البداوة ليست جَدّاً لأحد

البداوة ليست جَدّاً لأحد
TT

البداوة ليست جَدّاً لأحد

البداوة ليست جَدّاً لأحد

هناك خلط بين مفهومَي القبيلة والبداوة عند عموم الناس، خصوصاً عند من ينتمون منذ القِدم إلى المدن أو القرى، وقد حكت كُتب الأدب العربي قصة شاعر حضري من قبيلة بني تميم، هو المرار بن منقذ، وهو من فحول الشعراء، تزوّج امرأة بدوية من قبيلته بني تميم، لكن لم يَطِب لها العيش معه، فصارت تُعيِّره بهِرَمه، وتُفضّل أبناء عمها أهل الإبل عليه. فكتب قصيدة، اختارها المفضّل الضبي في مفضّلاته، يقارن فيها بين الإبل والنخل مقارنةً فريدة في تاريخ الشعر.

المسألة ذوقية تماماً؛ إذ لم يكن هذا موقف كل أهل البادية، فقد انتقلوا في القرن العشرين بعد قيام دولنا الحديثة إلى الهجر التي لا تختلف عن القرى، وتحوّل البدو في أيامنا هذه إلى فلاحين، يحفرون الأرض، ويزرعون البطاطس والبطيخ والبرسيم، وينتظرون بصبر موعد الحصاد.

الانتقال من البداوة إلى الحضارة، ومن الحضارة إلى البداوة، كان يحدث بكل سلاسة في الجزيرة العربية عبر كل التاريخ، إلا أن هجر الحضارة إلى البداوة كان أقل، بسبب صعوبة البداوة وشُحّ المصادر، وخصوصاً بعد نهي الإسلام عن أن يرتدّ المهاجر أعرابياً.

إذا تأملنا هذا الانتقال السلس فلربما نُبصر أن الفرق وهمي إلى حد ليس بالقليل، وأن لا فرق بين العربي والأعرابي كما زعم البعض، خصوصاً عندما تجد أن أساليب العرب واحدة، ونمط حياتهم وتقاليدهم واحدة، حتى في عادات الطعام والشراب.

البداوة ليست جَدّاً لأحد، هي شيء يتعلق بالجغرافيا فقط، وبقضايا ذوقية وجدانية لا أكثر. في زمن مضى، هناك من اختار الزراعة وسُكنى بيوت الطين، وهناك من اختار تربية المواشي وتتبُّع آثار المطر، كل هذا قد انتهى اليوم، ومع هذا لا يزال الناس يجِدون صعوبة في تحديد هوية البدوي؛ إذ لا يوجد اليوم في الجزيرة العربية من يعيش بصفة دائمة في البادية. الواقع هو أن البدوي قد اختفى من عالمنا، وانقرض من الوجود، مع أن هذا لم يقع على القبيلة.

هناك من يرعَون الإبل والغنم، لكنهم ينامون كل ليلة في فلل حديثة التصميم، ويشاهدون ما تبثُّه منصة «نتفليكس». من هو البدوي إذن؟ هل هو من ينتمي إلى قبيلة كبيرة؟ هذا أيضاً غير دقيق؛ لوجود قبَليّين متحضّرين منذ زمن ما قبل الإسلام، القبيلة تختلف عن البداوة؛ لأن القبيلة قد تكون حضرية، وقد تكون بدوية، كما يظهر من قصة الشاعر مع زوجته، فكلاهما ينتمي إلى القبيلة ذاتها، وليس كل قبَلي بدوياً، ولا كل بدوي قبَلياً، كما أنه لا يمكن وصف الجماعات التي تقوم على رعاية الغنم بجوار القرى بأنها بدوية. القبيلة البدوية تقوم ثروتها على الإبل، وهي من كانت تملك القدرة على الاستيلاء على المراعي الشاسعة.

من جهة أخرى، عندما نحاول فهم القبيلة سنجد خللاً كبيراً في التصور، وعندما ندرس القبيلة بمعايير ولغة الفيزياء سنجد أن القبائل ليست حالة جامدة (بحيث نتخيل القبيلة بنت رجل واحد)، ولا غازيّة (بحيث ننفي القرابة بإطلاق)، بل هي حالة سائلة (أي وسط بين الحالتين).

عندما نتخيل أن أبناء القبيلة الواحدة ينتمون إلى جَدّ واحد، فلا بد أن يخبرنا أحد بأن هذا غير صحيح على الإطلاق، القبيلة الواحدة هي في الحقيقة نزائع وأحلاف جمعتها المصلحة، والمصلحة لا تعني شيئاً أكبر من البقاء على قيد الحياة، وتوفير الحاجات الضرورية الخمس، لا سيما الأمن والغذاء.

في الأزمنة القديمة، كان يقال إن القبيلة التي لا تؤوي الدخيل ليست بقبيلة. فهناك ميثاق عُرفي تواضعت عليه القبائل العربية قديماً؛ أن لمن فرّ من قبيلته بسبب قضية ثأر حقاً على كل القبائل أن تؤويه، فإذا آوَوه وزوّجوه وتزوّجوا منه أصبح بعد عدة عقود، مع أبنائه وأحفاده، قبيلة جديدة في بطن قبيلة أخرى. هذه صورة من صور التحالف وما يسمّى بالنزيعة. وهناك صورة ثانية ليست فردية، بل يحدث أن تنتقل أسرة بكاملها، فتتحالف مع قبيلة أخرى، ثم ينصهر القليل في الكثير. هذه القبائل بعضها من بعض، قبل وبعد كل شيء.

وثمة صورة ثالثة، عندما تقرِّر قبيلة ما أن تترك أرضها الأم، وتنتقل لتُزيح قبيلة أخرى عن مراعيها الخصبة بالقوة، وفي مثل هذه التحولات الكبرى تختفي أسماء وتحلّ محلها أسماء جديدة، وتتغير التحالفات فيما يتعلق بزعامات القبائل، فمن يشارك في الغزو ليس كمن لم يشارك وبقي في أرضه الأم، بل يصبح كل حليف جديد أقرب منه للجماعة الغازيَة.

ويظهر دليلاً ظاهراً على هذا كثرةُ الزعامات في القبيلة الواحدة، مع اعترافهم بشيخ واحد للشمل، أي العموم، ثمة احترام عميق للأسماء التاريخية، لكن القبيلة كانت غير منغلقة تجاه الزعامات المتنافسة.

وللزعيم صفات شخصية معينة تحبها القبيلة، من ضمنها الشجاعة والكرم وطول القامة وضخامة الذراعين، أما الفرسان فيُحكَى أنهم في الغالب كانوا قصار القامة خفيفي الحركة، لكن عندما يفشل زعيم ما في حماية قبيلته أو قيادتها نحو النصر، فإن أبناء قبيلته سيُنصّبون أميراً جديداً يكون هو مَن أبلى بلاءً حسناً، أو أنقذهم من الهلاك، مع بقاء إمرة الأول واحتفاظهم به. كل هذا يحدوه شيء واحد؛ براغماتية العربي وواقعيته الشديدة الصميمة، ورغبته الجازمة في الحفاظ على نفسه ومن يعول.

لقد نشأت الدولة السعودية في رحم القبيلة العربية، ووُلدت في بيئتها، ومن نسيجها الثقافي والعِرقي، ثم تحوّلت إلى دولة تمثّل مهد العرب، وصارت السعودية قبيلة كل السعوديين، بكل تنوعاتهم، وطناً حديثاً يتخطى حدود القبيلة، ويتعايش معها في الوقت ذاته.

* كاتب سعودي.



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.