23 لوحة لجبران خليل جبران يكشف عنها للمرة الأولى في متحفه

في اختتام مئوية كتاب «النبي» وبعد عودته من نيويورك

جانب من البورتريهات التي تعرض للمرة الأولى مقترنة بصور فوتوغرافية وشروحات
جانب من البورتريهات التي تعرض للمرة الأولى مقترنة بصور فوتوغرافية وشروحات
TT

23 لوحة لجبران خليل جبران يكشف عنها للمرة الأولى في متحفه

جانب من البورتريهات التي تعرض للمرة الأولى مقترنة بصور فوتوغرافية وشروحات
جانب من البورتريهات التي تعرض للمرة الأولى مقترنة بصور فوتوغرافية وشروحات

يأبى جوزيف جعجع، مدير متحف جبران خليل جبران، إلا أن يُبقي المعروضات متجددة، وهذا ليس بالأمر السهل، بعد مرور أكثر من 90 عاماً على وفاة الكاتب والرسام. فالأعمال المكتشفة قليلة، وقدرة المتحف على اقتناء مزيد من القطع شبه متوقفة بسبب نقص التمويل. لكن الأبحاث المتواصلة تسمح بأن يعود الزائر في كل مرة، ليرى هذا الكاتب الفذّ بحلة مختلفة.

يمكن لزوار المتحف في موقعه الجبلي الخلاب، في دير مار سركيس على إحدى قمم بلدة بشري (على ارتفاع 1550م فوق سطح البحر) المطل على وادي قاديشا السحيق أن يكتشفوا 23 لوحة جديدة لجبران، لم تُعرض من قبلُ، أُخرجت من مخازنها، لتقدم في معرض يستمر طوال هذا الصيف يحمل اسم «جبران خليل جبران ونيويورك».

يوم عاد جبران خليل جبران إلى نيويورك بعد غياب مائة سنة في معرض الأمم المتحدة 2023

بورتريهات بوجوه مجهولة

البورتريهات كانت موجودة بين مقتنيات المتحف ولوحاته الـ440، إلا أنها لم تكن تعرض؛ لأن جبران رسمها لأشخاص بقوا مجهولي الهوية، على أهمية الكثيرين منهم. غير أن احتفالات مئوية كتاب «النبي»، التي تخللها معرضان في نيويورك لجبران أحدهما في الأمم المتحدة، والثاني في «دروينغ سنتر» في منهاتن، وما سبقهما من بحث وتجميع، سمحا باكتشاف أصحاب البورتريهات وفهم العلاقة التي ربطت جبران بأصحابها، والدور الذي لعبوه في حياته.

يضم المعرض الذي يقام هذا الصيف في متحف جبران، 27 لوحة رسمت بريشة جبران، وكان قد عُرض منها سابقاً ثلاث أو أربع فقط، والباقي يكتشفه الزائر للمرة الأولى. ويضم المعرض بورتريهات لعالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ، ومؤسس البهائية الذي التقاه الفنان في نيويورك عباس أفندي المعروف باسم عبد البهاء، والشاعر الهندي الشهير طاغور، والرسام الأميركي ألبرت ريدر، والشاعرة الأميركية ليونورا سبير، والفنانة الأميركية سيسيليا بو، والكاتب النرويجي جوهان بوجر، وآخرين.

تعرض البورتريهات مقترنة بصور فوتوغرافية لأصحابها مع شروحات حول العلاقة التي ربطت جبران بكل شخصية من الشخصيات، ويخبرنا مدير المتحف أن البحث متواصل لتقديم مزيد من البورتريهات التي رسمها جبران لشخصيات التقاها الشاعر، في الشارع العاشر في نيويورك، في ذلك الاستوديو الذي عاش فيه وحده، في «غرين ويتش فيليدج». هناك زاره فنانون وأدباء، وربطته ببعضهم عرى صداقة وثيقة. المبنى الأصلي هدم، وأقيم مكانه مبنى آخر، لكن أصحاب المكان يعرفون أن كاتباً شهيراً كان يقيم هنا. والزائر، يمكنه اكتشاف الأجواء التي عاش فيها جبران والمحيط الذي استقبل به ضيوفه، من كبار الفنانين والأدباء وحرص على رسمهم، واحتفظ بهذه الرسومات. فقد كان جبران يرغب في أن يجمع البورتريهات في كتاب، لكن يبدو أن الوقت لم يسعفه في إكمال مشروعه. والشارع العاشر، كان مكاناً يعج بالفنانين، ومقصداً لمن يزور نيويورك من المبدعين، يوم كانت المدينة في عزّ زهوها وتألقها، بدءاً من عام 1910، هناك التقى جبران بمئات الشعراء والروائيين والفنانين، من بين هؤلاء عبد البهاء، مؤسس البهائية، وكان ذلك عبر مسز تومسون السيدة الأميركية التي أخذت على عاتقها نشر البهائية في شرق أميركا، وكانت صديقة وجارة لجبران. وقد زار الرجل جبران، الذي رسمه وترك لنا البورتريه المعروض في متحفه اليوم. يحدثنا مدير المتحف جوزيف جعجع عن تأثر جبران بالبهائية، وعن النقاشات التي دارت بينه وبينهم، لكن ينفي أن يكون جبران بهائياً. «من غير الممكن أن ندرج جبران في خانة محددة، هو كان متأثراً بتيارات عدة، فقد تأثر بالصوفية والبهائية والكونفوشيوسية والبوذية، والمسيحية بطبيعة الحال، لكنه لم يكن مارونياً ملتزماً أيضاً. كان جبران يحلق فوق كل هذه المفاهيم والمعتقدات».

إخراج الكنوز من مخابئها

لكن لماذا إخراج هذه البورتريهات الآن، وتسليط الضوء عليها ما دام أنها كانت موجودة؟ ولماذا لم يتم التحدث عنها، أو عرضها وإبرازها، سابقاً؟ «كانت اللوحات في حوزتنا، لكن القليل منها عرفنا أصحابها، إما لأن جبران تحدث عنهم، وإما قرأنا عن لقائه بهم، أو شاهدنا صوراً لهم من قبل، وأمكننا مطابقتها. أما غالبية اللوحات في حوزتنا، فلم نكن نعرف أصحابها أو قصتها، إلى أن حانت مئوية كتاب «النبي»، ونظمنا معرضين في أميركا، وهناك اكتشفنا أموراً كثيرة، من بينها هؤلاء الذين نملك بورتريهاتهم الجبرانية».

في أبريل (نيسان) من عام 2023 أقيم معرض لجبران في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وسافرت لوحات كثيرة لجبران ودفاتر ومقتنيات، ومخطوطات من بشري إلى هناك، وكان للمعرض صدى كبير. وفي فترة لاحقة أقام «دروينغ سنتر» في منهاتن معرضاً آخر لجبران، احتاج تنظيمه سنتين من البحث والتحري لتجميع المقتنيات اللازمة للعرض وقد بلغت 115 قطعة، وهذا ليس بقليل. وإن كان جزءاً من المعروضات قد جاء من متحف جبران من بشري فإن الجزء الآخر، وهو الأغلب، تم تجميعه من مقتنيات خاصة، ومتاحف أميركية. وقد جاءت هذه القطع من متحف «متروبوليتان»، ومن متحف «فوغ» في جامعة هارفارد، ومتحف «فاين آرت» في بوسطن، إضافة إلى مجموعات خاصة لمقتنين لبنانيين وعرب. بعض هذه المعروضات لم يكن مدير المتحف يعرف بوجودها، وتمكن «دروينغ سنتر» من العثور عليها وعرضها، ومن أهمها شجرة عائلة جبران، ونظام الرابطة القلمية الداخلي المكتوب باللغة العربية. وسافرت من لبنان لوحتان من متحف «نابو» وأخريان من غاليري «صالح بركات»، لينضم كل ذلك إلى المعرض. هناك يقول جعجع: «عاد جبران إلى نيويورك والتقى بأوراقه ومقتنياته ولوحاته في هذه المكان، وبقيت المعروضات ثلاثة أشهر، ونظراً للإقبال الكبير، امتد المعرض شهراً إضافياً». هكذا بقي المعرض من يونيو (حزيران) 2023 حتى سبتمبر (أيلول)، قبل أن تعود المقتنيات إلى أصحابها، وما لمتحف جبران إلى بشري.

لكنّ الأمر لم ينته هنا. فقد عرف جعجع الكثير عن جبران، خلال هذه التجربة الغنية. حيث استطاع أن يكتشف بعض الشخصيات التي تنام بورتريهاتها في مستودعات متحف بشري، وأي علاقة ربطت جبران بها أثناء إقامته في نيويورك، ويقول جعجع لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 25 سنة وأنا أطارد تفاصيل حياة جبران، ولا أزال أكتشف جديداً. هذه المرة خلال رحلتي إلى أميركا لمواكبة المعرضين، قررت أن أذهب لأكتشف بنفسي الأماكن التي عاش فيها. لقد سميت هذه الرحلة (على خطى جبران)». ثمار الرحلة يعمل على تسجيلها جعجع حالياً لتنشر، ولتوضع في متناول عشاق صاحب «النبي». لكن ما أخبرنا به مدير المتحف أنه إضافة إلى زيارة موقع منزل جبران ومرسمه في نيويورك، زار منزل أخت جبران مريانا الذي بقيت فيه حتى مماتها، أي عام 1973 في تايلور ستريت، في بوسطن. أهميته أنه منزل العائلة الذي أقام فيه طويلاً جبران نفسه، وحتى حين انتقل إلى نيويورك كان يعود إلى هذا البيت في عطلة نهاية الأسبوع أو في عطلات الأعياد، ويزور أخته مريانا، ويقيم هنا.

80 لوحة نقلت إلى المكسيك

منزل العائلة هذا، موجود في الحي الصيني، صاحبه صيني كما المستأجر الذي يقطنه حالياً أيضاً. كما تمكن جعجع من زيارة الأماكن التي كان يرتادها جبران، وساحة كوبلي سكوير التي وضعت عليها لائحة تحمل اسم جبران، وأنه مرّ من هنا. وبقيت لدى مريانا في المنزل العائلي في بوسطن 80 لوحة، بعد أن نقلت ماري هاسكل مقتنيات جبران ولوحاته إثر وفاته إلى لبنان. هذه اللوحات أصبحت بعد وفاتها ملكاً لقريبهم خليل جبران الموجود في أميركا، ومن ثم بيعت إلى كارلوس سليم، وأصبحت بذلك موجودة في متحف سمية في ضواحي مكسيكو سيتي في المكسيك. وضمن هذه المجموعة، عصا جبران التي كان يتكئ عليها في سنواته الأخيرة، كما مخطوطات، وقبعة وملابس لجبران.

لكن يكشف لنا مدير المتحف أن من بين المقتنيات الموجودة في الخزائن ونادراً ما تعرض في بشري، ساعة جبران التي كان يعلقها في رقبته، وأربع سجائر لم يعد يظهر عليها اسم، بسبب مرور الوقت، فقد كان جبران مدخناً كبيراً.

ويبدأ المتحف أيضاً رحلة بحث في مكتبة جبران الخاصة، التي تضم المؤلفات التي قرأها واقتناها بنفسه أو أهديت له.

وتمكن المتحف بفضل منحة بلغارية، من تعقيم هذه الكتب، التي يمنع لمسها، بآلة خاصة، ووضعت بعض صفحاتها المهمة، مثل صفحات الإهداء الأولى مثلاً على «آي باد»، وبات بمقدور الزائر تقليبها. ويتواصل العمل على المكتبة، لتعميق المعرفة بشخصية جبران من خلال قراءاته، والمؤلفات التي تفاعل معها.



الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

دانيال دينيكولا
دانيال دينيكولا
TT

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

دانيال دينيكولا
دانيال دينيكولا

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة. وفي الحكاية، فإن الجهل مثل مجموعة من البشر تقطن في ظلام كهف تحت الأرض، مقيدة من الساقين والرقبة حتى تتعذر عليهم الحركة حتى لإدارة رؤوسهم، ولا تتوفر لديهم ذاكرة أخرى للحياة؛ لأنهم سُجنوا بهذه الطريقة منذ الطفولة. أمامهم، لا يرون سوى الظلال المتحركة التي تُلقيها أشياء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلاطون أنها تقع في مكانٍ ما خلفهم لا يمكنهم رؤيته. هذه المجموعة من البشر التعساء لا تعرف شيئاً عن هذا العالم سوى تلك الظلال، ولا تسمع سوى أصداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم.

«الجهل» في هذا التمثيل المروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن، وأبشع من العبودية، وأقرب إلى الموت، فيقول، مستعيراً من «الأوديسة» لهوميروس عند إشارته إلى الموتى الذين يقطنون في جحيم الآخرة، حيث يظلّ «من الأفضل أن تكون خادماً متواضعاً لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدلاً من أن تعيش وترى ما يرون». وبينما نتأمل هذا المأزق الأفلاطونيّ المحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفي الصورة هنا حجز الحركة الجسديّة - يحصر عالم تجربة البشر في لُجة الجهل العميق، ويمنع عنهم خوض تجارب جديدة تتيح لهم التعلم وتفتح أمامهم آفاقاً مغايرة لما عهدوه، فيعجزون عن فهم الأشياء، أو الانشغال بأمور ذات قيمة، أو تذوق أي قيمة من قيم الجمال. إن الجهل يبدو، وفق أفلاطون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، لا يدركون ولا يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم التي فيها يرزحون، إذ سيؤمنون في كل وقت بأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلال المتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجاً من خيالات مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم.

كهف أفلاطون بالطبع محض خيال، وسرعان ما يشعر قارئ «الجمهوريّة» بالامتنان، لبُعدنا عن ذلك المكان القاسي والخانق بسجنائه المساكين، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريباً، يأتي بيان أفلاطون الصارخ والمخيف: «إنهم مثلنا، وتلك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديداً ينطلق دانيال دينيكولا، أستاذ الفلسفة في كلية جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا، في كتابه الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد لا نعرفه*»، في رحلة لاكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في المعرفة.

يأتي هذا الكتاب في وقت من تاريخ العالم يُعرَف بعصر المعلومات، حيث لم تعد المعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول الأكثرية، كما ظلّت عبر آلاف السنين، ومع ذلك يرى دينيكولا أننا قد لا نكون في كثير من الأحايين على دراية كافية، ناهيك عن تفشي المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والتعامي الاختياريّ، والأخبار المزيفة.

يبدو هدف دينيكولا هنا أبعد من تقديم مطارحة فلسفيّة في الأبستمولوجيا (علم المعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على الأقل، أن يُبقي الجدل قريباً من خبرة القارئ غير المتخصص، فيبدّد من أمامه المفاهيم الخاطئة الشائعة فيما يتعلق بظاهرة الجهل بوصفه أكثر من مجرد نقص أو غياب للمعلومات، بل نتاج تفاعلات ديناميكية ومعقدة مع المعرفة، مستعيداً التمييز - الشهير الآن بفضل خطاب لدونالد رامسفيلد (وزير دفاع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش) - بين معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكذلك معلوم مجهول، مستعيناً باستعارات مجازية لمقاربة الجهل: بصفته مكاناً، وحدوداً، وسدّاً، وتوجهاً.

يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلاطون - حيث الجهلة لا يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لفت انتباههم إلى ما سواه فيحسبونه مُهَرطِقاً أو ضحية نظرية مؤامرة عليهم، مقابل فردوس «دانتي» مثلاً، نقيض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي.

الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن

أيضاً يمكن تصوّر الجهل بوصفه حدوداً فاصلة تُوقف تمدد معرفتنا، سواء الفرديّة أم الجماعيّة، لكن المساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والحدود نفسها ليست نهائيّة، ويمكن دائماً تحريكها من خلال التعلّم، لكن المسافة التي يمكن لبشريٍّ قطعها يومياً في استكشاف المعرفة؛ دونها سقوف، إذ لو قرأ المرء كتاباً في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.

يمكن فهم الجهل كذلك بوصفه سداً نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب ألا نعرف شيئاً، لاعتقادنا أنّه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو لأنه لا يتناسب مع يقينياتنا الأيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة.

وأخيراً، تخلق هذه الأماكن/ الحالات التي نخلد إليها، والحدود التي نقف أمامها، والسدود التي نختار تعليتها ما يمكن عدُّه أفقاً وتوجهاً لمقاربة الإنسان - والمجتمع - أيضاً علاقته بالعالم.

ومع توضيحه أشكال الجهل، يستعرض دينيكولا عدداً من مظاهره في مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح أيضاً تناقضات أخلاقية تتعلق به، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضاً أن بناء الثقة يتطلب أحياناً تقبُّل درجة معينة من الجهل، ثم يقترح منهجيات ممكنة لإدارة جهلنا من خلال الفضول، والسعي للمعرفة، وإلزامية التعليم، وتوظيف علوم الإحصاء والاحتمالات، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعيّة من خلال الوعود، والعقود، والاتفاقيات، والالتزامات المتبادلة.

ولعلَّ أثمن ما ينتهي إليه دينيكولا في محاولته هذه القبض على الجهل هو تحذيره من الهدر على المستويين الفردي والجماعيّ الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل مكوناً من التوجه الأيديولوجيّ، ومن ثمّ زعمه أن «الاعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد لا ندرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلى مجال معرفي يسمح لنا بأن ندَع عنّا المعارف الخاطئة، ونقلل مساحة جهلنا العنيد بطلب المعارف؛ ولو بتعب وألم يرافق عملية التعلم».