«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

فاضل خضير يتناول مأساته في رواية تأخرت كثيراً

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم
TT

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

«جيل 68» العراقي الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم

ربما تأخر صدور روية فاضل خضير «الضحايا» (دار سطور، بغداد) كثيراً إلا أنّ كتابتها تعدُّ درساً خاصاً في مراجعة القطوعات التاريخية في العراق الحديث، مهما ابتعد السرد عن زمن حدوثها؛ بل إن جيل الشخصيات في هذه الرواية (جيل 68) ما زال حيّاً، يتظلّم من غدر التاريخ له، لذا تصحّ تسميته بجيل «الضحايا».

كذلك، تأخرّت الإشارة لأفراد هذا الجيل، حتى منتصف الرواية، عندما وردت ملحوظة عنهم في حوار مطول بين الصديقين سعيد وفؤاد (حول انشقاق الحزب الشيوعي) (ص 209 - 219). وما الرواية إلا مواكبة قريبة لوجوه منزوية تكاد الأيام تسلب منها الحقّ في التمثيل والاعتراف بدورها في صناعة «فاصل 68» الخطير (كان هذا الفاصل مقطعاً من سلسلة مقاطع تاريخية عَشْرية اتّسمت بالعنف الآيديولوجي والتصفيات السياسية للخصوم).

صدرت روايات مماثلة عن «فاصل 68» في فترات زمنية متباعدة (رواية «ممر إلى الضفة الأخرى» لأحمد الباقري 2007، ورواية «الحلم العظيم» لأحمد خلف 2009، إضافة لرواية حيدر حيدر الشهيرة «وليمة لأعشاب البحر» 1983). غير أن تأخّر «الضحايا» عن الالتحاق بهذا الرتل الاسترجاعي لذاكرة 68، سمَحَ لكاتبها فاضل خضير أن يؤسس لرؤية تتجاوز الذات الفردية المحبَطة، وتتدخّل في فرز مجموعة من الذوات والأصوات المتناصّة مع فاصلها، مُنمذَجة في ثلاث فئات رئيسية:

- فئة الماركسيين التقليديين.

- فئة الماركسيين المنشقّين.

- فئة الوجوديين السارتريين.

إضافة إلى شخصيات ثانوية، أهمها تاجر من أنصار العهد الملكي، وابنته البكماء، إضافة إلى ناصر حارس عمارة اسمه ناصر. برع الروائي فاضل خضير في رسم السمات المشخِّصة لكل فئة، حيث انفردت الفئة الثانية في معارضة سلطة 68 الشمولية بخوضها تجربة «الكفاح المسلح»، بينما انحاز صوته الممثل بشخصية «سعيد» إلى أفراد الفئة الثالثة، وأبرزهم «فؤاد» الذي تميز بوعي مفارق وحساس، وكانت صداقتهما محركاً لمحور التضحية الذي شمل الجميع بتوتره وتذبذبه يساراً ويميناً. ويندفع رجال الفاصل المحبَطون للارتباط الجنسي بنساء تميزن بقسمات فردية طاغية، أهمهن «عذراء» صديقة الراوي «سعيد». يسيطر القلق والانكسار على علاقات الحب في الرواية، وتتصدع تبعاً لفشل الحركة الثورية في الأهوار، ومطاردة السلطات الأمنية لأبرز شخصياتها «حامد».

كان الجوع للجسد موازياً لاستنفار الوعي وتطرفه الثوري، يحاول الراوي الارتقاء بهما إلى مستوى التجانس العاطفي والانسجام الفكري. وفي هذا الوسط المتنافر في الرأي والممارسة السياسية، ينسب الراوي لنفسه دور كاتب المسرح، المنشغل بكتابة نص مسرحي غير مكتمل، بغية تحقيق قدر من التجانس الذاتي، لكنه يستعين بطالبة اللذة (عذراء) كي تشاركه أدوار النص، فينتهى بهما المطاف للفشل في رسم خاتمة حاسمة للرواية والنص المسرحي معاً. ترتاد علاقة الراوي (سعيد) بعذراء تجارب الآخرين العاطفية (حميد وعشيقته الخلاسية) و(فؤاد وزوجة الرجل المعاق) النظيرة لتجارب الروايات الوجودية الشهيرة (دروب الحرية، والجحيم، والمحاكمة).

ما يفرّق الصوت الثاني في الرواية (فؤاد) عن مجموعة الأصوات المنمذَجة انشغاله بمسألة الانتماء الشائكة، والمسائل الأخرى المرتبطة بها، كالتضحية والصداقة والخيانة والكتابة، وما يصاحبها من قلق وعبث ورعب وانهيار واختفاء. (يفسر فؤاد رغبة حميد في السكن مع سعيد في شقة شبه مظلمة، فيعدُّ الظلام من المداخل الجديدة التي تطنّ في أروقة الخيال الضبابي لمعتقد حميد. ثم يثنّي تفسيره في موقع آخر من الرواية، فيعدُّ مساكنة الظلام لعبة محيرة وانقلاباً، يثأر بهما حميد من الآخرين كما ثأر هملت من عمّه).

اهتم الروائي باختيار مواقع الأحداث والعلاقات الثنائية، ولم تبتعد هذه كثيراً عن الموقع المميز لـ«فاصل 68» (مقهى المعقدين) الذي جمع الفئات الثلاث في إهابه المتموج كخلية نحل، فكان كما وصفه الراوي «كشكول العالم المتحضر»، الذي يُملي على رواده نمطاً من الاختلاف والهيمنة، وجواً صاخباً بالحوارات الفكرية والسياسية (لعل أهم حادث سياسي في الرواية كان اجتماع مثقفي المقهى لتشييع جثمان عبد الله المستشهد في إحدى عمليات المقاومة الفلسطينية. وتفتقر الرواية لمشاهد بقوة استرجاع هذا المشهد، إضافة إلى مشهد تعذيب حميد؛ بل إن الفصل الخاص بالتحاق حامد وصديقه جاسم بثوار الأهوار كان مسهباً وفاتراً بما حواه من معلومات متداولة على الألسُن).

يحشر الروائي شخصيته الضمنية بين شخصيات الرواية بالتساوي والقسطاس التحليلي المتناوب، ويفرط في استعمال مسباره المتشكك للتغلغل في النفسيات والضمائر المنطوية على انكسارها السياسي (حميد المنهار في التحقيق مثلاً)، قبل أن يتحول للتكلم بضميره الشخصي، فيفتتح الفصل التاسع فجأة بصوته اللصيق بالجدران والطرق المتفرعة والدخيل على الغرف السرية للفنادق والعمارات (أهمها غرفة البوّاب ناصر في العمارة التي التقى فيها عذراء أول لقاء). سيتدخل الصوت الشخصي للراوي في خصوصيات كثيرة، ويحكم على «ضحايا» الفاصل التاريخي بعبارات قاطعة، حاذقة ومصطنَعة أحياناً. وستهتز بنية السرد الموضوعي بلغة مقصودة وحادة. ونشير فيما يلي إلى بعض هذه العبارات، دالّين بها على التوسع والاستطراد والحكم المفتعل على الأشخاص والمواقف:

- «وأول ما جال في ذهنه، البحث عن تقريع لهذه الصلادة الشائكة» (ص 5).

- «هذه الأجواء، خلقت في نفس سعيد تمازجاً بين موضوعية سائدة محببة وبين رحيل غابر نكد، معللاً بجروح عميقة من الإحباطات» (ص 39).

- «فؤاد يحاول أن يتصيد شرائد هذه الذات المفجوعة» (ص 94).

- «القلق وعد ملازم وحتمي، بل ملتحم بمادة الفكر» (ص 222).

- «دخنت سيجارتي، فبان في الخيال وأنا أتلذذ في خدر الدخان آثار عشقي الرضيع إلى عذراء» (ص 358)... إلخ.

تتوازى البنية الحوارية لرواية «الضحايا» مع البنى السردية الأخرى كالمونولوج الذاتي بل يطغى عليها أحياناً

كانت العلاقة الحميمة للراوي (سعيد) بعشيقته وأصدقائه المقربين شاقة ومهلِكة لطاقته في التحليل والكشف عن الخبايا النفسية والفكرية لسِيَرهم المضطربة، فانعكس التوتر والاضطراب على لغته وأحكامه وحواره مع أغلبهم؛ بل كان الحوار الأسلوب الأمثل لالتقاطهم من وحدتهم وتخبطهم في أكثر من سبيل. وتتوازى البنية الحوارية لرواية «الضحايا» مع البنى السردية الأخرى كالمونولوج الذاتي، بل يطغى عليها أحياناً وينافسها في الكشف عن الميول اللا واعية الغريبة للشخصيات الرجالية والنسائية. ولم يكن الراوي أقل من هؤلاء تحفزاً للحديث الذاتي ومحاورة الآخرين، مقتبساً أفكاراً وآراء طبعت أمزجتهم بما قرأوه عن شخصيات أدبية مأزومة. ولا شك في أن الحوار هو الحافز الأقوى لبناء المواقف في أشهر روايات القرن العشرين الوجودية والتراجيدية، فكان الإفراط في إنطاق «الضحايا» أسلوباً تبريرياً، مكملاً لأقوى الأبنية الحوارية لروايات ذلك الفاصل وما قبله (وأحسَبُ منطوقات رواية (خمسة أصوات) لغائب فرمان النوعَ الحواري الأساس لبناء خطابات حوارية تالية لها). أما في رواية «الضحايا» فقد كان الحوار تعويضاً درامياً عن المأساة الشاملة، وتمثيلاً لتلاطم الأفكار وتبعثر المبادئ والأهواء إزاء القمع الفاشي لسلطة 68.

مقابل الحوارات المطولة، تتوزع مقاطع مونولوجية مفرِطة في الدفع الذاتي والاعتراف اللا واعي. وكان الراوي (سعيد) محشوراً في أحشاء الفاصل المضطرب، مثل جنين يضغط بلغته الجامحة جدران البطن الكبير، ناشداً الخروج لممارسة دوره المسرحي غير المكتمل (لم يُفرِد الراوي لشخصية مخرج المسرحية - المفترَض- موقعاً مستحقاً بين الشخصيات الأخرى، فكانت أكثرها انزواءً وغموضاً وحرماناً من الاهتمام والمحاورة، ولم يُشَر إليه إلا من خلال رسالة مطولة في نهاية الرواية). وليس «المخرِج» وحده من أفلت الراوي زمام السيطرة على سيرورة بقائه في مركز الضوء، فقد غاب البوّاب ناصر من العرض، وربما ظلت النهايات ناقصة، شأنها شأن «جيل 68» الذي لم يكتمل ضياعه حتى اليوم. (وستظل النهايات الناقصة شعوراً دفيناً في أعماق ضحايا ذلك الجيل، وتقنية شاخصة تتسلط على روايات أجيال المفاصل العَشرية اللاحقة).

* قاص وكاتب عراقي


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.