شعراء الحب الجسدي في الجاهلية

إعلاؤهم للمتع الحسية أملته ظروفهم الاجتماعية وضغوط حياتهم القاسية

صورة متخيلة لامرىء القيس
صورة متخيلة لامرىء القيس
TT

شعراء الحب الجسدي في الجاهلية

صورة متخيلة لامرىء القيس
صورة متخيلة لامرىء القيس

إذا كان للعرب الجاهليين من الأسباب والدوافع وظروف الحياة، ما يجعلهم يرون في المرأة الملاذ الذي يوفر لهم سبل الطمأنينة والبهجة، والماء الذي يعصمهم من الظمأ، فإن نظرتهم إلى الحب وتعبيراته العاطفية والحسية لم تنشأ في فراغ التصورات، بل أملتها عوامل مختلفة بينها علاقتهم الملتبسة بالغيب، وشحّ المصادر المولدة للمتعة في عالمهم المحكوم بالقسوة والشظف والتنازع على البقاء، وصولاً إلى تقاليد القبيلة وأعرافها ونظام قيمها الجمعي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المعتقدات والأديان السماوية لم تكن غائبة تماماً عن أذهان الجاهليين، كما هو حال اليهودية والنصرانية والحنفية التي لفحت حياتهم ببعض النسائم الروحية والإيمانية، فإن من غير الجائز أن ننظر إلى تلك الحقبة بوصفها موازية للتحلل الأخلاقي الغرائزي، دون أن نغض النظر بالمقابل عن نزوع الجاهليين إلى «جسدنة» العالم وتسييله في المرئيات، لمعرفته بشكل أفضل.

كما أن الحديث عن الحب في إطار من الثنائية المانوية بين الجسد والروح، هو مجافاة للحقيقة الموزعة بين خانات كثيرة، وللطبيعة البشرية التي يتصارع داخلها الكثير من الميول والنوازع. ففي أعماق كل حب شهواني ثمة رسائل قادمة من جهة الروح، وفي كل حب متعفف ثمة توق جارف لمعانقة الآخر المعشوق واحتضانه وملامسة وجوده المادي. ومع أن أحداً لا ينكر التباين القائم بين طبيعتي الحب الحسية والروحية، إلا أنه تباين في الدرجات والنِّسب وليس في المطلق. صحيح أن هاجس اللذة، وفق ابن الدباغ، يلاحق النفوس على اختلافها، ولكن لكل واحدة من هذه النفوس مفهومها الخاص للذة، فضلاً عن أن النفس تتدرج في مستويات شغفها بالآخر، فهي إذ تمعن بداية في الشهوات البدنية ثم «تتوجه إلى حب اللذات الروحانية ويصير حبها للصفات المعنوية أكثر كمالاً».

طرفة بن العبد (رسم تخيلي)

وإذا كان الجاهليون على نحو عام قد أولوا المرأة عنايةً خاصةً في شعرهم وحياتهم، فهم أظهروا، شأن البشر منذ أقدم العصور، انقساماً واضحاً بين من رفعوا راية التعفف والانقطاع لامرأة واحدة، كما فعل عبد الله بن عجلان وعنترة والمرقّشان الأكبر والأصغر، ومن رفعوا راية الحواس وجنحوا إلى تعدد العلاقات، وأسرفوا في نشدان المتع المبهجة التي يوفرها الجسد الأنثوي، كما كان حال امرئ القيس والأعشى والمنخل اليشكري، دون أن نغفل الرؤية الوجودية العميقة لطرفة بن العبد، الذي لم يجد وسيلة لإبعاد مخاوفه المؤرقة، أفضل من امرأة سمينة يختلي بها في الظلام الممطر.

ولسنا نجافي الحقيقة بشيء إذا اعتبرنا امرأ القيس أحد أكثر الشعراء الجاهليين احتفاء بالمرأة والحياة. وهي ميزة لا تعود أسبابها إلى تكوينه الشخصي وحده، بل أملاها وضعه الاجتماعي المترف، كابن ملك مقتدر، بما يسّر له سبل الانصراف إلى نشدان اللذة وإغواء النساء، بكافة أشكالهن ومواقعهن وأنماط عيشهن. كما أن الفترة القاسية التي أعقبت مقتل أبيه المأساوي، ومحاولاته المضنية للثأرمن القتلة واستعادة ملْكه، لم تقلل من تعلقه بالمرأة، التي رأى فيها الظهير المترع بالرقة الذي يخفف عنه شعوره بالوحشة والخذلان.

ومع أن افتتاحية معلقة الملك الضليل لا تعكس من مشاعره سوى وقوفه الحزين على أطلال فراديسه المنقضية، فإن رغباته الشهوانية الجامحة سرعان ما تكشف عن نفسها في متون المعلقة نفسها، حيث لا يكتفي الشاعر بالكشف عن طرق استدراجه لامرأته المعشوقة، بل عن ميله الملح إلى العلاقات القصيرة والمتعددة. وهو إذ يُظهر خبرة عميقة بطباع النساء، لا يتردد في سرد مغامراته على مسامع حبيباته العديدات، مذكياً نيران الغيرة في دواخلهن، كما فعل مع عنيزة التي لم تكد تبدي القليل من التذمر، بعد أن عقر بعيره ليشاطرها الهودج الضيق، حتى أخذ يتباهى أمامها بمغامراته المتهورة مع النساء الأخريات:

وبيضةِ خدْرٍ لا يُرام خباؤها

تمتعتُ من لهوٍ بها غير مُعجَلِ

فجئتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابها

لدى الستر إلا لبْسة المتفضّلِ

فقالت يمينُ الله ما لكَ حيلةٌ

وما أن أرى عنك العمايةَ تنجلي

اللافت أن مملكة امرئ القيس النسائية، لم تكن تقتصر على اثنتين أو ثلاث من النساء، بل تخطت طموحاته هذا العدد بكثير، كما يظهر في سيرته وشعره. وقد عمل بعض النقاد على تعقب النساء اللواتي وردت أسماؤهن في ديوانه، فأحصوا من بينهن أسماء هند وسليمى وماوية وهرّ وفرْتنا وفاطمة وهريرة وليلى وسمية وجُبيْرة وسلمى وأم الحارث وأم الرباب.

الملاحظ أن العديد من الشعراء الجاهليين لم يولوا أهمية تُذكر للأعراف الاجتماعية والأخلاقية، الأمر الذي يفسر تفضيل بعضهم للمرأة المتزوجة على ما عداها من النساء. كأنهم كانوا يجدون في العلاقة المحرمة متعة إضافية لا توازيها المتع السهلة والمشروعة. وهذا النزوع إلى هتك القيم والأعراف السائدة، لم يقتصر على امرئ القيس وحده، بل يكشف عنه الأعشى في العديد من قصائده، ويتحدث في إحداها عن تتبعه المضني لزوج معشوقته الغيور، حتى إذا آنس منه غفلة مؤاتية، أسرع في الحصول على مبتغاه، دون أن يجد حرجاً في تشبيه تلك المعشوقة بالشاة التي غفلت عنها عين الراعي:

فظللتُ أرعاها وظلّ يحوطها

حتى دنوتُ إذ الظلامُ دنا لها

فرميتُ غفلة عينهِ عن شاته

فأصبتُ حبةَ قلبها وطحالّها

حفظَ النهارَ وبات عنها غافلاً

فخلَتْ لصاحب لذةٍ وخلا لها

أما النابغة الذبياني فلم تمنعه سطوة النعمان بن المنذر، من أن ينظم في زوجته الفاتنة قصيدة إباحية يعرض فيها لتفاصيل جسدها العاري، بعد أن سقط ثوبها عنها دون قصد، كما يشير الشاعر، أو بقصد ماكر كما يظهر من شغفها المفرط بالرجال. وإذ أثار تشبيب النابغة بالمرأة شبه العارية، حفيظة النعمان وغضبه الشديد، عمد الشاعر المرتعد خوفاً إلى الفرار بعيداً عن هلاكه المحتوم، قبل أن يستعيد رضا الملك في وقت لاحق. ولا بد لمن يتتبع أبيات القصيدة من الشعور بأنه إزاء رسام بارع يجمع بين التقصي النفسي لأحوال المرأة الماكرة، وبين الوصف التفصيلي لمفاتنها الجسدية.

وإذ افتتن المنخّل اليشكري بدوره بجمال زوجة النعمان، فإن الشاعر المعروف بوسامته، لم يذهب بعيداً في الكشف عن مواصفاتها الجسدية والجمالية، لا بسبب تعففه واحتشامه، بل لأن علاقته الفعلية بالمتجردة جعلته ينصرف عن التغزل النظري بمفاتن خليلته، ليروي وقائع المغامرة الأكثر خطورةً التي قادته إلى حتفه المأساوي.

ولا أستطيع أن أختم هذه المقاربة دون الإشارة إلى نقطتين اثنتين، تتعلق أولاهما بما ذهب إليه الناقد المصري أحمد الحوفي، من أن الغزل الفاحش هو نبتٌ أجنبيٌّ تمّ نقله من الحبشة إلى اليمن وصولاً إلى مناطق الشمال، مدعياً أن الغزل المكشوف لا يمت بصلة إلى أخلاقيات العرب وقينهم وسلوكياتهم المحافظة. وهو تحليل مستهجن ومردود، ليس فقط لأنه يتعارض مع المكونات المشتركة للنفس الإنسانية التي تتشابك في داخلها ثنائيات الجسد والروح، العفة والتشهي، الرذيلة والفضيلة، بل لأنه يعكس بشكل جلي موقفاً إثنياً متعسفاً من الآخر، بوصفه مصدراً للفحش والنزوع الإباحي، مقابل تبرئة الذات الجمعية، أو تقليل حصتها من الدنس.

أما النقطة الثانية فتتمثل في إعادة التأكيد على أن اللبنات الأولى لشعرية المتعة الحسية والعشق الجسدي عند العرب، قد تم تأسيسها في الحقبة الجاهلية بالذات، بحيث تتعذر قراءة عمر بن أبي ربيعة وسحيْم والأحوص والعرجي، إلا في ضوء ما أسس له امرؤ القيس والنابغة والأعشى والمنخل اليشكري وآخرون غيرهم. وهو أمر ينسحب على الحب العفيف أو العذري بالقدر ذاته.


مقالات ذات صلة

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

ثقافة وفنون إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إن الكاتب العظيم الذي يعيش معزولاً ليس له سوى أن ينتظر الساعة التي يُرسل فيها إلى القبر.

حسونة المصباحي
ثقافة وفنون تشومسكي

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة ....

ندى حطيط
ثقافة وفنون أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب.

أمين صالح
ثقافة وفنون غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار .....

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

شواهد قبور أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية.

محمود الزيباوي

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً
TT

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخاً مخادعاً

تميّز عمل أحمد زين في رواياته الخمس بجهد كيفي يتطلّع إلى الإتقان المُرتجَى، برهن على أن الرواية من الراوي، وأنها من دون اجتهاده المتراكم حكايات مألوفة المحتوى فقيرة الأشكال، جاء تميّزه من منظور روائي بصير، يستولد الشكل من موضوعه، ويشتق الأخير من تاريخ يمني معيش زامَله الأمل فترة، وصدمه إخفاق غير منتظر في فترة لاحقة، التبس بالفجيعة.

قرأ، حال كل روائي بصير، تطوّر اليمن من زمن الاستقلال الوطني إلى تداعيه وسيطرة أسياد الظلام، ألزمَته تلك القراءة، المستمَدة من وطن يستيقظ ويكبو اقتفاءَ ما كان منتظراً، وحاصَره عثار متقادم ومتجدّد عاينه، بجرأة يُداخلها الشجن في روايته «ستيمر بوينت»، وأضاء وجوهه بنظر دامع في «فاكهة الغربان»، قبل أن يرثي وطناً افتُقد ولن يعود كما كان، في عمله الأخير «رماية ليلية» (منشورات المتوسط 2024).

حمل أحمد زين أوجاع يمني اغترب عما كان، واغترب بدوره وهو يكتب، عن «وطنه القديم»، دفع، في حالين، بالاغتراب إلى حدوده القصوى؛ ذلك أن الاغتراب، في حالاته المألوفة، يتلوه «تحقّق الإنسان»، على مَبعَدة من اغتراب يمني يلتهم فيه الحطام ما تبقى واقفاً، سأل ملتاعاً كيف تكون روائياً في زمن يذهب فيه اليمن إلى غرق أخير. وصفت/ سردت رواية «رماية ليلية»، الساخرة العنوان، تكامل الفقد وبؤس النسيان، حيث الباحث عما فقد يفقد ذاته وهو ينتظر عودة المفقود، معتقداً أنه عثر على ذاته وعلى المفقود معاً، كما لو كان قد قايض «اليمن السعيد» بمنفى بائس الجوهر، تتوالى أيامه مرتاحة، أو هكذا تبدو، قبل أن يسقط في خلاء من أشواك ونفايات.

عاين زين، في رواياته الأربع الأولى، تاريخاً مقيّداً تُقلق حركته سلطة «تؤبّد ذاتها»، وتصيّر الاستقلال إلى ألغاز متوالية، تُراكم جشعها، وتُطلق النار على أحلام اليمنيين، عاد في روايته «رماية ليلية» إلى «القادة المسوخ» الذين توهّموا أنفسهم قادة، ذات مرة، وحملوا خواءهم المحتجب إلى المنفى، فبدوا عُراة، وظهر فقرهم أكثر عرياً، تأمّل الروائي تاريخاً مخادعاً فتّتَه جشع سلطوي يُحسن الخداع، إلى حين، يسخر منه التاريخ، الذي يكسر عنق القادة المسوخ المأخوذين بأرباح صغيرة، داخل الوطن المفقود وخارجه.

رسم زين لوعة الوطن المفقود، وعنف المنفى، في صورة جمعت بين ذكريات صنعاء البعيدة، وجراح كرامة وطنية، والبكاء على أطلال وطن لم يَعُد وطناً، أطلق صوتاً متشكّياً مختنق الشكوى، أوكل إلى اللغة تبيان الفرق بين الوطن كما يمكن أن يكون، وأرض مقلقة يبيعها مرتزقة إلى مشترٍ يكره اليمن، ويعبث بيمنيين قصّروا عن وعي الوطن والتاريخ والسياسة والسلطة، لكأن اليمن مسرح مهجور ترتع في أرجائه مخلوقات عجيبة غريبة تُحسِن الخراب وتعتبر المسرح عدواً جاء به الكفرة، مخلوقات تتأبّط الكلام، وتحرص على الكلام الفخيم بديلاً عن الفعل الوطني والكرامة الذاتية المهدورة.

استهلّ الروائي الكتابة بقول الشاعر الآيرلندي ييتس: «لا أكره الذين أقاتلهم، ولا أحب من أحرسهم»، مايَز الشاعر المتمرد، الذي تُذكّر قصائده بالفلسطيني محمود درويش، بين عدو مقاتل جدير بالاحترام، ومسؤول متداعي الكرامة يحتاج إلى حراسة.

تناول أحمد زين في روايته عدواً بصيغة الجمع، أعداء يمنيين أقرب إلى المرتزقة، بينهم «سفير أو وزير سابق فارّ، صعب عليه افتقاد الرفاه الذي غمره فجأة، وجنرال عجوز حياته كلها حروب خاسرة، ولم يعدم بعدُ الصفاقةَ ليتكلم عن خطة حربية منتصرة»، حشر بين هؤلاء شيخ قبيلة لم يتبقَ له من نصير، تخلّى عنه الذين يحترمون أنفسهم، يردّد في سرّه: «عز القبيلي بلاده...» (ص: 34).

أشاعت الرواية من صفحتها الأولى فضاءً ناصع السواد، حدّه الأول ألم نازف وفزع مما جاء وسيجيء، وحدّه الآخر موات يُكمله منفى يستدعي موتى أُجّل دفنهم، استجاروا بإخفاق أخير لا يُجير أحداً، وبأمانٍ مؤجّلة كلما اقتربت زادت بُعداً.

تبدأ الرواية بكلمات قابضة: «سرعان ما أطبقت يداك على عنقي»، ما يبتدئ بالشروع بالموت يُستكمل بما ينتسب إليه: «المعاناة، التمزّق، الصراخ، الدم، الاختناق...»، مناخ كابوسي ينفتح على يأس صريح ونظرات تائهة: «غيوم تنزف دخاناً، وجوارح ترتفع في تحليق كسول تحطّ على بقايا حيوانات نافقة وصيحات قبيحة تنمّ عن سأم ونباح ضجر لكلب وأكثر...»، لكأن اللغة ضاقت بتشقّق الوضع اليمني، وقصّرت عن وصفه، والتمست صبراً يحتضن ما لا يمكن احتضانه، أو لكأن رواية الموات المهين تعيّن السرد شخصيةً مسيطِرة تفيض على الشخصيات المحتملة.

أنتجت رواية «رماية ليليّة» خطابها المتأسي، متوسّلة مستويَين؛ أحدهما: تقليدي خادع البساطة، قوامه شخصيات محدودة تُرى ولا تَرى، إذ المتداعي المهزوم لا يمكن القبض على جوهره المتناثر، وثانيهما: رمى بالتقليدي جانباً، وانتهى إلى بنية روائية معقّدة من الإشارات والصور واللغة الطليقة، ومجازات تحايث حكايات ناقصة، وجُملاً معترضة ووقائع صارخة خانها الصوت، واكتفت بتنهّد مخنوق، وشخصيات تحترف الكلام ولا تقول شيئاً.

لا تُقصد شخصيات أحمد زين، في مستواها الأول، لذاتها، بل لما تشهد عليه في منفى مشتّت الأفق، شخصيات مرايا تعكس

مآلها الذاتي، وتعكس أكثر «بقايا» الذين أوصلوها إليه، فالأولى، وهي الأكثر وضوحاً، مذيعة تشهد على «مسؤول» يستغرقه السفر، تلازمه «سكرتيرة» تردّد حركاته، تقاسمه بلاغة الاختراع الكذوب؛ إذ «صنعاء في متناول اليد بعد أيام»، تستهلك المذيعة المفترضة فراغها، ويستهلكها فراغها بعد أن هربت من صنعاء.

أما الشخصية الثانية، وهي أقل حضوراً، فتتذكر أباً رسخت في صدره صورة بطله المصري الأثير، الذي حلم بعروبة منتصرة، تكمل شهادة الشخصية السابقة، تراقب كرنفال الأرواح الميّتة، وترتكن إلى أنوثتها الطاغية، لـ»تحتقر»«مسؤولين كباراً» انصرفوا إلى استهلاك بذيء، وأحلام اختصرت اليمن في سلع غالية الأثمان تافهة الاستعمال.

أنتج السرد الملتفّ على ذاته شخصيات من ظلال، أضاع قوامها، واكتفت بالاستهلاك والكلام، وجسّر بينها بمتواليات من حكايات باكية، تمتد من امرأة يمنية شجاعة افتقدت القيادة ووسائل القتال، إلى يمني يرفع علم بلده بيد مبتورة، وآخر يعطي روحه إلى رفيق غادرته الروح، بعد اليمن الموحَّد يأتي يمن مبدَّد الأوصال، معفَّر بالذل والهوان.

رأى أحمد زين الحاضر اليمني وما سيأتي بعلاقات فنية، تتساند وتتكامل وتقترح وتنتهي، دون أن تنتهي، باجتهاد لغوي حافل بالأسئلة، فـ«الحال»، أو الجملة الحالية، مبتدأ الكلام لا تصف؛ إذ في الوصف حركة، تنفتح على حطام لا ضرورة لوصفه، والأفعال المستقبلية، أو صيغ الاستقبال، لا تشير إلى مستقبل لن يأتي إلا على صورة حاضرة، إنما تقرّر العجز عن الفعل وتصويب الحال. والخبر يسبق المبتدأ الذي غدا من متاع الماضي، والإخفاق الشامل كامل الحضور، يستغرق يمنيين سقطوا في متاهة، يصنع صنعاء تقوّضت، وأحجاراً حالت ألوانها، وأناشيد يمنية سقطت في الطريق.

يكتفي السرد الروائي بالشظايا، أكانت شخصيات أم حكايات، فمن العبث حضور السليم في فضاء من حطام، ومن العبث أكثر الأخذ بسرد خطّي قوامه بشر يعرفون مصيرهم؛ لذا تأتي الشخصيات مشظّاة، ويكون مسارها مرصوفاً بالشظايا، يستولده منفى، ويصادر حركته منفى لاحق، يخفق في أرجائه إخفاق شامل يُنهى عن الحركة، لا تتبقى إلا الذكرى التي تسكن الشخصيات وأفعالها، ذكريات مستقرة عن يمن لن يعود، بعيداً عن التذكر الذي يلازمه فعل محتمل، ولعل سقوط الشخصيات في ذكريات مستقرة؛ ما يختصرها في أقنعة متناظرة، تتبادل جملاً ناقصة، تتذكّر ولا تحلم، وتنتقل من تلعثم كسيح إلى وعود مؤجّلة.

تتضمن «رماية ليليّة»، في كثافتها المدهشة، أبعاداً تاريخية وسياسية وأيديولوجية واجتماعية، تُنصت إلى التاريخ القريب، وأصوات القبائل والمظاهرات الحالمة السابقة.

عمل زين على تجسيد «علم جمال الخسارة»، الذي أنجز عملاً لغوياً متفرداً، قدّم شهادة عن الخسران الكامل، شهادة ترثي وطناً كان، وتستبقي آثاره المتبقية في لغة تدوم، كأن المصائب الكبرى تأتي، أحياناً، بشهادات أدبية كبرى تضيف إلى الإبداع الأدبي العربي أبعاداً غير مسبوقة، وتصرخ عالياً بأنها «تحترم الأعداء الذين يدافعون عن قضاياهم، وتحتقر موتى يحرسون موتى أعلى رتبةً، ساقوهم إلى الموت والمنفى».

برهن أحمد زين على أن الوقائع الوطنية الكبرى، التي تلازمها الخسارة، تستولد وقائع أدبية كبرى، ترد على الخسران الوطني بالإبداع الأدبي، ولا تعد بشيء، في عمل روائي هامس التوثيق مبدع الكتابة ترجم زين مأساة اليمنيين داخل اليمن وخارجه، وأومأ إلى واقع عربي منخول العظام، تتصادى فيه أصوات عرفت الخراب الشامل وتحذّر منه.

*ناقد وباحث فلسطيني.

عاجل المحكمة العليا الأميركية ترفض قرارا قضائيا برفع الحصانة عن ترمب بقضية أحداث الكابيتول