هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

المرأة التي شيطنتها السردية التوراتية

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى



أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي
TT

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

أثر رولان بارت على التعليم الجامعي المغربي

يأتي كتاب «رولان بارت في المغرب» (دار توبقال - 2024) للمعطي قبال، ليضيء جانباً من سيرة الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 - 1980)، بالتحديد المتعلقة بالسنة التي أمضاها مدرساً بجامعة محمد الخامس بين (1969 - 1970) بدعوة من الشاعر والروائي الفرانكفوني مرسي زغلول الذي رأس قسم الآداب واللغة الفرنسية بهذه الجامعة مدة عشر سنوات.

ويتألف الكتاب من مجموعة من المقالات التي يبدو أنها كُتِبَت على مراحل متباعدة، بحكم التكرار الذي وسم بعضها، وكان يمكن تفاديه في سياق المراجعة النهائية والشاملة. على أن الوحدة الناظمة لهذه المقالات شخصية رولان بارت وما تركه من أثر مدرساً في هذه الجامعة، إذ أحدث نقلة في منهجية التدريس وطريقة قراءة النص الأدبي وفهمه وتأويله معتمداً المنهج النقدي البنيوي مذهباً جديداً ناهض الأساليب الكلاسيكية القديمة في تحليل النصوص. والواقع أن هذا التوجه الجديد، على الرغم من فترة الغليان السياسي التي طبعت الحياة الاجتماعية والثقافية في المغرب، ظل حاضراً وإلى اليوم، وهو ما تحقق توثيقه في هذا الكتاب، سواء في الحوار الذي أجراه الكاتب المغربي عبد الله بونفور الذي يعد من أوائل الطلبة الذين درسوا على يد بارت ولازموه على امتداد المرحلة التي أمضاها في المغرب، وضم كملحق في آخر الكتاب، إضافة إلى ترجمة مجموعة من آثاره ومقالاته النقدية من طرف أدباء وكتاب مغاربة عرفوا بكفاءتهم في حقل الترجمة.

وبذلك، فإن كان كتاب «رولان بارت في المغرب» يذهب - كما سلف - إلى تدوين سيرته في المغرب، فإنه ينفتح نسبياً على تفاصيل أخرى ترتبط بهذه السيرة، إن لم يكن بحياة بارت وشخصيته المتعددة الاهتمامات الأدبية والنقدية.

المتوسطي والعابر

إن أول ما يطالعنا في شخصية بارت الولع بالسفر، سواء إلى دول غربية أو عربية، بحكم الوظائف التي تقلدها، أو بحثاً عن المتعة وتقصياً للعلامات التي تتفرد بها المجتمعات وتشكل خصوصيتها. ويذهب المعطي قبال إلى أن ولع السفر ارتبط بفضاء المتوسط. ولذلك وُسم بارت بـ«المتوسطي والعابر»:

«المتوسط بحر، وهو أيضاً ينطق بتاريخ البداية ومنشأ الأساطير، الديانات، الحكايات، الحروب. المتوسط هو أيضاً مشهد يطفح بالعنف وبالشعر. والمتوسط مولد التراجيديا بمعناها الفلسفي والملحمي». (ص/13)

على أن من الدول الغربية التي حظيت باهتمام رولان بارت كانت اليونان. ويعود ذلك لشغفه بالحضارة الإغريقية القديمة، وتكريس جانب من الممارسة النقدية لفن المسرح. على أن ما يضاف لهذا الاهتمام الأدبي الوقوف على الهوامش التي تتشكل منها البنية الاجتماعية:

«لذا يبقى الإغريق بحسبه هم أسياد التاريخ، وفي كتاب أسطوريات يستهل الكتاب بنصوص تعرض علينا مشاهد مسرحية مثل لعبة الكاتش، التصوير أو الفوتوغرافيا، بل حتى كلام الأسطورة هو كلام ممسرح». (ص/31)

وأما إيطاليا فحصر عنايته بها في عصر النهضة، فركز على مختلف الأجناس الأدبية والفنون: الشعر، الموسيقى، الرسم والتشكيل. بمعنى آخر كما يرى المعطي قبال إن عنايته توقفت عند جمالية المتوسط دون أن تمتد لإيطاليا المعاصرة:

«... وبكلمة واحدة، إيطاليا الفنون والآداب قبل أن تترك مكانها لإيطاليا المعاصرة: أمبرتو إيكو، ماريا كالاس، فيلليني، أنطونيوني، بيراندللو، بازوليني وسواهم». (ص/ 31)

بيد أن صورة بارت المتوسطي، تقتضي عدم الغفل عن زيارته لليابان التي تردد عليها ثلاث مرات منذ 1966. وتعد المرجعية التي اعتمدها في قراءة وتأويل العلامات التي يتشكل منها فضاء الاجتماعي والثقافي. والأصل أن التوجه هو ما حذا به إلى ربط اليابان بالكتابة، إذ لما سئل: «لماذا اليابان؟»، رد بالقول: «لأنه بلد الكتابة» (ص/ 33).

وأما عربياً، فيشير المؤلف إلى زيارة بارت لمصر، حيث اشتغل موظفاً بمكتبة الإسكندرية، بينما زار عابراً الجزائر وتونس.

توظيف اللسانيات

لم تكن السنة التي أمضاها رولان بارت أستاذاً بجامعة محمد الخامس بالرباط، وحدها الفرصة التي أتيحت بغاية التعرف على المغرب، بل نجده يتردد عليه منذ 1960 وإلى غاية 1977 بهدف السياحة والتعرف على أصدقاء. من ثم زار أكثر من مدينة مغربية، وبالضبط طنجة التي ضمت في تلك الفترة جماعة «البيت» التي تشكلت من أمريكيين وأنجلوساكسونيين. وأما في 1964 فسيزور مراكش برفقة ميشيل فوكو، كما تعرف على أزمور والجديدة.

على أن السياق الذي دُعي فيه رولان بارت للتدريس الجامعي اتسم بأحداث بعضها سياسي، وآخر اجتماعي. هذه الأحداث رسمت صورة عن مغرب تلك المرحلة. يقول المعطي قبال:

«المغرب المقصود هنا هو مغرب الستينات وبداية السبعينات. شهد البلد في 30 من شهر يونيو عام 1969 تسليم إسبانيا منطقة إفني، حدوث زلزال، بدء المفاوضات مع المجموعة الأوروبية، تحقيق قفزة على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي، تكريس الدرهم كعملة رسمية». (ص/ 9)

والواقع أن هذه الصورة لم تؤثر على مسار الدرس الجامعي الجديد الذي أحدث كما سلف نقلة في التعامل مع النصوص العالمية قراءةً وتأويلاً. فإذا كان هدف هذا الدرس اتسم فيما مضى بتقليديته حيث ركز أساساً على تاريخ اللغة الفرنسية، إلى استنطاق المعاني اللاهوتية والقومية، فإن توظيف اللسانيات وعلم العلامات أسهم في تقريب النص من المتلقي الذي لم يكن يمتلك مرجعية تخوله تجديد آليات القراءة ومسايرة مستجدات التحليل الذي أرسى بارت أسسه، حيث درس مارسيل بروست، جول فيرن وإدغار آلان بو. يقول عبد الله بونفور في الحوار الملحق بالكتاب:

«أدين لرولان بارت كونه لقنني وجود علاقة بين المتعة والقراءة بصفتها اشتغالاً». (ص/ 94)

والواقع أن تأثير بارت الذي راكم في تلك المرحلة أو ربما قبلها أكثر من أثر أدبي ونقدي، بل خاض صراعات أدبية في فرنسا (نموذج صراعه مع ريمون بيكار المثبت في كتابه «نقد وحقيقة») قد قاد إلى ترجمة نماذج من هذه الآثار على يد مترجمين مغاربة أكفاء:

«الدرجة الصفر للكتابة» ترجمه محمد برادة، «علم الأدلة» و«س/ ز» وترجمهما محمد البكري، «درس السميولوجيا» عبد السلام بنعبد العالي، «الغرفة المضيئة» إدريس القري و«لذة النص» فؤاد الصفا.

ولم يكن أثر بارت مباشراً وحسب من حيث كونه الأستاذ الجامعي المدرس، وإنما غير مباشر في حال نقل وترجمة آثاره، علماً بأن المترجمين المغاربة لم يتفردوا بترجمته، وإنما أسهم السوريون والعراقيون والمصريون أيضاً في التعريف بآثار بارت. على أن التلقي الفاعل والمنتج كان مغربياً، حيث عُرف عن المغاربة في أكثر من محفل أدبي كونهم نقاداً وليسوا مبدعين.

يقول قبال:

«كان رولان بارت إذن، بالنسبة لجيلنا ولجيل بأكمله من الطلبة العرب، أيقونة فكرية وأدبية دامغة في المشهد الثقافي المغربي والعربي بشكل عام». (ص/ 6)

وانعكست النقلة النقدية في القراءة، الفهم والتأويل على اللغة، وكما يرى المؤلف جرى تداول معجم نقدي جديد تشكل من مفاهيم ومصطلحات لم تكن مألوفة على مستوى الخطاب النقدي، مثل: «اللذة»، «المتعة»، «النص»، «التناص»، «الخطاب العاشق»، «العلامة» و«الدلالة».

مفارقة

تتمثل المفارقة التي يثيرها الأستاذ المعطي قبال في كون بارت لم يهتم بالأدب المغربي الحديث المكتوب باللغة الفرنسية لأسماء وازنة كإدريس الشرايبي، ومحمد خير الدين ومصطفى النيسابوري، على الرغم من أن هذه الأسماء فرضت قوة حضورها داخل الوسط الأدبي بفرنسا. وبذلك فإن ما أولاه عناية الفضاء الأدبي الضيق الذي عاش فيه، والمتمثل في طلابه ومن ربطته بهم علاقة؛ مثل عبد الله بونفور، عبد الكبير الخطيبي، محمد عزيز الحبابي وزغلول مرسي. وقد يعود عدم الاهتمام إلى الحظوة التي كرسها بارت للنصوص العالمية. وأعتقد - كما يرى المؤلف - أن الخطيبي نفسه لم يحتف ببارت، كما يجدر، وإنما أولى الاهتمام لجاك دريدا. يقول المؤلف:

«لم يتسن للخطيبي الاحتفاء برولان بارت كما احتفى بجاك دريدا لما نظم بالرباط مناظرة حول (الهبة والزمن) التي كان جاء دريدا منشطها». (ص/ 65)

ومثلما لم يهتم بارت بالأدب المغربي الحديث، فإنه لم يكتب عن السنة التي أمضاها في المغرب.

ويبقى كتاب «بارت في المغرب» كتاباً توثيقياً لمرحلة في حياة علم من أعلام فرنسا في الأدب والثقافة والفكر.