الفتى حامل الطير وعنقود العنب

شاهد قبر أثري مميز من البحرين

شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
TT

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب، وفقاً لتأليف خاص، اعتُمد بشكل واسع في الفن الجنائزي الخاص بمدينة تدمر الأثرية، عروس بادية الشام ولؤلؤتها.

خرج هذا الشاهد من مقبرة أثرية تُعرَف بالمقشع، وهو اسم القرية التي تحاذيها، وتقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات. عُثر على هذا الشاهد في مطلع تسعينات القرن الماضي، خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بعثة محلية، وهو من الحجر الجيري المحلّي، طوله 36 سنتمتراً، وعرضه 16 سنتمتراً، ويتكوّن من كتلة مستطيلة مجوّفة في الوسط، تعلوها مساحة هلالية أفقية. يحدّ هذه الكتلة عمودان ناتئان يعلوهما مكعّبان يشكّلان تاجين مجرّدين من أي عناصر تزيينية. وفوق هذين التاجين، يستقر الهلال الأفقي، مشكّلاً ما يُعرف باسم قوس النصر في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي.

في وسط المساحة المجوفة، وتحت قوس النصر، تنتصب قامة آدمية، وتبدو أشبه بتمثال نصفي حوى الجزء الأعلى من الساقين، تبعاً لتقليد اعتُمد بشكل واسع في البحرين بين القرنين الأول والثاني للميلاد، في الحقبة التي أطلق المستشرقون الإغريقيون على هذه الجزيرة الخليجية اسم تايلوس. تقف هذه القامة في وضعيّة المواجهة، وتنتصب بثبات في كتلة يغلب عليها طابع الجمود والسكون. تُمثّل هذه القامة فتى يافعاً يقف بثبات، رافعاً يده اليسرى نحو أعلى الصدر، محتضناً في قبضته عصفوراً كبيراً حُدّدت معالمه بشكل مختزل. يحضر هذا الطير المجرّد في وضعية جانبية خالصة، ويتميّز بجناح وذنب طويلين ومنقار بارز، ممّا يوحي بأنه يمامة. الذراع اليمنى ملتصقة بالصدر، وهي ممدّدة عمودياً، ويظهر في قبضة يدها عنقود من العنب يتكوّن من حبات كتلويّة كبيرة متراصة.

اللباس بسيط، ويتألّف من قطعة واحدة تشابه الجلباب، يتوسّطها حزام رفيع معقود حول الخصر، وهو اللباس الذي يُعرف باسم الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي شكّلت قوة سياسية وثقافية كبيرة في إيران القديمة، بلغت العالم اليوناني ومن ثمّ العالم الروماني، غرباً وشرقاً. ثنايا هذا اللباس محدّدة بأسلوب هندسي، وتتمثّل بشبكة من الخطوط العمودية تنطبع على مساحة الصدر والساقين، وتحجب مفصل البدن، إضافة إلى شبكة صغيرة من الخطوط الأفقية تلتفّ حول الذراع اليمنى، وتشكل ثنايا الكمّ الخاص بهذا الثوب التقليدي. يعلو هذه الكتلة رأس يستقرّ فوق عنق عريضة وقصيرة. الوجه بيضاوي، ووجنتاه مكتنزتان. العينان لوزتان فارغتان، يعلوهما حاجبان عريضان. الأنف مهشّم، والأذنان محتجبتان، والثغر شفتان صغيرتان مطبقتان، يفصل بينهما شقّ بسيط. خصل الشعر محوّرة، وهي هنا على شكل سلسلة متراصة من الكتل الدائرية، تنعقد حول هامة الرأس في إطار متين يُعمّق ثبات الوجه وسموّه.

يبدو تأليف هذا الشاهد فريداً من نوعه في الفن الجنائزي الخاص بالبحرين، وتكمن هذه الفرادة في حضور العصفور وعنقود العنب بوجه خاص. في الواقع، يحاكي هذا النصب مثالاً شاع بشكل واسع في مدينة تدمر الأثرية التي تقع في بادية الشام، وتتبع حالياً محافظة حمص، في الجزء الأوسط من دولة سوريا. ازدهرت هذه المدينة قديماً وعُرفت بثرائها الكبير بفضل موقعها عند نقطة تقاطع عِدَّة طرق تجارية، وتميّزت بتعدّديتها الثقافية. اعتمدت تدمر لغة آرامية خاصة بها، كما استخدمت اللغة اليونانية في مداولاتها التجارية والسياسية، وجمعت بين ديانات عديدة، منها الديانات السامية والأديان العربية القديمة والأديان اليونانية والرومانية، وظهر هذا التمازج في فنونها المعمارية، كما في فنونها الجنائزية، حيث امتزجت الأنماط اليونانية والهلنستية والأنماط الفنية الشرقية في قالب محلّي خاص بها.

خضع النحت الجنائزي التدمري لقواعد شرقية، أبرزها وضعية المواجهة والاعتماد على الخطوط المحددة للأشخاص والمعالم. واعتمد النحات التدمري في إنجاز أعماله بشكل واسع على الحجر الكلسي الطري الذي يسهل تطويعه، وتمثّلت منحوتاته بتماثيل نصفية وألواح مستطيلة تضمّ شخصين أو أسرة جنائزية تحضر في مشهد جامع يُعرف باسم الوليمة الجنائزية، ويتمثّل بسرير جنائزي يتصدر المدفن أو جناحاً منه. نُصبت هذه المنحوتات التدمرية في المدافن حيث ثُبّتت في واجهة القبور، واتّسمت هذه الشواهد بسمات مشتركة، تجلّت في سمات الوجه الواحد الجامع، كما في أسلوب نقش ثياب بشكل تزييني غير خاضع لحركة الجسم. بدت الوجوه متجهة إلى الأمام، واتّضح أنها تتبع نماذج ثابتة، منها الوجه الأنثوي، والوجه الذكوري الملتحي، والوجه الذكوري الحليق الخاص بالكهنة، إضافة إلى الوجه الطفولي الخاص بحديثي السن. من جهة أخرى، حملت هذه الشواهد نقوشاً كتابية تذكر اسم المتوفى وسنّه وعبارة محلية تعني «وا أسفاه»،

عُثر على هذا الشاهد في مطلع تسعينات القرن الماضي خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بعثة محلية

في هذا الميدان، يحضر مثال الفتى الذي يحمل طيراً وعنقوداً من العنب، ويتكرّر بشكل واسع، والأمثلة لا تُحصى، منها شاهد محفوظ في متحف تدمر يتميّز بقمّته الهلالية، يشابه بشكل كبير الشاهد الذي خرج من مقبرة المقشع. يحتفظ متحف اللوفر بشاهد مستطيل يماثل في تكوينه هذا التأليف، ويتميّز بحضور عصفور كبير يطلّ من بين أصابع اليد التي تقبض عليه. في كل هذه الأعمال التدمرية، يحضر فتى أمرد نضر الوجه، يرتدي اللباس الفرثي التقليدي، مع حزام رفيع معقود حول الخصر. يصعب تحديد رمزية الطير وعنقود العنب، والأكيد أنها رموز أخروية ترتبط بالموت وبخلود النفس، وتتعلّق بنوع خاص بالحياة القصيرة العهد، كما تشير سن حاملها الذي رحل باكراً.

يعود هذان العنصران الرمزيان في الأصل إلى العالم اليوناني على الأرجح، اللافت أنهما يرافقان في هذا العالم فتيات صبايا، وأشهر الأمثلة نصب محفوظ في متحف الآثار الوطني في أثينا، مصدره مدينة بيرايوس الأثرية. يمثّل هذا النصب صبية تقف منتصبة، حانية ساقها اليمنى، وفقاً للجمالية الكلاسيكية الني تتجلّى كذلك في التجسيم الواقعي الحسّي الذي يسيطر على سائر عناصر الصورة. على عكس ما نرى في تدمر وفي البحرين، تحمل هذه الصبية العنقود بيدها اليسرى، وتقبض على الطير بيدها اليمنى، ويبدو هذا الطير أشبه بإوزّة.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!