«القلم الذهبي» تنقل الرواية الشعبية من الهامش إلى متن السينما

ليس ملائماً حضور الرواية الأدبية مُطوقة ومحصورة في «الواقعية» فقط

«القلم الذهبي» تنقل الرواية الشعبية من الهامش إلى متن السينما
TT

«القلم الذهبي» تنقل الرواية الشعبية من الهامش إلى متن السينما

«القلم الذهبي» تنقل الرواية الشعبية من الهامش إلى متن السينما

في يوم من أيام 1910، نشر الكاتب الأمريكي بيتر ب. كاين قصته القصيرة «برونكو بيللي والرضيع» في صحيفة «ساترداي إيفننغ بوست». وصادف أن المُنتج والممثل ج. م. أندرسون قرأ القصة وأعجبته، فترجمها سينمائياً إلى فيلم لعب فيه دور البطولة، حسب جِم هِت في كتابه «كلمات وظلال، 1992، 3». كان ذلك في زمن الأفلام الصامتة، التي لم تكن صامتة تماماً، إذ كان يصاحب عرض الفيلم عزف على الأورغ، مع وجود «مُحاضر» يقف بجانب الشاشة يروي ويعلق على الأحداث، ويملأ الثغرات، ويوجه انتباه المشاهدين، حسب وارِن بكلاند في «الحكاية والسرد،2021».

بعد مشاهدة الفيلم وإعجابه به، زار كاين المُنْتِجَ والممثل أندرسون، وأوضح له أنه يتوقع الحصول على مبلغ من المال مقابل قصته. استجاب أندرسون لطلبه، وحصل على ما يريد دون الحاجة للجوء إلى القانون. بطلبه ثمناً لترجمة قصته للشاشة، أرسى كاين حجر أساس العلاقة بين الأديب وصانع الأفلام. وله يدين بالفضل الأدباء الذين انفتحتْ أمام رواياتهم الممرات إلى عالم السينما. يمكن القول إنه لولا مبادرة كاين، ما تجرأ الروائي الأمريكي ثيودور درايزر، مثلاً، أن يطلب مائة ألف دولار عندما أبدت «باراماونت» رغبتها في ترجمة روايته «مأساة أمريكية، 1925» للشاشة الكبيرة. كان مبلغاً كبيراً بمقاييس ذلك الزمان، لدرجة أن وكيل درايزر حاول إقناعه بخفض المبلغ إلى 25 ألف دولار. لكن باءت محاولات الوكيل بالفشل أمام إصرار درايزر على الحصول على المائة ألف. وبعد مفاوضات ساخنة ومتوترة، وافق الروائي على «90» ألفاً. وأنتجت «باراماونت» الفيلم بعنوان الرواية نفسه في 1931، بإخراج الروسي سيرجي آيزنشتاين «كلمات وظلال، 1992، 60». ذكرت بعض ما ورد أعلاه في العرض التقديمي «القصة القصيرة على الشاشة» الذي قدمته في 2016، في جمعية الثقافة والفنون في الدمام.

روائيون أثرياء

وتكرر الرقم «9»، ولكن في «9 ملايين دولار» هذه المرة، دفعتها «باراماونت» لمؤلف روايات الإثارة القانونية الروائي جون غريشام لشراء حقوق ترجمة روايته «الشركة» إلى فيلم بالعنوان نفسه أخرجه سيدني بولاك، ولعب دور البطولة فيه الممثل توم كروز. ويُعد غريشام، الذي تقدر ثروته بـ400 مليون دولار، من الكُتّاب الأكثر ثراءً في العالم، ضمن قائمة يهيمن عليها كُتّابُ الرواية الشعبية بأنواعها المختلفة (الفانتازيا، الإثارة، التشويق، الرعب، الجريمة، الرومانسية، الخيال العلمي، الغموض). تتربع في رأس هذه القائمة الروائية ج. ك. رولينغ، مؤلفة سلسلة «هاري بوتر»، إذ تقدر ثروتها بمليار دولار، وآخرون مثل جيمس باترسون «900 مليون دولار»، ودانييل ستيل «600 مليون»، وستيفن كينغ «500 مليون».

الرواية الأسرع وصولاً إلى الشاشة

إن الرواية الشعبية بأفرعها هي ما كان يفكر فيه المستشار تركي آل الشيخ وهو يُخطط لـ«جائزة القلم الذهبي»، وترجمة الروايات الفائزة إلى أفلام، كاشفاً عن وعيه ومعرفته لحقيقة أن الرواية الشعبية هي الأسرع والأكثر وصولاً إلى الشاشات في صالات السينما الترفيهية التجارية، وإلى منصات البث التدفقي، مثل «نتفليكس». ولبعض الكُتّاب المذكورين أعلاه نصيب كبير من الروايات (والقصص) «المحَوَّلة» إلى أفلام: جون غريشام (10) روايات، ج. ك. رولينغ (11)، وستيفن كينغ (51) رواية وقصة، متوفقاً على أغاثا كريستي برقم واحد (50). لهذه الأسباب جاءت تغريدة آل الشيخ الأولى، التي أعلن فيها مشروع الجائزة خاليةً من أي ذكر، أو إشارة إلى الرواية الأدبية، سواء الواقعية أم غيرها. وقد استهل تغريدته، التي أطلقها في 20 يوليو (تموز) 2024، بذكر أنه سيطلق قريباً «(جائزة القلم الذهبي للرواية) التي تركز على الأعمال الروائية الأكثر شعبية والأكثر قابلية للتحويل لأعمال سينمائية». وتضمنت تغريدته قائمة بجوائز مسارات الرواية: الرواية الرومانسية، رواية الإثارة والغموض، الرواية الكوميدية، رواية الحركة، رواية الفانتازيا، الرواية البوليسية، رواية الرعب، الرواية التاريخية.

القلم الذهبي للرواية الشعبية

واضح تماماً أن الهيئة العامة للترفيه خصصت الجائزة للرواية الشعبية، ولا يبدو أن آل الشيخ فكّر في الرواية الأدبية، باستثناء الرواية التاريخية. ورغم ذلك استقبل المشهد الثقافي، بابتهاج شديد، الإعلان على أنه يشمل الرواية بشكل عام. وجاء البيان الصحفي في 25 يوليو بعنوان يفتح الجائزة على الأدب الأكثر تأثيراً، دون احتواء المتن ولو على شرح مختزل لمعنى عبارة «الأدب الأكثر تأثيراً». وأضاف البيان جائزة إلى الجوائز المعلنة سابقاً: جائزة الرواية الواقعية، وقد وردت في نهاية قائمة الجوائز، كأنما إضافتها حصلت بصفتها فكرة تالية.

يفتح عنوان البيان باب الجائزة على مصراعيه على «الأدب الأكثر تأثيراً» كله، والمتن يغلقه على الرواية الشعبية والتاريخية والواقعية. فماذا، على سبيل المثال، عن الرواية الحداثية المحلية والعربية؟ وما بعد الحداثية المحلية والعربية؟ فإذا كانت القابلية للتحويل إلى عمل سينمائي أحد شروط فوز أي رواية مشاركة في المسابقة بإحدى الجوائز، فقد أثبتت بعض الروايات الحداثية العالمية، وعلى سبيل المثال أيضاً، قابليتها للترجمة السينمائية. وقد ينطبق ذلك على الرواية المحلية والعربية. من الأفلام المُحَوَّلة من روايات حداثية: فيلم «السيدة دالَوِي» عن رواية فرجينيا وولف، وفيلم من روايتها الأخرى «إلى الفنار» بالعنوان نفسه، وفيلم «طريق إلى الهند» عن رواية إِ. م. فورستر، وبالعنوان نفسه أيضاً. أما بخصوص الرواية الما بعد حداثية، فإن أفضل مثال هي رواية جون فاولز «امرأة الملازم الفرنسي»، التي ترجمت إلى فيلم بالعنوان نفسه؛ والفيلم «محبوبة» من رواية «محبوبة» للروائية الأمريكية توني موريسون. وفيلم «كائن لا تحتمل خفته» عن رواية ميلان كونديرا. أكتفي بهذه الأمثلة، رغم أن اسم الجائزة المُشرّع على «الأدب الأكثر تأثيراً» كله يغري بأن أُشرع باب الكتابة على المسرح أيضاً. وماذا عن القصة القصيرة التي افتتحت الكتابة بها؟ في البال هذه اللحظة 35 قصة جمعتها الأميركية ستيفاني هاريسون في «أنثولوجيا»، ووصفتها بأنها 35 قصة عظيمة ألهمت/أوحت بأفلام عظيمة. ذكرتُ عدداً منها في تغريدة أطلقتُها بعد إعلان «جائزة القلم الذهبي للرواية» أو «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً». وأضاف الروائي عواض شاهر في تعليق على التغريدة الفيلم «دخان» عن قصة بالعنوان نفسه لبول أوستر، وهي، في الحقيقة، واحدة من القصص في «أنثولوجيا» هاريسون.

تطويق الرواية الأدبية

قد لا يكون ملائماً إضافة جائزة للقصة القصيرة في قائمة تُهيمن عليها الرواية، أي الرواية الشعبية، ولكن ليس ملائماً أيضاً حضور الرواية الأدبية مُطوقة ومحصورة في «الواقعية» فقط. يبدو حضورها بهذا الشكل نشازاً وضعيفاً، ويشي وجودها في ذيل القائمة بهامشيتها، وأنها ألصقت بها استدراكاً. «الرواية الأدبية» هو المسمى والخيار الأفضل لانفتاحه على أي نوع من أنواع الرواية. الخيار الثاني أن تُزال الرواية الأدبية، ممثلة بالرواية الواقعية، من القائمة، وتبقى الرواية الشعبية متسيدة فيها، وهذا أكثر اتساقاً وانسجاماً مع عمل واختصاص الهيئة العامة للترفيه. ثمة خيار ثالث يتمثل في إبقاء الرواية الأدبية الواقعية، مشروطاً بحرص لجنة التحكيم على الميل إلى ترشيح الروايات الشعبية التي تُجَسِّرُ الفجوةَ بينها والرواية الأدبية، أي التي تجتمع فيها خصائص الرواية الشعبية والأدبية، الرواية الهجين، إذا صح التعبير. من الكُتاب الذين حققوا هذا المزيج والمزاوجة والمعادلة مؤلف روايات الـ«ويسترن» الروائي لاري ماكميرتي. فازت روايته «يمامة وحيدة» بجائزة «بوليتزر 1986». وفازت رواية كولسون وايتهيد «السكة الحديدية تحت الأرض» بجائزة «بوليتزر 2017»، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة آرثر سي. كلارك البريطانية للخيال العالمي 2017. ورُشِّحَت رواية الإثارة «الفتاة المفقودة/ Gone Girl» لجيليان فلين لجائزة «بيلي» البريطانية للأدب النسائي 2013.

لكن الخيار الثاني هو الأفضل؛ لأنه يعيد الرواية الأدبية إلى هيئة الأدب والنشر والترجمة، فهي إلى ذلك المكان تنتمي، وحيث ينبغي أن تبقى فقد يأتي اليوم الذي تحظى فيه بجائزة كبيرة لها، إضافة إلى إيقافه الازدواجية، والتداخل بين الهيئات في مجالات العمل والاختصاص.

نتائج محتملة للقلم

من المتوقع إسهام جائزة القلم الذهبي في انتقال الرواية الشعبية من هامش الأدب إلى متن السينما. وستُغري جوائزها كثيرين بالقفز على عربة فرقة كتابتها. بعضهم بموهبة وشغف وجدية، وبعضهم الآخر تقودهم الرغبة في الجائزة والمال والشهرة عند وصول رواياتهم، إن وصلت، إليها، إلى الشاشة. هؤلاء هم الـ«هاكس - Hacks» المعاصرون، المقيمون في «Grub Street» الثالث، الذي قد تُسبب الجائزة ظهوره المجازي إلى الوجود على امتداد العالم العربي. سَيُقبِلون على كتابة الرواية الشعبية اعتقاداً بسهولتها، ومُحَفَّزِين بسهولة نشرها. أتوقع أن مهمة لجنة الفرز لن تكون نزهة!

** ناقد وكاتب سعودي



محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.