الفن إبداع لا اكتشاف

هناك نوع من الغلو والتأليه للعلم في أزمنتنا

الفن إبداع لا اكتشاف
TT

الفن إبداع لا اكتشاف

الفن إبداع لا اكتشاف

ليسوا بالقلة من يرون أن الفلسفة يجب أن تكون خادمة للعلم، وأن عليها أن تصمت ما عدا طرح الأسئلة عليه لكي يجيب هو عنها. نحن نتحدث عن أناس من أذكى أذكياء العالم من أمثال ويلارد كواين ولودفيغ فتغنشتاين وفلاسفة الوضعية عموماً. ومع ذلك، فالأقرب أنهم مخطئون في هذا التقرير؛ لأن العلم بطبعه جزئي يحتاج إلى من يملك الرؤية الكلية الشاملة التي ترى اللوحة كاملة، وهذا لا يوجد إلا عند الفيلسوف المثالي. كم من عالِم يُشار إليه بالبنان، لكنه ما إن يتجاوز تخصصه المعملي أو النظري ويتفلسف، حتى يأتي بالآراء الغريبة والتصورات القاصرة. وهذا يصيبنا بصدمة؛ لأننا نتخيل أن من سار على نهج التجربة العلمية لا يمكن أن يخطئ. ونحن مخطئون في هذا.

يبدو أن هناك نوعاً من الغلو والتأليه للعلم في أزمنتنا، وهناك اندفاع كبير لتقديس جديد لما يسميه هايدغر وغادامر «طريقة التفكير الحسابي» المبني على الأرقام والريضنة. هو عظيم في اكتشاف الطبيعة، لكنه ليس بصالح للتعاطي مع الإنسان.

ولعل أكثر الناس غلوّاً في العلم هم أولئك الذين لم يقرأوا تاريخه جيداً وكيف بدأ صغيراً ممزوجاً بالخرافات، كخرافة القيثارة الفيثاغورية التي زعم أن الآلهة تعزف عليها. ثم تضخم بعد الثورة العلمية التي انتهت بموت نيوتن، ثم كيف انتهى الأمر إلى النسبية كما يطرحها توماس كون الرافض فكرة تطور العلم المطرد.

لعله من الحسن أن نتفلسف قليلاً على ثنائية العلم والفن، وأن نسلط الضوء على الفن وأن نتحسس ما يعنيه. الحياة ليست كلها علماً، بل ما أقل مساحة العلم، الطبيعي، موضوع الحديث، في حياتنا، إذا ميزنا بينه والتكنولوجيا. فالتكنولوجيا هي الآلات والأنظمة والوسائل التي تهدف إلى التجميع والتخزين ونقل الطاقة والمعلومات وليست العلم نفسه، وإنما هي التي تمد العلم بالمعدّات التجريبية.

في عالمنا العربي، هناك عدد قليل من المختصين الذين يكتبون عن ثنائية العلم والفن. الفن على درجة عالية من الأهمية، خصوصاً، عندما ننتبه إلى عميق تأثيره على الإنسان، وعلى درجة احتياجنا إليه. لعل السبب في هذا هو أننا ما زلنا لا نحترم الفن حقاً كما يستحق. مع موافقتي على أن الفن إنما هو للمتعة المجردة، إلا أن هذه المتعة في حاجة إلى تقدير أكبر. لا يليق أبداً أن ننظر إلى الفنان على أنه مجرد شخص نستأجره ليسلينا بعض الوقت.

ما أريد أن أسلّط عليه الضوء اليوم هو أن ثمة مزية للفن على العلم، قد لا تلتفت إليها النظرات العجلى؛ فالعالم الطبيعي يكتشف حقائق موضوعية موجودة من قبله. إن لم يكتشفها علماء عصرنا فسيكتشفها علماء العصور المقبلة. الحديد يتمدد بالحرارة، ولن أقول المعادن كلها تتمدد بالحرارة؛ لأننا لسنا على يقين من ألا نكتشف معدناً لا يتمدد أبداً. هذه حقيقة موضوعية، من ضمن الموضوعات الواقعية التي تتميز بصفات وعلاقات موجودة خارج الإنسان ومستقلة عنه. مع أنه من الممكن أن نتحدث عن موضوعية انعكاس الواقع عند البشر، أي يمكن أن نتكلم عن وجود مضمون موضوعي في الذهن البشري، ما دام أن هذا المضمون هو انعكاس موضوعات العالم الخارجي.

أما الفن، فلا يوجد فيه حقيقة موضوعية على الإطلاق، هو شيء ذاتي بالمرة، وهو يُخلق من لا شيء، وهو لا يكتشف شيئاً كان موجوداً قبله. عمل موزارت كله إبداع على غير مثال سابق، ولا يوجد فيه اكتشاف لكنوز كانت مدفونة؛ فالكنز هو عبقريته فقط، ولو لم يولد موزارت لحُرمنا للأبد من اثنين وعشرين عملاً أوبرالياً وواحدة وأربعين سيمفونية لم يسمع العالم مثلها قط. لو لم يوجد موزارت فهذا معناه أن فنه سيكتسب صفة العدم. العدم لا اسم ولا صفة له سوى أنه عدم، لم ولن يدخل عالم الوجود.

لو لم يولد فرنسيس فورد كوبولا لما أمكن على الإطلاق تحويل رواية ماريو بوزو «العرّاب» إلى هذه التحفة الفنية الخالدة التي تصنف على أنها أفضل عمل فني سينمائي في كل تاريخ السينما. ولو لم يولد مارلون براندو لبقي الممثلون ربما على طريقة التمثيل المسرحي القديمة التي تجبر الممثل على القيام بكثير من الحركات الجسدية التي تبدو اليوم مضحكة. تكمن عبقرية براندو في أنه صاحب فكرة «عيش الدور» بمعنى أن ينسى ذاته الحقيقية ويتقمص الشخصية فعلاً في شهور التصوير، فيخلد للنوم باكراً إن كان يتقمص شخصية رجل عجوز، ويزيد وزنه إن كانت الشخصية لرجل سمين ويعيش في السجن لفترة إن كان يمثل دور سجين. هذه الفكرة الإبداعية انتقلت إلى أجيال من الفنانين ولم تكن لتصبح حقيقة لولا براندو. لولا هؤلاء العظماء - أعني كل فنان مميز في كل حقل - لأصبح ثمة قصور في التصوير الفني للعالم.

أمر آخر قد يكون من المناسب قوله هنا، لكي يحافظ الفن على طبيعته المطلقة الإبداعية الذاتية التي لا علاقة لها باكتشاف المعارف، لا بد من إبعاده عن الآيديولوجيات. إن كان له من أهداف فهي أهداف الفنان الخاصة وما يريد إيصاله من رسائل. الفن لم يوجد لكي يتقدم بدلالات معرفية ولا لتطوير برامج تربوية ولا حتى أن يخدم الحاجات العملية للمجتمع، فالفنان، أولاً وأخيراً، وُجد لكي يكون حُرّاً في مجتمعه، لا أن يكون رسالياً من أي نوع كان. الفن شيء روحاني أو قل هو تعبير عن الروح والإرادة والإلهام والشعور، وقد يعبر عن اللاشعور والانفعالات النفسية الخاصة للفنان الفرد. هكذا هو وهكذا يحسن أن يبقى.



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.