البداوة ليست جَدّاً لأحد

البداوة ليست جَدّاً لأحد
TT
20

البداوة ليست جَدّاً لأحد

البداوة ليست جَدّاً لأحد

هناك خلط بين مفهومَي القبيلة والبداوة عند عموم الناس، خصوصاً عند من ينتمون منذ القِدم إلى المدن أو القرى، وقد حكت كُتب الأدب العربي قصة شاعر حضري من قبيلة بني تميم، هو المرار بن منقذ، وهو من فحول الشعراء، تزوّج امرأة بدوية من قبيلته بني تميم، لكن لم يَطِب لها العيش معه، فصارت تُعيِّره بهِرَمه، وتُفضّل أبناء عمها أهل الإبل عليه. فكتب قصيدة، اختارها المفضّل الضبي في مفضّلاته، يقارن فيها بين الإبل والنخل مقارنةً فريدة في تاريخ الشعر.

المسألة ذوقية تماماً؛ إذ لم يكن هذا موقف كل أهل البادية، فقد انتقلوا في القرن العشرين بعد قيام دولنا الحديثة إلى الهجر التي لا تختلف عن القرى، وتحوّل البدو في أيامنا هذه إلى فلاحين، يحفرون الأرض، ويزرعون البطاطس والبطيخ والبرسيم، وينتظرون بصبر موعد الحصاد.

الانتقال من البداوة إلى الحضارة، ومن الحضارة إلى البداوة، كان يحدث بكل سلاسة في الجزيرة العربية عبر كل التاريخ، إلا أن هجر الحضارة إلى البداوة كان أقل، بسبب صعوبة البداوة وشُحّ المصادر، وخصوصاً بعد نهي الإسلام عن أن يرتدّ المهاجر أعرابياً.

إذا تأملنا هذا الانتقال السلس فلربما نُبصر أن الفرق وهمي إلى حد ليس بالقليل، وأن لا فرق بين العربي والأعرابي كما زعم البعض، خصوصاً عندما تجد أن أساليب العرب واحدة، ونمط حياتهم وتقاليدهم واحدة، حتى في عادات الطعام والشراب.

البداوة ليست جَدّاً لأحد، هي شيء يتعلق بالجغرافيا فقط، وبقضايا ذوقية وجدانية لا أكثر. في زمن مضى، هناك من اختار الزراعة وسُكنى بيوت الطين، وهناك من اختار تربية المواشي وتتبُّع آثار المطر، كل هذا قد انتهى اليوم، ومع هذا لا يزال الناس يجِدون صعوبة في تحديد هوية البدوي؛ إذ لا يوجد اليوم في الجزيرة العربية من يعيش بصفة دائمة في البادية. الواقع هو أن البدوي قد اختفى من عالمنا، وانقرض من الوجود، مع أن هذا لم يقع على القبيلة.

هناك من يرعَون الإبل والغنم، لكنهم ينامون كل ليلة في فلل حديثة التصميم، ويشاهدون ما تبثُّه منصة «نتفليكس». من هو البدوي إذن؟ هل هو من ينتمي إلى قبيلة كبيرة؟ هذا أيضاً غير دقيق؛ لوجود قبَليّين متحضّرين منذ زمن ما قبل الإسلام، القبيلة تختلف عن البداوة؛ لأن القبيلة قد تكون حضرية، وقد تكون بدوية، كما يظهر من قصة الشاعر مع زوجته، فكلاهما ينتمي إلى القبيلة ذاتها، وليس كل قبَلي بدوياً، ولا كل بدوي قبَلياً، كما أنه لا يمكن وصف الجماعات التي تقوم على رعاية الغنم بجوار القرى بأنها بدوية. القبيلة البدوية تقوم ثروتها على الإبل، وهي من كانت تملك القدرة على الاستيلاء على المراعي الشاسعة.

من جهة أخرى، عندما نحاول فهم القبيلة سنجد خللاً كبيراً في التصور، وعندما ندرس القبيلة بمعايير ولغة الفيزياء سنجد أن القبائل ليست حالة جامدة (بحيث نتخيل القبيلة بنت رجل واحد)، ولا غازيّة (بحيث ننفي القرابة بإطلاق)، بل هي حالة سائلة (أي وسط بين الحالتين).

عندما نتخيل أن أبناء القبيلة الواحدة ينتمون إلى جَدّ واحد، فلا بد أن يخبرنا أحد بأن هذا غير صحيح على الإطلاق، القبيلة الواحدة هي في الحقيقة نزائع وأحلاف جمعتها المصلحة، والمصلحة لا تعني شيئاً أكبر من البقاء على قيد الحياة، وتوفير الحاجات الضرورية الخمس، لا سيما الأمن والغذاء.

في الأزمنة القديمة، كان يقال إن القبيلة التي لا تؤوي الدخيل ليست بقبيلة. فهناك ميثاق عُرفي تواضعت عليه القبائل العربية قديماً؛ أن لمن فرّ من قبيلته بسبب قضية ثأر حقاً على كل القبائل أن تؤويه، فإذا آوَوه وزوّجوه وتزوّجوا منه أصبح بعد عدة عقود، مع أبنائه وأحفاده، قبيلة جديدة في بطن قبيلة أخرى. هذه صورة من صور التحالف وما يسمّى بالنزيعة. وهناك صورة ثانية ليست فردية، بل يحدث أن تنتقل أسرة بكاملها، فتتحالف مع قبيلة أخرى، ثم ينصهر القليل في الكثير. هذه القبائل بعضها من بعض، قبل وبعد كل شيء.

وثمة صورة ثالثة، عندما تقرِّر قبيلة ما أن تترك أرضها الأم، وتنتقل لتُزيح قبيلة أخرى عن مراعيها الخصبة بالقوة، وفي مثل هذه التحولات الكبرى تختفي أسماء وتحلّ محلها أسماء جديدة، وتتغير التحالفات فيما يتعلق بزعامات القبائل، فمن يشارك في الغزو ليس كمن لم يشارك وبقي في أرضه الأم، بل يصبح كل حليف جديد أقرب منه للجماعة الغازيَة.

ويظهر دليلاً ظاهراً على هذا كثرةُ الزعامات في القبيلة الواحدة، مع اعترافهم بشيخ واحد للشمل، أي العموم، ثمة احترام عميق للأسماء التاريخية، لكن القبيلة كانت غير منغلقة تجاه الزعامات المتنافسة.

وللزعيم صفات شخصية معينة تحبها القبيلة، من ضمنها الشجاعة والكرم وطول القامة وضخامة الذراعين، أما الفرسان فيُحكَى أنهم في الغالب كانوا قصار القامة خفيفي الحركة، لكن عندما يفشل زعيم ما في حماية قبيلته أو قيادتها نحو النصر، فإن أبناء قبيلته سيُنصّبون أميراً جديداً يكون هو مَن أبلى بلاءً حسناً، أو أنقذهم من الهلاك، مع بقاء إمرة الأول واحتفاظهم به. كل هذا يحدوه شيء واحد؛ براغماتية العربي وواقعيته الشديدة الصميمة، ورغبته الجازمة في الحفاظ على نفسه ومن يعول.

لقد نشأت الدولة السعودية في رحم القبيلة العربية، ووُلدت في بيئتها، ومن نسيجها الثقافي والعِرقي، ثم تحوّلت إلى دولة تمثّل مهد العرب، وصارت السعودية قبيلة كل السعوديين، بكل تنوعاتهم، وطناً حديثاً يتخطى حدود القبيلة، ويتعايش معها في الوقت ذاته.

* كاتب سعودي.



كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري
TT
20

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس إلى غاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدأت بالتذكير بأن «الأولوية هي لإنقاذ الأرواح البشرية قبل القطع الأثرية، لكن مساعينا انطلقت من الرغبة في إعادة الاعتبار لتراث غزة الذي طوته المأساة، نريد أن يرى العالم الوجه الآخر لغزة، المدينة الحضارية الغنية بتراث عمره أكثر من خمسة آلاف عام».

هذا الحدث الذي يسعى إلى إحياء الذاكرة الثقافية للمنطقة وإبراز عمقها الحضاري الذي طمرته الحرب هو الأول من نوعه في فرنسا بشهادة رئيسه جاك لانغ، وهو يعرض أكثر من 130 قطعة أثرية تشهد على تاريخ غزة الطويل الممتد على مدى ثماني حضارات مختلفة. المجموعات المعروضة مستمدة من التنقيبات الأثرية لفرق فرنسية وفلسطينية عملت معاً في غزة منذ 1995 بإشراف عالم الآثار الفرنسي القس الدوميناكي جان باتيست همبير (84 سنة). أقدمها تعود إلى العهد البرونزي، أي 3200 سنة قبل الميلاد، وأحدثها من العهد العثماني في نهاية القرن التاسع عشر: منها التماثيل والأحجار والجرار والقطع النقدية، ومنها ما يحمل قيمة تاريخية كبيرة كوعاء فخاري يعود إلى أربعة آلاف عام وفسيفساء بيزنطية تعود إلى القرن السادس وتمثال لأفروديت كشاهد على التأثيرات الهلنستية في المنطقة.

المعرض رفع النقاب أيضاً عن القصة المذهلة لهذه القطع الأثرية التي حلّت في باريس قادمة من سويسرا، حيث ظلّت عالقة في منطقة جنيف الحرة لمدة تناهز 17 سنة في انتظار عودتها إلى موطنها الأصلي بعد أن عُرضت في متحف جنيف في 2006. القطع التي لم يعرض منها في باريس سوى 150 من أصل 529 لم تتمكن من العودة إلى غزة بسبب الحصار وعرقلة السلطات الإسرائيلية، يومية «لوتون» السويسرية كانت قد وصفتها بـ«الكنوز التي أصبحت عبئاً»، وكان مصممو المعرض قد اختاروا عرضها في قواعد معدنية مثبتة على عجلات وكأنها مستعدة للرجوع إلى الوطن في أي لحظة في مفارقة محزنة بين النفي القسري الذي تعرضت له هذه الكنوز الأثرية التي تنتظر في المنفى منذ 17 سنة.

تضمن المعرض أيضاً جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد داخل دير القديس هيلاريون، الذي شُيّد عام 329 ميلادياً، ويُعد من أقدم الأديرة في الشرق الأوسط، وقد أُدرج على قائمة الممتلكات الثقافية المحمية دولياً من قبل «اليونيسكو» في يوليو (تموز) 2024. وإن كان من الصعب إجراء جرد دقيق لكل المعالم الأثرية التي تعرضت للدمار منذ بداية الحرب على غزة إلا أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونيسكو) رصدت استناداً إلى صور الأقمار الاصطناعية الأضرار التي لحقت بأكثر من 94 موقعا أثريا في القطاع.

من هذه المعالم المسجد العمري الكبير، الذي شُيّد عام 700 ميلاديا على أنقاض كنيسة بيزنطية، وتحول لاحقاً إلى كنيسة في عهد الصليبيين ثم أعيد مسجداً في زمن المماليك، قبل أن يتوسع في الحقبة العثمانية، حيث تعرض للقصف مراراً، وكان آخرها في نوفمبر عام 2023، حيث تعرضت مئذنته لأضرار جسيمة، إضافة إلى متحف قصر الباشا الذي يضم قطعاً من العهود اليوناني والروماني والبيزنطي والإسلامي، وتعود بنيته إلى القصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، ويعرف أيضا باسم «قلعة نابليون» لأن نابليون بونابرت أقام فيه ثلاثة أيام خلال رحلته لمصر. وقصفته قوات الاحتلال الإسرائيلي ودمرت أجزاء كبيرة منه في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إضافة إلى تدمير الكنيسة البيزنطية وكنيسة القديس برفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم.

وإن كانت الأولوية منذ بداية الحرب هي لإنقاذ الأرواح البشرية إلا أن كثيرا من المبادرات عرفت النور في محاولة لإنقاذ التراث أيضاً. فقد تم نقل مجموعات من متحفين إلى مناطق آمنة داخل قطاع غزة بدعم مالي من التحالف الدولي لحماية التراث (Aliph) الذي خصّص لها مبلغ 602 ألف يورو، كما تم أيضاً تدريب حوالي ستين محترفاً (عبر الإنترنت) من أجل التدخل الطارئ لحماية القطع أو استخراجها من الأنقاض. تشرح السيدة الودي بوفار المشرفة على معرض «كنوز غزة»: «لا نستطيع التدخل قبل وقف التدخل العسكري وترتيب الوضع الإنساني، وأول ما يمكن القيام به هو تأمين المواقع من أخطار الألغام ثم تفقّد حجم الأضرار والبدء في عمليات الجرد والتوثيق لإعادة بناء المواقع وترميمها».

وقد لاحظ رينيه إيلتر عالم الآثار في جمعية الطوارئ الدولية ومدير برنامج الحفاظ على دير سانت هيلاريون أن سكان غزة واعون بقيمة تراثهم وضرورة حمايته وهو مصدر فخر كبير، حيث أقيم مخيم للاجئين في محيط موقع دير سانت هيلاريون لكن السّكان لم يسعوا أبدا إلى دخوله، متهماً في نفس الوقت الجيش الإسرائيلي بسرقة المجموعات التي كان يحتويها متحف الباشا، حيث أردف: «أفضل القطع كانت في هذا المتحف، بعد القصف ذهب بعض زملائنا الفلسطينيين لتفقد الوضع فاكتشفوا أن الجنود الإسرائيليون قد فتحوا الصناديق وأخذوا منها بعض المقتنيات».

وكان مدير الآثار الإسرائيلي ايلي اسكوسيدو قد نشر تسجيلاً يظهر جنودا إسرائيليين محاطين بأوان فخارية قديمة من مستودع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار بعد اقتحامه، مما أثار ردود أفعال منددة بسرقة التراث الفلسطيني.

إن قصة اكتشاف التراث التاريخي لغزة تعود إلى السنوات التسعين من القرن الماضي، فبعد إمضاء معاهدة أوسلو قامت السلطات الفلسطينية بإنشاء دائرة الآثار التي كانت تعمل بالتعاون مع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار في التنقيب عن الآثار، وأسفرت الأبحاث عن العثور على الكثير من القطع الأثرية الثمينة، هذه الجهود لقيت أيضاً مساندة من قبل رجل الأعمال والمجمع الفلسطيني جودت الخضري الذي قام بشراء آلاف القطع الأثرية لحمايتها من التهريب والتجارة، بعضها كان معروضاً في «فندق المتحف» الذي أسّسه في 2008 وكان يضم قطعا نادرة من العصور الكنعاني والروماني والإسلامي قبل أن يدمره الاحتلال الإسرائيلي بالكامل في الـ3 من نوفمبر 2023.