين الرأسين، يحضر طير في وضعية جانبية، وتظهر معالم تكوينه المختزلة بأنه من فصيلة الإوز، ويمثل على الأرجح ما يُعرف بـ«الإوزة المصرية»، كما يوحي طول عنقه المتوسط حجماً.

يحتلّ الوجه الثالث الجزء الأسفل من المقبض، ويشكّل جزءاً من تمثال آدمي نصفي، يغلب عليه الطابع الأنثوي. ينحني الرأس بشكل طفيف نحو الأسفل، وتبدو ملامحه واقعية، كما يشهد تجسيم الأنف والثغر والعينين المطعمتين بمادة بيضاء تمثل محجريهما. تعلو هذا الرأس كتلة بيضاوية تمثل خصل شعر الرأس المرفوعة نحو الأعلى على الأرجح، وتتخذ هذه التسريحة شكل قبعة عالية. ترتدي هذه القامة ثوباً فضفاضاً، وتحمل بيدها اليمنى عصا طير، ترفعها نحو الأعلى، كما تقبض بيدها اليسرى على كتلة دائرية تظهر في القسم الأسفل من صدرها.

تمثّل هذه العصا وهذه الكتلة الدائرية عنصرين معروفين في أبجدية الفن اليوناني الكلاسيكي، يرمزان إلى القوة والسلطة والسيادة. تحمل هذين العنصرين في أغلب الأحيان صبية تجسد معبودة يونانية تُدعى نيكه، انتشرت صورتها باكراً في مناطق واسعة من الشرق الأدنى وآسيا الصغرى، وتكرّرت في ميادين مختلفة تعدّدت وظائفها، من النحت الميداني إلى القطع النقدية، وباتت صورة لسيدة تجسد القوة والسلطة فحسب. تحضر هذه الصورة في مليحة على مقبض آنية ضائعة، وتشهد للتعددية الثقافية المدهشة التي تميّزت بها هذه المقاطعة خلال تاريخها المتواصل على مدى أكثر من 6 قرون من الزمن.


مقالات ذات صلة

تهميش تاريخ القبيلة العربية

كتب علي الوردي

تهميش تاريخ القبيلة العربية

لعلنا لا نشتطّ في الدعاوى إذا قلنا إن القبيلة العربية هي التي جعلت الشرق شرقاً عربياً كما نعرفه متصلاً بعضه ببعضه الآخر من نجد إلى ليبيا

خالد الغنامي
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مسرح ما بعد الدراما والوعي النقدي العربي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مسرح ما بعد الدراما والوعي النقدي العربي

صدر حديثاً العدد 59 من مجلة «المسرح»، أغسطس (آب) 2024، التي تُصدرها دائرة الثقافة بالشارقة، وفيه مجموعة متنوعة من المقالات والقراءات والمتابعات والحوارات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون همنغواي في مكتبه

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه.

هاشم صالح
ثقافة وفنون رشيد الضعيف

المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض

لم تكن وظيفة الوساطة بين الكاتب والناشر تمثل سلطة في عالم صناعة الكتب، سواء كانت ذات طبيعة إبداعية أو معرفية، إلا في حدود منتصف القرن الماضي

شرف الدين ماجدولين
كتب خالد السلطاني

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية....

لطفية الدليمي

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه
TT

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه. وكانت أولاها: «الشمس تشرق أيضاً» (1926). وقد نالت شهرة واسعة وحظيت بأفضل المبيعات. وهي تعدُّ إحدى أعظم روايات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بين الحربين العالميتين. إنه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل الاحتراق والعبور، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الأولى ولم يستطع نسيانها.

ثم في عام 1929 نشر همنغواي رائعته الثانية «وداعاً أيها السلاح». وقد بيع منها خلال أربعة أشهر فقط ما لا يقل عن ثمانين ألف نسخة. ثم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثم إلى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك الأموال والفلوس. وراح يدلي بالمقابلات الصحافية للجرائد الأميركية والعالمية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح لأحد الصحافيين بأنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته 39 مرة. وفي كل مرة كان يشطبها قبل أن تعجبه أخيراً في المرة الأربعين... وهي تشبه السيرة الذاتية. وفيها يتحدث عن الحب والحرب والممرضة الإيطالية التي عالجته وشفته من جرح خطير كان قد أصيب به على الجبهة في نواحي ميلان أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة هي أنها جرحته جرحاً خطيراً من نوع آخر: لقد لوعته حباً وغراماً. وهذا الجرح الثاني لا علاج له ولا شفاء منه.

وفي عام 1940 نشر رائعته الكبرى الثالثة «لمن تقرع الأجراس؟»، وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية. وقد نالت نجاحاً فورياً مدوياً. وبيعت منها مليون نسخة بعد عام واحد فقط من ظهورها. مليون نسخة! ثم قبض مبلغ مائة وخمسين ألف دولار على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وهذا رقم قياسي في ذلك الزمان. ولم يسبق أن ناله أي كاتب آخر أميركي أو غير أميركي. وهو الذي اختار الممثل غاري كوبر والممثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية وبطلتها.

وفي عام 1952 تصدر رائعته الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقد نالت نجاحاً هائلاً وفورياً. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي عام 1954 بجائزة «نوبل للآداب». لكنه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى استوكهولم لتسلمها. فأرسل لهم كلمة قصيرة جداً قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنه يشتغل ضمن أجواء مطبقة من الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كان كاتباً جيداً بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجود الأبدية أو عدم وجودها. بمعنى آخر فإن سؤال الموت وما بعد الموت، سؤال الخلود أو الفناء الكامل سوف يظل يلاحقه باستمرار».

هكذا نكون قد عدنا إلى مسألة السر الأعظم أو اللغز الأكبر الذي لا يعطي نفسه لمخلوق على وجه الأرض.

سؤال بلا جواب؟

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ينتحر كاتب حقق كل هذا النجاح الأدبي غير المسبوق؟ لماذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نوبل» ووصل إلى قمة الأدب الأميركي والعالمي؟ لماذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مبيعات خيالية ودرت عليه الملايين؟ لماذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعماً مرفهاً عشرين سنة أخرى أو حتى خمساً وعشرين. وهي أجمل سنوات العمر، سنوات التقاعد، خصوصاً إذا كنت تمتلك كل هذه الملايين من الدولارات المتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب...

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

في عام 2011 وفي يوم 2 يوليو (تموز)، أي بعد خمسين سنة بالضبط من انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبراً مثيراً سرعان ما انفجر كالقنبلة الموقوتة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختياراً وإنما اضطراراً. فقد كان ملاحقاً من قبل عملاء المخابرات الأميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة الأميركية الشهيرة رسالة لصديقه هارون إدوارد هوتشنير. وهي رسالة ألقت أضواء جديدة على المراحل الأخيرة من حياة إرنست همنغواي. ماذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد الأيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من الاضطراب لا تُوصف. وقال لي بأنه متعب جداً من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت منه أنه يعيش حالة هلع وأنه بحاجة لأن يراني. فذهبت فوراً للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الذي يؤرقه ويقض مضجعه. قال لي: أنتم لا تعرفون ماذا يحصل لي؟ أنا في خطر يا جماعة. أنا ملاحق من قبل المخابرات ليلاً نهاراً فقط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن!

ثم يضيف صديقه في الرسالة قائلاً:

ولكن المقربين منه لم يلحظوا وجود أي برهان عملي على ذلك. ولذلك اعتقدوا أنه أصيب بمرض البارونايا: أي الذُهان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس الإحساس الوهمي بأنه ملاحق من قبل أجهزة المخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان ملاحقاً فعلاً أم أنه كان موسوساً عقلياً ومتوهماً بأنه ملاحق؟ ومعلوم أن أحد النقاد كان قد اتهمه سابقاً بعد أن تعرف عليه بأنه مصاب بمرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإلا من أين جاءت كل هذا الإبداعات العبقرية؟

فيما بعد كشفت الأرشيفات أن رئيس المخابرات إدغار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تحت المراقبة والتنصت بتهمة التعامل مع جهة أجنبية معادية. ولذلك لاحقته المخابرات في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية، بل وحتى على شواطئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعلاً بالملاحقات حتى جننوه ودفعوه دفعاً إلى الانتحار. والأنكى من ذلك أنهم اتهموه بأشياء لا علاقة له بها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بك إحدى الجهات ولعنت أسلافك وأنت بريء كلياً مما يظنون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل لإرنست همنغواي على ما يبدو. وبالتالي فقد ذهب ضحية عبث الأقدار الاعتباطية أو غلطات الوجود. لقد غلطوا به مكان شخص آخر. المجرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن!

ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها

ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقرياً مشهوراً فهذا يعني أنك قد دخلت فوراً في الدائرة الحمراء للخطر. سوف تنزل على رأسك النوازل غصباً عن أبيك. يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير علماء فرنسا وفلاسفتها على مدار 400 سنة متواصلة ولم أجد واحداً منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا معرضين للخطر بشكل أو بآخر وأحياناً لخطر الاغتيال. نستنتج أيضاً أن ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها. لقد احترقوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن الأفضل أن نكون أشخاصاً عاديين كبقية البشر لا أكثر ولا أقل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريباً لا يوجد عبقري واحد إلا ودفع ثمن شهرته عداً ونقداً بشكل أو بآخر: المتنبي قُتل في الخمسين، ابن سينا مات على الأرجح مسموماً في السابعة والخمسين، جمال الدين الأفغاني مات مسموماً في الآستانة عند الباب العالي وهو لما يبلغ الستين، عبد الرحمن الكواكبي قتله الباب العالي أيضاً في القاهرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة والأربعين. ديكارت مات مسموماً في السويد وهو في الرابعة والخمسين، وذلك على يد كاهن أصولي كاثوليكي دس له السم في القربان المقدس! الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطين القانون السوري والعالمي سقط مضرجاً بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة المقاتلة لـ«الإخوان المسلمين» وهو في الثامنة والخمسين. والقائمة طويلة... عندما نكتشف كل ذلك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!