إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين
TT

إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

تُعيد ترجمة عربية لرواية «فابيان - قصة رجل أخلاقي» للكاتب والروائي الألماني إريش كستنر (1899 – 1974) تأمل الهُوة السحيقة في ألمانيا خلال الفترة بين الحربين العالميتين، وسط تداعي القيمة الإنسانية بين رُحى الأزمتين السياسية والاقتصادية، وتشوّش قيم الحب والعدالة.

في الرواية التي صدرت ترجمتها أخيراً بتوقيع المترجم المصري المقيم ببرلين سمير جريس عن دار «المنى» السويدية، يقود إريش كستنر مفارقات الرواية بين بطله «الأخلاقي» أو «الباحث عن الأخلاق» وسط واقع «لا أخلاقي»، حيث تبدو المدينة فيه مرتبكة بفعل الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الأولى، فيما تُمهد أحداث الرواية بتلك الاضطرابات إلى الاستيلاء الوشيك على السلطة فيها من قبل النازية، وفي هذا السياق ترتفع معدلات البطالة التي يجد بطل الرواية «فابيان» نفسه أحد الواقفين في طوابيرها الطويلة، بعدما يتم تسريحه بخطاب بارد من جهة عمله، حيث كان يعمل في مجال الدعاية والإعلانات، فلا تشفع له درجة الدكتوراه التي حصل عليها ولا عمره الثلاثيني في أن يحتفظ بوظيفته، ويبدو فابيان على مدار الرواية حتى بعد تسريحه من عمله، أبعد ما يكون عن الانفعالات الصاخبة أو الثورية، فهو يتلقى العالم بطبيعة سارِحة في جنون المدينة التي ينهشها الفقر والبطالة بالنهار، وتصدح حياتها الليلية بصخب ومجون الملاهي الليلية التي تُمثل في الرواية حياة موازية يربطها بطل الرواية «فابيان» بسياق وجودي أوسع، فهو ينظر للحياة بعين ساخرة وأخرى تشاؤمية، في وقت باتت فيه «الحياة عادة سيئة» في مدينة صار فيها «حتى الشجر مهموم».

مفارقات تهكمية

يبدو الحس النقدي الساخر في المقابل هو حيلة البطل لمواجهة حالة العبثية الأخلاقية والاقتصادية التي بات عليها مجتمعه، وهو الحس الذي تسلل عبر العديد من مشاهد الرواية، بداية من أروقة الصحافة التي تتعامل فيها إدارة تحرير بأريحية تامة مع تحريف الأخبار وتزييفها لتتماشى مع الاتجاه السياسي للدولة الألمانية في هذا الوقت، و«تأليف» أخبار لإكمال فراغات الصحف، فالمبدأ لديهم يقول إنه «إذا كان المرء بحاجة إلى خبر، وليس لديه أخبار، فإنه يخترع خبراً»، وهنا يخترع القائم على التحرير أو «مالئ الأعمدة»، حسب تعبير كستنر، خبراً عن مصرع أربعة عشر شخصاً، وإصابة اثنين وعشرين آخرين في معارك بين المسلمين والهندوس في كالكوتا، في عبثية كاملة في التعامل مع أخلاقيات الصحافة وتهكم صارخ من قيمة الصدق بشكل عام.

في مشهد آخر من الرواية، يدخل فابيان إلى متجر كبير يقول إن دوره صار أن يقدم التسلية للمفلسين الذين ليس معهم مظلات في ساعات المطر، فيتجوّل داخل المتجر بالقرب من طاولة للكتب يطالع كتاباً لشوبنهاور فينظر لكتاب الفيلسوف الألماني الشهير وكأنه يُحدثه: «اقتراح هذا العم المستاء من البشرية للارتقاء بأوروبا عبر علاجها بالطرق الهندية، كان لا شك فكرة حمقاء»، ورغم عدم قدرته على شراء شيء من المتجر فإنه ينحاز في موقف أخلاقي لفتاة صغيرة يتحلق من حولها أمن المتجر لأنها سرقت منفضة سجائر، فيقرر أن يدفع هو ثمن المنفضة ويخلص الفتاة الفقيرة ذات العشرة أعوام من القبض عليها بتهمة السرقة، ليكتشف بعدها أنها سرقت المنفضة لتهديها لوالدها في عيد ميلاده.

وفي مفارقة يصنعها كستنر بين تقدم الميكنة الصناعية من جهة وانهيار بنية العمالة من جهة أخرى، يجعل بطله «الأخلاقي» فابيان يتعثر برجل عجوز من المخترعين الذين ساهم اختراعهم في مضاعفة إنتاج النسيج وبالتالي تسريح العمال بسبب الاعتماد على الماكينات، يقول المخترع العجوز «ماكيناتي كانت مدافع، أصابت في مقتل جيوشاً كاملة من العمال، لقد دمرت أساس الحياة لدى مئات الآلاف، عندما كنت في مانشستر، رأيت رجال الشرطة على الخيل وهم يدهسون الموقوفين عن العمل. بالسيوف انهالوا على رءوسهم. فتاة صغيرة وجدت نفسها تحت أقدام حصان. وأنا المسؤول عن ذلك». يثير هذا الموقف الأخلاقي للرجل المُسن حفيظة أسرته بعدما يقرر أن يتبرع بأمواله للعمال المتضررين، فيعتبرونه فقد عقله ويطاردونه للحجر عليه وإقحامه في مستشفى الأمراض العقلية، ما جعل الرجل يتنقل بين الأرصفة وأسطح البيوت هرباً منهم، ويجد فابيان في مساعدته عملاً أخلاقياً، فيجعله يبيت في غرفته، وفي مفارقات ساخرة كان يجعله يختبئ في خزانة ملابسه.

مُدونة مفتوحة

يبدو صوت المدينة الذي يتقاطع معه فابيان مشوهاً، حيث «الحب مجرد بضاعة» كما يُروّج أهل المدينة في حانات الليل، أما الانتحار فيبدو وسيلة لإنهاء تعقيدات الحياة وإحباطات الحالمين كما يحدث مع صديق فابيان «لابوده»، الذي ينتحر يأساً، أما حبيبة فابيان فتختار طريق الوصول السريع لارتقاء سلم طموحها، فتتحوّل من «حقوقية» إلى نجمة سينمائية وتهجر فابيان، الذي يبدو حتى النهاية متمسكاً بمفاهيمه حول الأخلاق، دون أن يستطيع مجاراة المستفيدين من هذا النظام.

اللافت أن إريش كستنر استهل كل فصل من فصول الرواية بومضات مُكثفة تبدو أقرب لمُدونة مفتوحة تُسجل تأملات فابيان للعالم الفاسد الذي يكتفي فيه بموقع المتفرج السلبي الساخر، فيفتتح أحد الفصول بقوله: «هناك سيدات متطفلات جداً. المحامي لا يُعارض. التسوّل يفسد الشخصية».

ويطرح مترجم الرواية سمير جريس كلمة في نهاية الرواية يُعقب فيها على السياق الثقافي والسياسي لصدور رواية «فابيان» لأول مرة عام 1931. التي يقول عنها إنها رواية عن برلين العشرينيات وحقبة جمهورية فايمر والانهيار الاقتصادي، مضيفاً، أن كستنر في مقدمة إحدى طبعات الرواية التي صدرت في مطلع الخمسينات أشار إلى أنه أراد بروايته «أن يُحذر من الهوة التي كانت ألمانيا وأوروبا تقترب منها».

وتشير كلمة المترجم إلى أن الرواية تعد من أهم الروايات الألمانية في فترة ما بين الحربين، بكل ما حدث فيها من اضطراب وانهيار واختلال في القيم، وكانت الرواية جريئة في بعض مشاهدها، حتى بالقياس إلى ذلك العصر المنفتح إلى أقصى حد؛ عبر عديد من المشاهد في بيوت الدعارة والخمارات صوّر كستنر الانحلال الأخلاقي في الفترة التي واكبت الانهيار الاقتصادي، وأثمرت في النهاية تياراً سياسياً يمينياً متطرفاً هو التيار النازي الذي جلب الحرب والدمار والخراب على ألمانيا وأوروبا، بل وعلى العالم كله.

أثارت الرواية بعد صدورها عام 1931 جدلاً كبيراً، ولقيت مديحاً وهجوماً في آن واحد. وكان من المعجبين بها الأديب الراحل هرمان هسه الذي امتدح فنيّة القص، والنزعة الإنسانية فيها، يقول هسه عنها: «هنا إنسان، ضعيف ومنكسر، نعم، لكنه إنسان».


مقالات ذات صلة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

ثقافة وفنون إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

صدرت حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن، بالتعاون مع «وكالة حرف» في الرياض، طبعة جديدة لرواية «السيّدة خاتي» للكاتب الكرديّ علي عبد الرحمن بترجمة قادر عكيد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق يشمل الحدث برنامجاً متكاملاً مُصمَّماً لجميع الفئات (كتاب المدينة) play-circle 02:11

معرض المدينة المنوّرة للكتاب... إطلالة على عوالم معرفية جديدة

يُقام المعرض على مساحة 20 ألف متر مربّع خلف «مركز الملك سلمان الدولي للمؤتمرات والمعارض»، ويفتح أبوابه للجمهور طوال أيامه الـ7 حتى 5 أغسطس.

عمر البدوي (المدينة المنورة)
يوميات الشرق يأتي معرض المدينة بدورته الثالثة ضمن مبادرة معارض الكتاب في السعودية (واس)

فصول ثقافية ومعرفية تبدأ في معرض المدينة المنورة للكتاب

تنطلق اليوم الثلاثاء، فعاليات النسخة الثالثة من معرض المدينة المنورة للكتاب، الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة، في الفترة من 30 يوليو الحالي حتى 5 أغسطس.

عمر البدوي (المدينة المنورة)
كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة
TT

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

صدرت حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن، بالتعاون مع «وكالة حرف» في الرياض، طبعة جديدة لرواية «السيّدة خاتي» للكاتب الكرديّ الراحل علي عبد الرحمن بترجمة قادر عكيد.

تحظى الرواية بأهمّيّة كبيرة في تاريخ الأدب الكرديّ الحديث باعتبارها أوّل رواية كُتبت ونُشرت باللغة الكردية (اللهجة الكرمانجية)، ونُشرت لأوّل مرّة عام 1959 في يريفان بأرمينيا.

أراد الكاتب في هذه الرواية القصيرة إظهار قوّة المرأة الكرديّة ودورها ورسالتها في الحياة، وكيف أنّها تنهض بأدوار قياديّة في أسرتها ومجتمعها، وتساهم بلعب دور كبير في حركة التغيير الاجتماعي.

كتب الناشر:

«حين تقرأ هذه الرواية تتعرّف إلى جوانب من قوّة المرأة الكرديّة المضحّية وقدرتها على الصمود في وجه المحن، وكيف أنّها تضرّ إلى إخفاء مآسيها تحت أقنعة العنف في بعض الأحيان.

رواية (السيّدة خاتي) هي مفتاح الرواية الكردية الكلاسيكية، رواية التعايش والوفاء الكرديّ الأرمنيّ، ورواية الحبّ الطاهر العفيف الذي يعاند قسوة الحياة».

ويقول المترجم في مقدمته للرواية إنّ «ما جذبه لترجمتها أكثر هو بطلة الرواية (السيّدة خاتي) التي تحمل العبء الأكبر بعد رحيل زوجها تيمور، واعتقال بكرها ووحيدها سلطان من قبل الجندرمة التركية، لأنّه طالب بأبسط حقوق عشيرته، التي تمثّلت بطلبه تخفيف الضرائب. وهكذا أراد المؤلف إظهار قوة المرأة الكردية ودورها ورسالتها، وهذا يذكّرنا بنساء كرديّات أخريات كنّ بطلات قصص وحكايا وروايات مثل اﻷﻣﻴﺮﺓ قدم خير التي ثأرت لمقتل أخيها الأمير شاه مراد خان الذي قُتل غدراً على يد رضا شاه الفارسي إذ أﻋﻠﻨﺖ في عام 1927 الحرب عليه، وألحقت به الهزائم. وكذلك خانزاده سلطان التي حكمت إمارَتيْ حرير وسوران بعد وفاة زوجها وكانت تتولى قيادة الجيش بنفسها، والثائرة فاطمة خانم التي كانت تتولى قيادة فرقة كردية في حرب القرم».

المؤلف علي عبدالرحمن شاعر وروائي كردي (1920 - 1994) ولد في منطقة وان في تركيا. مرّ بطفولة صعبة، حيث أُجبر على الهجرة مع العشرات من أبناء عشيرته إلى الاتحاد السوفياتي السابق في عام 1926. ومن أعماله الروائية: «قرية الشجعان»، «شجني»، «الحرب في الجبال/ شيخ ظاهر». ومن أعماله الشعرية: «موروف»، «نهضة»، «كلستان»، «إجلال»، «قلبان محبّان»، و«الأم».

جاءت الرواية في مائة صفحة من القطع الوسط، وكانت لوحة الغلاف للفنان الكرديّ العراقيّ رستم آغاله، وتصميم الفنّان ياسين أحمدي.